باريس…

خلف أضوائها، خلف الضجيج والمقاهي وأصوات الأوتار في الأزقة القديمة… هناك جبال نسيها البشر، لكنها لم تنسَهم.

‎جبال صامتة، كأنها جدرانٌ تبقي العالم في مكانه.

‎اليوم… هذا الصمت على وشك أن يتحطم.

‎كانت الشمس تحترق في السماء، لكن الرياح هنا باردة، قادمة من أعالي القمم المغطاة بالثلج.

‎الجبل الذي يقف عليه الآن… ليس جبلًا عاديًا.

‎وجهه الصخري قاتم، حوافه حادة كالسكاكين، وصخوره مغطاة بشقوق عميقة تشبه الندوب.

‎كأن الطبيعة نفسها خاضت معركة هنا… وخسرت.

‎في منتصف هذا المكان… وقف رجل.

‎تشاي أودجين.

‎لم يكن يرتدي سوى سروال بسيط، قدماه حافيتان على الحجارة الباردة، جسده مغطى بآثار معارك قديمة، وندوب لم يجرؤ الزمن على محوها.

‎كان واقفًا بلا حراك، لكن الهواء من حوله كان يتحرك وكأنه يستعد للهرب.

‎رفع رأسه قليلًا، نظر إلى الفراغ أمامه، ثم انخفض بجسده في هيئة الاستعداد.

‎كتفاه شدّتا، وذراعه اليمنى تراجعت إلى الخلف، واليسرى أمامه، كأنه يستعد لتوجيه ضربة إلى قلب العالم نفسه.

‎عيناه… باردتان، خاليتان من أي شعور، كأنهما عينان رأت كل شيء ولم يعد هناك ما يستحق الدهشة.

‎ثم… حدث ما لا يمكن وصفه بالكلمات البسيطة.

‎قبضته انطلقت.

‎لم تضرب لحمًا ولا عظمًا… بل الهواء.

‎لكن الهواء لم يكن عدوًا سهلًا.

‎ارتجف… ثم تمزق.

‎من جسده، خرجت هالة سوداء قاتمة، كثيفة كالدخان، لكن لها ثقلٌ يمكن أن تشعر به في صدرك.

‎هذه لم تكن مجرد طاقة… كانت حضورًا، كأن الظلام نفسه قرر أن يتجسد حوله.

‎الأرض اهتزت.

‎الحجارة الصغيرة بدأت ترتفع عن الأرض، تدور ببطء في الهواء، ثم تتشقق تحت ضغط هذه القوة.

‎حتى الصخور الضخمة، التي تحتاج لعقود من المطر لتنهار، كانت الآن تتحطم في ثوانٍ، وكأن شيئًا يضغط عليها من كل الجهات.

‎كل شيء في هذا الجبل بدأ يتنفس بطريقة مختلفة… الريح صارت أثقل، الطيور صمتت، وحتى ضوء الشمس بدا وكأنه يخشى الاقتراب.

‎الهالة السوداء لم تكن مجرد تأثير بصري… كانت جدارًا من الضغط، موجةً يمكن أن تدمر كل ما يقترب منها.

‎لو أن إنسانًا عاديًا كان واقفًا هنا، لتمزقت رئتاه قبل أن يدرك ما يحدث.

‎لكن تشاي لم يتوقف.

‎خطوة للأمام… والهواء نفسه تراجع.

‎خطوة ثانية… وبدأت الصخور تنقسم إلى نصفين دون أن يلمسها.

‎قوته لم تكن قوة عضلات… بل شيء أعمق.

‎شيء يتجاوز الجسد… قوة تُشعرك أن الرجل أمامك يستطيع أن يغير شكل الجبال، أن يوقف الأنهار، أن يطوي الأرض بين قبضتيه.

‎ثم، فجأة… توقفت الهالة عن التمدد.

‎تجمعت حوله مثل دوامة، تدور ببطء، وتزداد قتامة.

‎كان يبدو وكأنه مركز ثقب أسود، يبتلع كل الضوء والصوت من حوله.

‎عيناه لم تتغيرا… نفس البرود، نفس الخلو من الحياة.

‎لكن من يراه الآن… يعرف أنه أمام رجل لا يقارن.

‎هذا هو تشاي أودجين… الرجل الذي لا يتدرب ليتقوى، بل ليتذكر أنه ما زال بشرًا، حتى لا يتحول بالكامل إلى وحش.

‎في هذا الجبل… لا أحد يسمع صراخ الحجارة وهي تتكسر.

‎ولا أحد يرى كيف أن الهواء نفسه صار يخشى المرور من جانبه.

‎لكن لو كان هناك من يراقب… لعرف أن باريس، وكل ما حولها، باتت تملك وحشًا في أعالي جبالها.

‎{من منظور تشاي }}}

‎الاليون اخذ جسدي

‎أقف على هذا الجبل البارد، حافي القدمين، عاري الصدر، أنظر إلى الفراغ أمامي.

‎الريح تعصف، لكنها لا تصل إلى عظامي.

‎لا أشعر بالبرد… ولا بالحرارة.

‎في الحقيقة، لم أعد أشعر بأي شيء.

‎لم أعد أعرف من أنا.

‎لقد انتهى كل إحساس لدي.

‎لا أتذكر طعم الحب… ولا نشوة الانتصار… لا غضب، لا حزن، لا فرح.

‎سوى البرود.

‎برود كثيف يلتف حول قلبي كأفعى.

‎أرفع قبضتي، وأضرب الهواء.

‎الهواء ينفجر أمامي، الحجارة ترتجف، شقوق جديدة تملأ سطح الجبل.

‎لكن حتى هذا… لا يثير فيّ شيئًا.

‎أذكر فقط… أنني كنت يومًا ما أبتسم لفتاة اسمها آني.

‎لكن ملامحها في ذاكرتي صارت ضبابًا.

‎ذلك الشعور الذي كان يربطني بها… تلاشى.

‎حتى الألم حين أراها تتأذى… لا وجود له الآن.

‎كأنها قصة قرأتها ذات يوم… ولم تعد تهمني.

‎شيء واحد فقط يطفو على سطح هذا المحيط الميت بداخلي:

‎أكاي.

‎لماذا؟

‎لماذا اسمه حاضرٌ في ذهني؟

‎ربما… لأنه هددني بقتل آني.

‎لكن حتى هذا السبب… لا يجعل قلبي يخفق.

‎لا يوقظ الغضب أو الخوف.

‎إنه مجرد دافع منطقي… كأنني أقرأ أمراً في دفتر المهام:

‎> "المطلوب: القضاء على أكاي."

‎أضرب الهواء مرة أخرى…

‎تتفتت الحجارة في الجو قبل أن تلمس الأرض.

‎تتساقط كغبار أسود، وكأن الجبل نفسه بدأ يخاف مني.

‎أنا لم أعد ذلك الشخص الذي كان يحلم، أو الذي كان يحزن، أو الذي كان يبتسم.

‎أنا الآن… شيء آخر.

‎شيء لا يعرف سوى أن يمشي للأمام حتى يصل إلى الهدف.

‎الخوف الذي كان يطاردني دائمًا… تحقق.

‎كنت أخاف أن أفقد إحساسي… أن أصبح آلة قتل بلا قلب.

‎وها أنا…

‎أضرب الهواء مرة ثالثة…

‎أشعر بأن كل كائن في هذا الجبل ارتعش.

‎حتى الطيور في السماء غيّرت مسارها، وكأنها تعرف أن البقاء فوقي يعني الموت.

‎أفكر… عن عائلتي.

‎لكن الفراغ يجيبني.

‎لا أذكر وجه أبي… ولا صوت أمي.

‎كأنني وُلدت قبل يوم واحد فقط، ووجدت نفسي هنا، في هذا الجبل، بقبضتين يمكنهما سحق الصخر.

‎آني؟

‎اسمها فقط يطفو… لا صورتها، لا ضحكتها، لا عينيها.

‎اسم بلا ملامح.

‎ربما كانت مهمة… ربما لم تكن.

‎لا أعرف… ولا يهم.

‎كل ما في بالي الآن… أنني يجب أن أذهب للمنظمة.

‎للقضاء على أكاي.

‎هذا ليس انتقامًا… وليس حمايةً لآني… إنه مجرد شيء أعرف أن علي فعله.

‎كما يعرف النهر أنه يجب أن يتدفق… وكما تعرف النار أنها يجب أن تحرق.

‎أغلق عيني.

‎أسمع قلبي… لكنه لا ينبض بسرعة، لا يتسارع، لا يخفق بقوة.

‎نبضه ثابت… كنبض رجلٍ نائم.

‎أفتح عيني، وأركز على نقطة في الأفق…

‎هناك، بعيدًا… خلف عشرات المدن، يجلس أكاي في مكتبه، يشعل سيجارة، ويظن أنه يمسك بالخيوط.

‎لكن الخيط الوحيد الذي يربطه بالحياة… أنا.

‎وعندما أقطعه… سينهار كل شيء.

‎أستعد من جديد.

‎رجلاي تتثبتان على الأرض، يداي ترتفعان، عضلاتي تنقبض.

‎كل ضربة الآن ليست تدريبًا… إنها تجربة لما سأفعله بوجه أكاي.

‎أضرب.

‎الهواء يصرخ.

‎الحجارة ترتفع ثم تنفجر.

‎الأرض تهتز، وكأن الجبل يوشك أن يسقط.

‎أضرب مرة أخرى.

‎أشعر بضغط هائل يخرج من قبضتي، يلتف حول جسدي مثل موجة سوداء.

‎الهالة القاتمة التي تحيط بي الآن… ليست طاقة فقط، بل هي امتداد لفراغي الداخلي.

‎إنها الظلام الذي بداخلي، وقد تسرب إلى الخارج.

‎أضرب مرة ثالثة…

‎هذه المرة، الصدى يصل بعيدًا… وكأن صوت الضربة يسافر عبر الجبال إلى أماكن لم أزرها.

‎ربما… وصل إلى آذان أكاي نفسه.

‎أتوقف للحظة… أنظر إلى يدي.

‎هذه اليد التي كانت يومًا تمسك بشيء لطيف… الآن لا تمسك إلا بالهواء، ولا تعرف إلا كيف تحطمه.

‎أعرف أنني إذا واصلت هكذا… لن يتبقى مني شيء سوى القدرة على القتل.

‎لكن… ربما هذا ما أحتاجه الآن.

‎السماء فوقي بدأت تغيم، رغم أن الجو كان صافيًا قبل دقائق.

‎الرياح أصبحت أبطأ، أثقل.

‎حتى الطبيعة تعرف… أن شيئًا ما يتغير هنا.

‎أخطو خطوة للأمام، ثم أخرى…

‎كل خطوة تترك حفرة صغيرة في الأرض من شدة الضغط.

‎أنظر نحو أسفل الجبل، حيث الطريق الطويل إلى المدينة.

‎هناك… سأجد من يوصلني إلى المنظمة.

‎هناك… سأبدأ رحلتي إلى أكاي.

‎هذه ليست رحلة انتقام… إنها رحلة إعدام.

‎أضرب آخر ضربة…

‎كل شيء يهتز.

‎حتى داخلي… رغم فراغه… شعر لوهلة أن هذه الضربة كانت بداية النهاية.

‎أدير ظهري للجبل، وأمشي.

‎لا ألتفت.

‎لا أودع المكان.

‎فالأماكن بالنسبة لي لم تعد تحمل قيمة… ولا الذكريات أيضًا.

‎أنا… تشاي أودجين.

‎الرجل الذي لم يعد يعرف من هو… لكنه يعرف تمامًا من سيكون آخر شخص يراه على قيد الحياة.

2025/08/07 · 3 مشاهدة · 1200 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025