بدأت اللحظة التي لا رجعة منها.
رجال القبعات تحركوا مثل آلة سوداء ضخمة، لا كلمة، لا تردد.
يدٌ تمسك بذراع، أخرى تدفع من الكتف، والخطى تُساق نحو الأبواب المعتمة التي تبتلع من يدخلها.
الأطفال، الفتيان، الشبان… لا أحد استثني.
بعضهم حاول المقاومة، لكن أيادي رجال القبعات كانت كأقفال فولاذية تُغلق على المعصم، لا تنكسر، لا تلين.
الممرات الضيقة داخل المستشفى بدت وكأنها تلتهمهم واحدًا تلو الآخر.
وفي الأعلى، فوق كل ذلك، كان المشرفون يغادرون القاعة الرئيسية متجهين نحو غرفة المراقبة… الغرفة التي أُعدت منذ أيام، مجهزة بجدران ممتلئة بالشاشات، كل شاشة تلتقط زاوية من أقسام المستشفى.
الكاميرات لم تكن طبيعية، بعضها كان يلتقط حتى الظلال، وبعضها يرصد حرارة الجسد، وبعضها… بدا وكأنه يرى ما وراء اللحم.
الهواء في غرفة المراقبة كان مشحونًا، مثل سلك كهربائي يصرّ تحت ضغط التيار.
وقف المشرفون صفًا خلف المقاعد المخصصة، أعينهم على الشاشات، وجوههم ثابتة، وكأنهم يشاهدون مسرحية يعرفون نهايتها مسبقًا، لكنهم يتظاهرون بالترقب.
مرّت ساعة… ساعة كاملة من الضجيج المكتوم داخل الممرات، قبل أن تضيء جميع الشاشات دفعة واحدة.
الآن… كل مختبر في مكانه.
كل واحد محاصر بجدران باردة، ينتظر بداية شيء لم يختبره من قبل.
بلاك داون، بعينيها السوداوين، التفتت نحو شيماء التي كانت تقف في زاوية الغرفة، وكأنها تنتظر إشارة منذ البداية.
> "حان الوقت."
خطت شيماء إلى وسط الغرفة، وبهدوء أخرجت نفسًا عميقًا، قبل أن تتفجر منها هالة صفراء غامقة، أشبه بدخان ثقيل مضيء، بدأ يزحف في الهواء ثم يتجمع أمامها.
الهالة راحت تدور وتلتف، تتشكل ببطء… حتى ظهر المستشفى بأكمله، مجسمًا ضخمًا ينبض وسط الغرفة، نسخة روحية كاملة من الجدران والممرات والغرف التي تحتنا.
أصابع شيماء ارتجفت للحظة، ثم رفعت يدها اليمنى، وقالت بصوت هادئ لكنه اخترق العظام:
> "المتاهة."
ما إن لفظت الكلمة، حتى بدأ المجسم يتوهج، والهواء في الغرفة اهتز كما لو أن المستشفى نفسه استيقظ.
في نفس اللحظة، في كل قسم من أقسامه، بدأت الجدران تتحرك.
أصوات طحن الحديد على الحجر، وانزلاق الجدران الثقيلة، وصرير المفاصل الميكانيكية التي لا وجود لها.
المختبرون تجمدوا في أماكنهم، عيونهم تتسع وهم يرون الأبواب تختفي، والممرات تتغير، والزوايا تبتلع نفسها.
الصوت كان هائلًا… مزيج بين زئير حيوان ضخم وانهيار مبنى كامل.
ثم، فجأة، كما بدأ… صمت كل شيء.
الصمت الذي خيّم بعد تشكل المتاهة لم يدم طويلًا.
من طرف الغرفة، تحرك السيد إيرلي، خطواته هادئة لكن الهواء أمامه بدا وكأنه ينكمش ليفسح له الطريق.
وقف وسط الضوء الباهت، وأغلق عينيه، ثم بدأ يتمتم…
كانت الكلمات ليست من لغة البشر.
حروفها كالسكاكين، تقطع السكون إلى شرائح، وتترك رائحة حديد صدئ في الفم.
مع كل جملة، كان صوته يهبط أعمق… أعمق، حتى بدا وكأنه يأتي من مكان أسفل الأرض.
ثم… فتح عينيه.
لم تعدا عينين بشريتين، بل بياض كامل، بلا حدقة، بلا بؤبؤ، كأن النظر إليهما يعمي القلب قبل البصر.
رفع يده اليمنى ببطء، وتفتحت أمامه دائرة سحرية… خطوطها تتوهج بضوء أزرق باهت، مرسومة بأشكال لم تُرسم من قبل على هذه الأرض.
خلفها… ظهرت دائرة ثانية، أكبر وأشد توهجًا، ثم ثالثة… حتى صار أمامه ممر من الدوائر السحرية يمتد في الفراغ.
مد إيرلي يده إلى داخل الأولى… الثانية… الثالثة… حتى وصلت أصابعه إلى آخر دائرة، وهناك توقف لحظة، والعرق يقطر من جبينه، لكنه لم يتراجع.
بصوت كالصاعقة، لفظ كلمة واحدة:
> "تـــحــــرر."
انطفأ كل الضوء فجأة… ثم عاد، لكن معه شيء آخر.
شعور كأن جدران المستشفى أصبحت تتنفس.
الهواء صار أثقل، وأصوات خافتة بدأت تتسرب من الممرات، أصوات لم تكن لخطوات بشر… بل لخدوش، وزحف، وهمسات تضحك دون سبب.
ابتسم إيرلي ابتسامة باردة، وأسقط يده بجانبه، كأنه أفرغ طاقة كانت تحترق بداخله منذ سنين.
في تلك اللحظة، أمسكت بلاك داون بالبوق النحاسي الكبير المعلق في وسط الغرفة، ورفعته إلى فمها.
دوّى صوته في أرجاء المستشفى، ارتد في الجدران، واختلط بهتافات الموتى.
> "الاختبار… بــــدأ."
دوّى صوت البوق في كل زاوية من زوايا المستشفى.
على الشاشات، بدأنا نرى المختبرين يتلفتون حولهم… بعضهم رفع قبضتيه فورًا، البعض الآخر سحب أسلحته، وهناك من اكتفى بفتح مهارته فورًا، وكأنه يعرف أن التأخير يعني الموت.
في القسم الشرقي…
"غاندي" كان أول من تحرك.
فتح راحتيه وأطلق شرارات زرقاء صغيرة من أصابعه، مهارة القبضة الصاعقة، ثم بدأ يركض بين الممرات، يختبر سرعة قدميه، وهو يعلم أن القوة الجسدية وحدها لا تكفي إذا كان العدو لا يملك لحمًا لتضربه.
لكن ما إن انعطف في الزاوية حتى وجد نفسه وجهًا لوجه مع روح طويلة القامة، بلا وجه، وعظام أصابعها تخرج من أطراف يديها مثل السكاكين.
ابتسم، لأنه يحب هذا النوع من القتال…
في القسم الجنوبي…
"ساكورا" وقفت ثابتة، تغلق عينيها، ثم فتحتها فجأة، ليشتعل حولها وهج أحمر دموي، مهارة عين الشبح، التي تسمح لها برؤية حركة الأرواح قبل أن تهاجم.
خطت للأمام، وركلت بابًا حديديًا حتى تطاير ، ثم اندفعت إلى الداخل، عضلات ساقيها تتحرك بانسجام مع نصل قصير تمسكه في يدها اليمنى.
هي تعرف أن مهارتها لا تقتل… لكن جسدها قادر على ذلك.
في القسم الشمالي…
"راشيد" كان يتحرك ببطء، يضع يده على الحائط، يترك أصابعه تمر فوق الشقوق، قبل أن يضغط فجأة، فتخرج من جلده طبقة صخرية رمادية، تغطيه من الرأس حتى أخمص القدمين.
مهارة جلد الصخر، مزيج مثالي بين الدفاع ورفع قوة الضربات.
لم يكن يهتم بالممرات أو المتاهة، كان ينتظر أول روح تقترب… ليسحقها بقبضته.
وفي القسم الغربي…
"سيمو" لم يستخدم مهارته فورًا، بل اعتمد على سرعة جسده، يركض، يتسلق الجدران، يختبئ خلف الزوايا، يراقب حركة الأرواح من بعيد.
مهارته، سهم الظل، قاتلة… لكنها تحتاج لوقت كي يشحنها، والوقت داخل هذه المتاهة أغلى من الدم.
على الشاشات، بدأنا نرى أولى لحظات الاصطدام:
– غاندي يضرب بقبضة صاعقة، فتتناثر أشلاء الروح في الهواء قبل أن تتجمع مرة أخرى خلفه.
– ساكورا تشق رأس شبح إلى نصفين، لكن الظلال على الأرض بدأت تتسلق ساقيها.
– راشيد يسحق ثلاثة أرواح بضربة واحدة، لكن اثنين آخرين يقفزان على ظهره.
– سيمو، من بعيد، يطلق أول سهم ظل فيصيب روحًا بين العينين، فتسقط دون أن تصدر صوتًا.
بلاك داون، وهي تراقب، قالت بهدوء:
> "القوة الجسدية ستنقذهم أولًا… لكن المهارات هي التي ستبقيهم أحياء."
إيرلي ابتسم ابتسامة باهتة، وكأنه يعرف أن هذه لم تكن سوى بداية… الأرواح التي استيقظها لم تكن كلها قد خرجت بعد.