باريس — بعد ساعة
سماء باريس كانت رمادية، والمدينة تبتلع نفسها في زحمة الشوارع.
لكن في أحد الشوارع الفارهة، سيارة سوداء فاخرة من طراز لا يقوده إلا من يعرف قيمة نفسه كانت تتحرك بهدوء، مصفحة النوافذ، محاطة بهالة من الصمت.
في الداخل… كان يجلس تشاي أودجين.
لا أحد كان يتجرأ على النظر طويلاً في وجهه، حتى السائق كان يكتفي برؤية ظله في المرآة، ثم يعيد عينيه للطريق.
وجه تشاي جامد، بلا انفعال، كأنه تمثال من جليد نُحت على هيئة رجل.
المقصورة الواسعة تملأها رائحة جلد فاخر، وهدير المحرك يكاد يكون همسًا، لكن في داخله… كان هناك شيء أكبر يتحرك.
لا أفكار كثيرة، فقط اتجاه واحد: المطار.
ومن هناك… المنظمة.
في زاوية شارع ضيق على بُعد أقل من 300 متر، كان يقف رجلٌ يرتدي معطفًا طويلًا ونظارة شمسية رغم غياب الشمس.
يده اليمنى كانت تمسك بهاتف صغير، وعينه اليسرى تراقب السيارة السوداء.
ضغط زر الاتصال، وصوت هادئ، محسوب، خرج منه:
— "لقد تحرك."
مكتب أكاي — المنظمة الإفريقية
الدخان يملأ الغرفة، وكوب قهوة نصفه بارد على طرف الطاولة.
كان أكاي يجلس على مقعده الجلدي، وجاك على الكرسي المقابل.
الحديث بينهما كان ثقيلًا، بطيئًا، حتى جاء صوت الهاتف…
رن الهاتف، رفعه أكاي، وضعه على أذنه، استمع لبضع ثوانٍ، ثم أغلق الخط.
عيناه تجمدتا.
— "جاك…"
— "ما الأمر؟"
— "إنه… آتٍ إلى هنا."
جاك شهق وكأن أحدهم لكمه.
— "ماذا؟! لماذا؟! قلت لي بنفسك أنه يحبها ولا يستطيع أن يضحّي بها!"
أكاي أبعد الكرسي إلى الوراء، مرر يده على وجهه، ثم قال:
— "لا أعلم ما سأفعله الآن."
جاك ضرب بيده على المكتب:
— "اللعنة عليك! أنت لعبت مع قاتل مأجور أخطر منا جميعًا، يا أكاي! لقد حركت شيئًا لا يمكن السيطرة عليه."
صمت قصير.
عين أكاي تلمع بخيط من الحذر… ثم خيط من الفكرة.
— "انتظر… جاءتني خطة جميلة. خطة يمكنها أن تغيّر جميع الأوراق."
جاك رفع حاجبيه:
— "قلها قبل أن نُقتل جميعًا."
أكاي انحنى للأمام، خفّض صوته كمن يهمس بسرٍ من أسرار الحرب:
— "سأتصل بالسيد. سأخبره بكل شيء، وسأقول أنني فعلت هذا من أجل إثارة أودجين. سأجعله يظن أنني أردت أن يفتعلوا الكارثة التي كان يحلم بها منذ أشهر. لكن… سأضيف له شيئًا."
— "وهو؟"
— "سأخبره أن هذه الكارثة لن تكون فعّالة إلا إذا انتظر يومين. يومان فقط. خلالهما، سأجمع أغلبية فرق المنظمة الإفريقية… وسنحوّل المواجهة إلى إبادة جماعية. سنضربهم حتى يفقدوا نصف نفوذهم، وبهذا سيخرج هو الرابح الأكبر."
جاك ابتسم نصف ابتسامة، لكن عينيه بقيتا قلقتين.
— "ويومين… تعني أن لدينا وقتًا نختفي فيه عن أنظار تشاي، حتى يهدأ."
أكاي أومأ:
— "بالضبط. سأطلب من السيد أن يقنع تشاي بنفسه ألا يأتي إلى المنظمة إلا بعد يومين، بحجة أن الخطة لن تنجح بدونه. هكذا… سنمنحه شيئًا يظنه قرارًا من رأسه، بينما نحن من حركناه."
جاك أشعل سيجارة أخرى، أخذ منها نفسًا عميقًا، ثم قال:
— "لكن… وماذا لو رفض الانتظار؟"
أكاي نظر من النافذة، حيث الغيوم الثقيلة تقترب من المدينة:
— "حينها… لن يكون أمامنا إلا أن نختفي. أن نصبح أشباحًا. أن نترك له فراغًا يركض فيه حتى يتعب."
جاك هز رأسه ببطء:
— "أشعر أننا دخلنا لعبة أكبر مما نظن."
أكاي ضحك بهدوء، لكن ضحكته لم تحمل مرحًا… بل وعدًا:
— "جاك… نحن لم ندخل اللعبة… نحن صنعناها."
باريس — في السيارة
تشاي لم يكن يعرف عن هذه المحادثة.
لكن… لو عرف، لما غيّر مساره.
عقله كان واضحًا مثل شفرة سكين: الوصول، الدخول، القضاء على أكاي.
عينيه لم تتحركا عن الطريق، وكأن المشهد أمامه شاشة لا تتغير.
السائق تجرأ وسأله:
— "سيدي… هل تريد أن أمرّ على الفندق أولًا؟"
— "لا. إلى المطار."
بسيط. حاسم. بلا نقاش.
في نفس الوقت، كانت سيارة صغيرة تتبعه من بعيد.
في داخلها، رجلان من المخابرات الداخلية للمنظمة الإفريقية، يرسلان تقارير مباشرة إلى مقر القيادة.
أحدهما همس:
— "إنه لا ينظر حوله… لكنه يعرف أننا هنا."
الآخر بلع ريقه:
— "إذًا… لماذا لا يقتلنا؟"
— "ربما لأنه لا يهتم."
كلمات بسيطة… لكنها ثقيلة.
مكتب أكاي — بعد المكالمة
أكاي يضع الهاتف على الطاولة ببطء، كمن يضع قطعة شطرنج في المكان الحاسم.
— "لقد صدّق."
جاك نظر إليه بدهشة:
— "السيد؟"
— "نعم. أقنعته أن يومين من الانتظار سيجعل المنظمة تخسر نصف قوتها و نفوذها
جاك أطلق زفيرًا طويلاً:
— "حسنًا… هذا يمنحنا وقتًا."
أكاي أطفأ سيجارته، ثم قال:
— "جاك… نحن الآن أمام لحظة فاصلة. خلال يومين، سنقرر إن كنا سنكون على قيد الحياة، أو على صفحات النعي."
جاك حاول أن يضحك، لكنه لم يستطع.
— "وأنا أقول… حتى لو نجونا، تشاي لن ينسى."
أكاي أدار وجهه إليه:
— "أنا لا أحتاجه أن ينسى… أحتاجه فقط أن يتأخر."
باريس — المطار
الأبواب الزجاجية الضخمة انفتحت، وتدفق الناس إلى الداخل.
…
اقترب من مكتب التذاكر، قال بهدوء:
— "تذكرة… إلى تونس."
الموظفة رفعت رأسها، ارتبكت للحظة، ثم بدأت تضغط على لوحة المفاتيح بسرعة.
لم يكن في صوتها أي اعتراض… لأن شيئًا في وجهه أخبرها أن الأسئلة قد تكلفها حياتها.
خلفه، كان أحد رجال المخابرات يلتقط صورة لهاتفه، ويرسلها فورًا إلى المنظمة.
مكتب أكاي —
الهاتف يرن مرة أخرى.
أكاي يلتقطه، يستمع، ثم يغلقه.
— "جاك… لقد حجز رحلته."
جاك وضع يده على جبهته:
— "إذًا… ساعتان ونصف، وسيكون في أرضنا."
أكاي ابتسم بهدوء… ابتسامة رجل يعرف أن اللعبة لم تنتهِ، لكنها ستُكتب على وقته.
— "يومان يا جاك… فقط يومان. ."
الساعة على الحائط كانت تتحرك ببطء، لكن في قلوبهم… العد التنازلي بدأ منذ اللحظة التي تحرك فيها ذلك الوحش من جبال باريس.