مع طلوع فجر اليوم الثاني، لم يكن الضوء هنا مثل أي ضوء آخر…
أشعة الشمس لم تصل إلى المستشفى، بل كان الفجر نفسه يبدو وكأنه مشوه، محاصر بين جدران رمادية، تختلط فيها الظلال مع الصدى البعيد لخطوات مجهولة.
المتاهة كانت حية.
لا جدرانها ثابتة، ولا أرضيتها مأمونة.
كل حجر فيها يتنفس، كل ممرّ يتغيّر حين تُدير ظهرك.
الأطفال… أولئك الذين جاءوا للامتحان، لم يعودوا كما كانوا بالأمس.
أعينهم زجاجية، أرواحهم تتأرجح بين اليقظة والحلم، بين الخوف والغضب، وكأن شيئًا ما يتلاعب بخيوط عقولهم.
لم يبدأ القتال بأمرٍ من أحد… بل بدأ لأن الهلوسة قررت ذلك.
أول صرخة جاءت من ممرّ ضيق، حيث اندفع طفل ذو شعر فوضوي، عيناه تحترقان بضوء بنفسجي، يده اليسرى تحولت إلى شيء يشبه فم وحش مليء بأسنان من العظم، يعض الهواء بشراهة.
خصمه كان فتاة صغيرة، لكن فوق رأسها يطفو تاج من الظلال، يتحرك كأنه مخلوق حي، يمدّ خيوطه السوداء حول الجدران، يلتف حول رقبة الطفل، ويشدّ بقوة حتى بدأ يتقيأ الدم.
في ممر آخر، كان طفلان يركضان هربًا، لكن الهلوسة جعلت أحدهما يرى الآخر على هيئة وحش بلا وجه، يحمل سيفًا من لحم نابض.
لم يتردد، رفع يده وأطلق مهارة غريبة…
عينٌ بشرية عملاقة خرجت من كتفه، أخذت تبكي دمًا، وكل دمعة تسقط كانت تتحول إلى رصاصة روحية تخترق الجسد بلا صوت.
الآخر، مذعورًا، مدّ يده إلى فمه وأخرج منها سلسلة طويلة مصنوعة من ضلوعه، استخدمها كالسوط، كل ضربة تُحدث شقًا في الهواء نفسه، وتجعل الجدار يتلوى كالأفعى.
الجدران من حولهم تتبدل، تتحول الممرات إلى أفواه، والسقف يقطر سوادًا لزجًا يسقط على الأكتاف، وكل نقطة منه تهمس باسمك بصوت أمك، لكن عندما تلتفت… ترى وجوهًا لا تنتمي للبشر.
في الطابق السفلي من المتاهة، كان ثلاثة أطفال يقاتلون بعضهم في حلقة دائرية…
واحد يطلق من صدره طيورًا من العظام، كل طائر يصرخ باسم الضحية قبل أن ينفجر،
الثاني زحف على الأرض، وظهره ينبت منه يدان عملاقتان تمسكان الأرض وتطويانها كقطعة قماش،
أما الثالث… فكان يبتسم ابتسامة باردة، يمد يده، وكل من تلمسه يختفي من الوجود، كأنه لم يولد قط.
صرخات، ضحكات هستيرية، حوافر الأرواح وهي تركض على الجدران، أصوات لعنات تتحدث بلغات منسية…
المتاهة لم تكن سجنًا فقط، كانت كابوسًا يكتب نفسه كل ثانية، ويجبر الجميع على أن يكونوا جزءًا منه.
وفي مكان بعيد، في غرفة المراقبة، كانت العيون تراقب كل شيء بصمت…
لا أحد أراد التدخل…
فالمتاهة هذه المرة، كانت المعلمة.
الهزات بدأت تتصاعد…
الأرض تحت أقدامهم لم تعد صلبة، بل تحولت إلى أنفاس دافئة تخرج من شيء حيٍّ تحتهم، وكأنهم يسيرون على صدر كائن عملاق نائم منذ آلاف السنين.
ومن الظلال، خرجت الأرواح…
لم تكن أشباحًا شفافة كما في الحكايات، بل كانت خليطًا من لحمٍ مهترئ وعظام غريبة، بعضها يزحف على أربع، وبعضها يمشي على مائة ساق نحيلة كأعمدة الخيزران، وأعينها… مئات العيون، كلها تحدق في الضحية نفسها.
طفل نحيل كان يصرخ، لكن روحه خرجت من فمه على هيئة دخان أزرق، قبل أن تلتف عليه روح ذات وجهين، أحدهما يبكي والآخر يضحك، وتبتلعه ببطء، تاركة جسده يتحرك بلا وعي ويهاجم من حوله كدمية مكسورة
في أحد الممرات، التقت ثلاثة أرواح بفتاة ذات أصابع طويلة تتحول إلى إبر، كل وخزة منها تزرع كابوسًا في عقل الضحية، تجعلهم يرون أسوأ ذكرى في حياتهم وكأنها تحدث من جديد، ثم تقطع الاتصال بالعالم الحقيقي.
الأرض نفسها بدأت تهاجم…
شقوق واسعة تنفتح، منها تخرج ألسنة سوداء، تلتف حول الأرجل وتشدّ الضحايا إلى الأسفل، إلى عمق لا قاع له، بينما الحوائط تنكمش، تضغط الأجساد حتى تُسمع طقطقة العظام.
الدماء اختلطت بالظلال، والظلال ابتلعت الصرخات، ولم يعد أحد يميّز بين العدو والصديق، الكل يقاتل الكل، الكل يركض من شيء لا يفهمه.
وفي الطابق العلوي، داخل غرفة المراقبة، جلست بلاك داون على مقعدها، أصابعها تضرب الطاولة بلا توقف، وعيناها تتابعان الشاشات التي تعرض مشاهد المتاهة…
شهقت بصوت منخفض، ثم أطلقت زفيرًا ثقيلاً وهي تميل إلى الخلف:
> "لا أحد… لا أحد منهم اقترب حتى من المخرج."
أدارت وجهها بعيدًا عن الشاشات، كأنها لم تعد تريد رؤية ما تبقى…
فالاختبار لم يعد اختبارًا، بل أصبح مقبرة مفتوحة.
في اللحظة التي وضعت فيها بلاك داون رأسها بين يديها، انطفأت كل الشاشات دفعة واحدة…
ظلام تام.
لا صورة، لا صوت، لا شيء سوى همهمة خافتة قادمة من أعماق المستشفى.
وفجأة… ارتج المبنى بأكمله، حتى جدران غرفة المراقبة اهتزت، وتحتها ارتفعت طاولة المراقبة ببطء، كما لو أن شيئًا تحت الأرض يدفعها.
في الداخل، داخل المتاهة، شعر الأطفال بانهيار العالم من حولهم.
الجدران بدأت تنكمش ثم تتمدد بشكل متسارع، الأرضية انقسمت إلى بلاطات مربعة تتحرك لأعلى وأسفل، وكأنهم على رقعة شطرنج حية، وكل حركة خاطئة تسقطك في فراغ يبتلع الصوت قبل الجسد.
لكن الأصعب لم يكن الأرض أو الجدران…
بل "القانون الجديد" الذي همس في آذان الجميع، صوت واحد غريب، كأنه يتحدث من جوف الجمجمة:
> "القسم تغير… لن تجد الباب إلا إذا سلمت روحك لغيرك."
وعند تلك اللحظة، بدأت لعنة جديدة.
كل من يقترب من الآخر، يشعر بجاذبية روحية تسحب جزءًا من عمره، كأنك إذا وقفت قرب أي شخص، فإنك تهديه عامًا من حياتك رغماً عنك.
وبعض الأطفال أدركوا القاعدة متأخرًا… فبدأوا يهاجمون بلا رحمة حتى يسرقوا أعمار الآخرين قبل أن تُسرق أعمارهم.
من بين الأرواح التي ولدت في المستوى الجديد، كانت هناك كائنات أشبه بعرائس مكسورة، مفاصلها تدور بزاوية 360 درجة، تضحك بلا توقف، وكل ضحكة تفتح بابًا في جسد الضحية يخرج منه نور أحمر… ثم لا يعود أبدًا.
في الممر الغربي، الأرضية لم تعد صلبة، بل صارت سطحًا من زجاج أسود يعكس أسوأ نسخك، وتلك النسخة تبدأ بالتحرك من تلقاء نفسها، تخرج من المرآة وتحملك مكانها.
أما على الحواف البعيدة من المتاهة، كان هناك جدار واحد… جدار ضخم مغطى بعيون حمراء، يراقب كل خطوة، وكلما حاول أحدهم الابتعاد، تتفتح العيون وتبصق موجة من صراخ جماعي، صراخ يذيب العظم من شدته.
بلاك داون، التي كانت في غرفة المراقبة، عادت الشاشات أمامها لكن بشكل مشوه، الصور تتقلب بين لقطات سريعة، الوجوه مشوهة، وأسماء المختبرين تختفي من القوائم واحدًا تلو الآخر.
همست وهي تبتسم بمرارة:
> "المستوى الثاني… لم أظن أن أحدًا سيعيشه."