بعد 5 أيام في عمق الصحراء الافريقية

‎خمسة أيام…

‎خمسة أيام من السير تحت شمس تذيب الجلد، ورياح تحمل معها رائحة العظام القديمة.

‎الماء صار أكثر قيمة من الأرواح، والطعام كان يُحسب باللقيمات، والعيون التي كانت تلمع بالحماسة في اليوم الأول أصبحت الآن باهتة، تحاول فقط أن تصل.

‎لكننا وصلنا.

‎هناك، وسط هذا الفراغ اللامتناهي من الرمال، ارتفع أمامنا كابوس معماري لا ينتمي لهذه الأرض… مستشفى؟

‎لا… لم يكن مستشفى عاديًّا، بل قصر هائل، أسود، جدرانه العالية مغطاة بشقوق كالندوب، نوافذه ليست زجاجًا بل فراغات سوداء تبتلع الضوء.

‎كان أكبر من أي مبنى رأيته في حياتي، وكأنه بُني لا ليعالج، بل ليحجز شيئًا لا يجب أن يرى النهار.

‎حين اقتربنا، سقط الصمت على القافلة كلها.

‎حتى الرياح بدت وكأنها تحبس أنفاسها.

‎ثم… تحركوا.

‎من الظلال التي تلتصق بجدران القصر، خرجوا صفًا بعد صف.

‎رجال القبعات.

‎أجساد طويلة، أكتاف عريضة، يرتدون عباءات سوداء، وعلى وجوههم أقنعة معدنية سوداء بالكامل، بلا ملامح، بلا فتحات للعيون… مجرد قناع أملس، لكنك تشعر أن هناك أعينًا خلفه تحدق بك حتى داخل عظامك.

‎وقفوا هناك، أكثر من خمسين رجلًا، مصطفين وكأنهم جدار من لحم وحديد، لا يتحركون، لا يتنفسون بصوت مسموع.

‎كل واحد منهم يمسك عصًا سوداء طويلة، منتهية برأس معدني غريب الشكل، يشبه مزيجًا بين مطرقة وسكين.

‎كان سون هو أول من تقدّم.

‎خطواته لم تتردد، لكنني كنت أرى عضلات فكه مشدودة.

‎ثم، بصوت عميق ومشوه من خلف أحد الأقنعة، تكلم أحد رجال القبعات:

‎> "المختبرون… تأخرتم."

‎لم يكن صوته طبيعيًّا، بل وكأنه يخرج من داخل بئر، مشبع بصدى ثقيل.

‎سون لم يرد، فقط أومأ برأسه، وكأن أي كلمة زائدة هنا قد تُفهم كإهانة.

‎فتح الصف الأول من رجال القبعات الطريق، مكوّنين ممرًا ضيقًا بين جدارين من الأجساد السوداء.

‎حين مشينا بينهم، كان إحساسي أنهم لن يترددوا في إغلاق هذا الممر علينا وقطعنا إربًا إذا لزم الأمر.

‎أبواب القصر ــ أو المستشفى ــ كانت من الحديد السميك، محفورة عليها رموز إفريقية قديمة، تلتف حول بعضها مثل الأفاعي.

‎وحين دفعوها، صدر صوت صرير حاد، كأنها لم تُفتح منذ مئة عام.

‎دخلنا.

‎الداخل كان أسوأ من الخارج.

‎رائحة العفن والدم الجاف ضربتنا فورًا، والجدران، رغم الظلام، كانت مغطاة بكتابات حمراء، بعضها كلمات مفهومة، وبعضها مجرد خطوط ملتوية تشبه الرسوم الطلسمية.

‎الأرضية من الرخام الأسود، لكن عليها بقع داكنة… لم تكن كلها قديمة.

‎رجال القبعات أحاطوا بنا من الداخل أيضًا، يقودوننا في ممرات طويلة بلا نوافذ، حيث لا تعرف هل الوقت نهار أم ليل.

‎كلما تقدمنا، كان الهواء يزداد ثِقلاً، وكأننا ننزل في عمق البحر لا في مبنى.

‎بعد مسافة طويلة، فتحوا لنا قاعة ضخمة، في وسطها منصة حجرية دائرية، عليها أصفاد صدئة مثبتة بالأرض، وحولها أدوات جراحية قديمة، وبعضها ملطخ بما بدا أنه دماء لم تجف تمامًا.

‎المفاجأة لم تكن في الظلام ولا في الرائحة التي تشبه اختلاط الدم بالعفن… بل في الوليمة.

‎وسط القاعة الأولى، كانت الطاولات الطويلة ممتدة، تعج بالأطعمة والماء والفواكه، كأن المستشفى قرر أن يضحك في وجوههم قبل أن يعضّهم.

‎اللحم البني المحمر يتصاعد منه بخار عطِر، الخبز الطازج يلمع من دهنه الذهبي، قلال الماء تعكس ضوء المشاعل، والفواكه تلمع بألوان كأنها مسروقة من سوق مدينة بعيدة.

‎البعض انقض على الأكل، يملأ فمه قبل أن يسأل من أين جاء الطعام، والبعض الآخر ظل واقفًا، يراقب بحذر، كأنهم يتوقعون أن يتغير شكل اللقمة في أفواههم.

‎بعد أن خفت همهمة الجوع، وقفت بلاك داون.

‎عباءتها السوداء الطويلة تسحب ظلها على الأرض مثل لسان من دخان، ووجهها نصفه في الضوء ونصفه الآخر يبتلع النور.

‎حين تكلمت، كان صوتها ثابتًا لكنه يحمل ارتعاشة في نهاياته، ارتعاشة يعرفها من جرّب المشي على حافة سكين.

‎> "هذا المستشفى… ليس مكانًا للشفاء.

‎إنه مستشفى روحي… يعج بالأرواح التي لم تنم منذ مئات السنين.

‎وهو أحد أكبر خمس بوابات للأرواح في العالم."

‎كلمة "بوابة" وحدها كانت كافية لتجعل بعض المختبرين يحدقون في الأرض، يتخيلون ما قد يعبر من خلالها.

‎رفعت بلاك داون يدها:

‎> "قبل أن أشرح الشروط والقوانين، هناك من يجب أن تعرفوه."

‎من جانب القاعة، تقدمت امرأة طويلة القامة، خطواتها بطيئة لكن كل خطوة كانت تترك أثرًا على الأرض كأنها تخططها بقلم أسود غير مرئي.

‎ملابسها بسيطة لكن عينيها كانتا تحويان شيئًا غريبًا… شيئًا يجعل الشخص يشعر أنه يضيع وهو واقف في مكانه.

‎> "هذه هي السيدة مين، عضوة من فرقة بيغ وان."

‎بجانبها، ظهر رجل نحيل، جلده شاحب حتى كاد يشفّ، شعره رمادي قصير، ويداه معقودتان خلف ظهره كأنه يقف في جنازة يعرف أنها ستطول.

‎حين نظر إلى الحشد، كان إحساس الجميع أنهم مجرد أشياء يختبرها، لا بشر.

‎> "وهذا السيد إيرلي، معلم في المنظمة… وخبير في إيقاظ الأرواح."

‎تبادل بعض المختبرين النظرات، ولم يكن بينهم من يحب كلمة "إيقاظ".

‎تنفست بلاك داون بعمق، ثم قالت:

‎> "الشروط بسيطة… بمساعدة فرقة رجال القبعات، سيتم إيصال كل واحد منكم إلى قسم من أقسام المستشفى."

‎سكتت للحظة، وكأنها تريد أن تتأكد أن الجميع يسمع.

‎> "القانون… هو أن تجد مخرجك من القسم."

‎رفع غاندي حاجبيه وقال بثقة ساخرة:

‎> "إذا، سأسحق الجدار وأخرج… سهلة."

‎قبل أن يكتمل صوته، كانت يد آلما قد هبطت على مؤخرة رأسه.

‎> "أيها الأحمق، قلت لهم فكرة الهروب علنًا!"

‎ضحكت بلاك داون، لكنها لم تكن ضحكة دافئة… كانت ضحكة شخص يراقب فأرًا يسقط في فخ.

‎> "أحسنت يا غاندي… تلك فكرة كانت ستنجح، لو كنت في بيتك وأمك هي المشرفة.

‎لكن المشرفة هنا هي بلاك داون… والسيدة مين لديها مهارة المتاهة."

‎أشارت إلى مين، التي ابتسمت بهدوء، ابتسامة قصيرة جدًا لكنها جعلت بعض المختبرين يتراجعون خطوة للخلف.

‎> "بمعنى… أنها تستطيع أن تغيّر جدران المستشفى كما تشاء.

‎لن تجد خلف الجدار مخرجًا، بل ستعود إلى نفس المتاهة التي أنت فيها.

‎كل شخص يدخل قسمًا، سيتحول قسمه إلى متاهة واحدة… فيها باب واحد فقط، مخفي، ينتظر من يكتشفه."

‎ثم التفتت إلى السيد إيرلي:

‎> "أما السيد إيرلي… فسيوقظ الأرواح بمهارته."

‎ابتسم إيرلي ببطء، وقال بصوت خافت لكن كلماته كانت كالإبر:

‎> "بمعنى… أنكم، إلى جانب العثور على الباب، يجب أن تقتلوا الأرواح الموجودة في القسم."

‎وهنا… سقط الصمت على القاعة، وكأن الهواء نفسه توقف ليستمع.

2025/08/06 · 2 مشاهدة · 1020 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025