باريس

‎في قلب القاعة التي لا تعرف ضوء النهار، حيث تحكم الظلال كل زاوية، كان الهواء ثقيلاً كأنه يمتزج بعطر الموت.

‎إيفا وقفت وسط دوائرها السحرية، محاطة بجبال من الرموز القديمة المرسومة بالحبر الأسود، تنبض كأنها كيانات حية.

‎وسط هذا الجنون، كانت الجثة المشوهة التي لا يُمكن تسميتها إلا "مغارة الأسرار"، تحيط بها رؤوس بشرية مقطوعة جديدة، من دون صراخ، لكن الدماء كانت تتراقص على الأرض وكأنها ترتجف من شعور قديم.

‎أغمضت إيفا عينيها، همست كلمات قديمة، لا يمكن لأي لسان بشري أن ينطقها دون أن يشوه ذاته، وتفتحت شفتيها كأنها ترنم لحنًا سماويًا أسود.

‎كأن الرياح نفسها توقفت لتمتص هذا السحر، فتضاءلت كل الأصوات، وبدأت الأرض تحت الجثة تصدر أصداء بطيئة، كأنها تئن من عبء ذاكرة قديمة.

‎في ذهن إيفا، انفتح شريط زمني عظيم… صور مشوشة لأحداث أقدم من زمن التاريخ الموثق، لكنها محفورة في الأرواح.

‎المصريون القدماء: ملوك لم يناموا أبدًا، جثثهم ترتدي الأقنعة الذهبية، عادت للحياة عبر رموز الحياة الأبدية، تجسد فيها الأرواح كخدم لا يكلون.

‎السومريون: الذين استدعوا آلهة خفية من أعماق الأرض، وأعادوا الكائنات التي انقرضت بدماء ملعونة، ما بين البشر والآلهة، تراقب السماء بنظرات لا تفهم الزمن.

‎الإغريق: في أعماق كهف أوديبوس، حيث حُفظت تعاويذ "العودة" الأكثر قسوة، أرواح محاربين لا تموت، تجوب الأرض للانتقام.

‎الصينيون القدماء: سحرة القصور الإمبراطورية الذين نسجوا شبكات من الطلاسم، فتحت بوابات إلى عوالم الظلام، وأعادوا أبطالًا بقلوب حجرية.

‎العصور الوسطى الأوروبية: سحرة الرهبان الذين استدعوا الأرواح من نيران الجحيم، وأعادوا الموتى بعقول متشققة تحت سيطرة لا ترحم.

‎كل تلك الأرواح، كل تلك الطقوس، كانت مجرد مداخل صغيرة مقارنة بما كان يحدث الآن.

‎الجثة في وسط القاعة لم تكن مجرد جثة، بل مجموعة من الأرواح المحاصرة، كل رأس من الرؤوس المقطوعة يحمل قطعة من قوة كانت تُبث في العصور الماضية.

‎الرموز التي ترسمها إيفا ليست فقط خطوطًا أو حروفًا، بل شرايين من السحر، تنقل طاقة من عوالم مظلمة لا تُحصى، تخرج منها أصوات همسات كأنها آلاف الأرواح تتحدث بلغة ضياع.

‎وجهها نصفه مضيء بنيران مخفية تحت الجلد، عيناها تشعان بحزن قاسي وقوة قاتلة.

‎حركات يدها بطيئة لكنها قوية، كل إيماءة منها تضاعف من قوة الدائرة، والأحرف تتوهج بألوان تتغير بين الأحمر، البنفسجي، والأسود الدامي.

‎الجثة بدأت تتشنج، أنفاسها تُسمع بصعوبة، لكنها ليست أنفاس بشرية.

‎الدماء على الأرض بدأت تتجمع، كأنها تحاول العودة إلى مصدرها، وأصوات صرخات خافتة بدأت تخرج من كل رأس، تُقلب القاعة إلى مسرح مظلم للحياة والموت.

‎فجأة، أطلقت إيفا صرخة تحمل في طياتها عذابات ألف عام، والدوائر من حولها بدأت تتلألأ بتوهج قاتل، تحولت الأرواح داخل الجثة إلى وميض متقطع، ينساب في القاعة كالنار التي تأكل نفسها.

‎المكان اهتز، وكأن الأرض نفسها تريد أن تنهار، لكن إيفا كانت ثابتة، كأنها الجسر الوحيد بين عالم الأحياء وعالم الأموات.

‎ثم، من الظلام الحالك، خرجت ظلال عملاقة تتلوى كالثعابين في بحر من الظلال، إلى أن تجسدت أربع قامات كأنها أعمدة رعب لا تُقهر.

‎هم الأربعة…

‎الملك الأول، ذا رأس مشوه كأنه مغطى بحراشف سوداء لامعة، عيناه تشعان بلون دم متجمد، يفوح منه رائحة الموت البارد.

‎الملك الثاني، جسده نصفه إنسان، ونصفه الآخر مفترس حيوان برأس ضباع مجنحة، فكيه يقطر سمًا كالدم الأسود.

‎الملك الثالث، يرتدي درعًا من عظام البشر، كل قطعة منها تحمل نقوشًا بلغة لا يفهمها سوى من دخل الجنون، عيونه فارغة مثل قبور مهجورة.

‎الملك الرابع، طوله يفوق أي مخلوق، جسده محاط بدخان أزرق سام، يترك وراءه أثرًا من الجليد المحترق، ووجهه مشوه بألوان النار والظل.

‎وقفوا جميعًا حول بان، ينظرون إليه كملك جديد يستحق إكليل العذاب.

‎من تحت الأرض، انبعث صوت معدني عميق، وكأن الأرض نفسها تصرخ بألم دفين.

‎انشقّت الأرض أمام الأربعة، وارتفع من باطن القاعة قفص ضخم، مصنوع من قضبان سوداء متشابكة، تتلألأ برموز قديمة محروقة في المعدن.

‎الضوء داخل القفص كان قاتمًا، ينبعث منه هالة غامضة تلتهم كل لون في القاعة، وكأنها ابتلاع للحياة نفسها.

‎بمجرد أن وقف بان داخل القفص، بدأ الظلام يلفه، وكأن هذا القفص ليس فقط حبسًا، بل بوابة لطاقة عميقة لا تُفهم.

‎بعد لحظات صمت ثقيل، ابتلع الظلام الأربعة الملوك، والقفص، وبان، واختفوا في سحب دخان كثيفة، تاركين القاعة خاوية على عروشها، إلا من همسات الأرواح التي تهمس بعبارات لا يسمعها سوى من يملك عين الحقيقة.

‎في لحظة لا يُمكن التنبؤ بها، ارتفعت الجثة ببطء، هزت كل رأسٍ على كتفها، ثم أُغلقت العيون.

‎الصمت امتد، ثم انفتح فم الجثة في صوت غريب، نصفه صدى الماضي ونصفه وميض الحاضر.

‎بان لم يكن مجرد رجل عاد للحياة، بل كيان يحوي قوة كل تلك الأرواح والرموز، قوة لا يمكن كبحها، وألم لا ينطفئ.

‎إيفا وقفت، ترمش ببطء، نظرت إلى بان كما لو كانت ترى شخصًا لا يستطيع أحد أن يوقفه، ثم همست:

‎> "ها هو يعود… بدون ذكريات، بدون رحمة.

‎هذه المرة، ليس فقط عدوك من سيخاف، بل كل من يفكر في الوقوف أمامه."

‎وفي الظلام، كانت الظلال تتحرك، والهمسات تزداد…

‎وإيفا، في قلب القاعة، كانت تعرف أن هذا مجرد بداية.

2025/08/06 · 3 مشاهدة · 820 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025