في مكتب أكاي، كان الدخان يلتف كسحابة كثيفة حول المصباح، وأصواتهما — هو وجاك — تتردد بين الجدران المبطنة بالخشب الداكن.

‎لكن… كان هناك شيء لم يلحظه أحد.

‎خلف الباب مباشرة… ظل.

‎ظل بلا حركة، بلا صوت، بلا حتى ارتجاف أنفاس.

‎ليس ظلّ كرسي أو مزهرية… بل ظلّ روح حية، أتقنت فن الوجود بلا أثر.

‎لم يكن هناك أي هالة يمكن كشفها.

‎لا حرارة جسد، لا نبضة يمكن تتبعها، لا ذرة طاقة تُشعِر بوجودها.

‎لو حاولت أجهزة المراقبة رصدها… لقالت ببساطة: الغرفة فارغة.

‎لكنها لم تكن فارغة.

‎كان ذلك الظل هو المعلمة شيماء.

‎شيماء… الاسم الذي يتهامس به الجميع في الممرات، ليس خوفًا من قوتها فقط، بل من قدرتها على معرفة ما لا يجب أن يُعرف.

‎اليوم… كانت أذناها تلتقطان كل كلمة خرجت من فم أكاي وجاك.

‎خطتهما، اتصاله بالسيد، الـ "يومان" التي يريدان من خلالها أن يختفيا عن أنظار تشاي… كل ذلك دخل إلى عقلها كما يدخل السم في الدم.

‎في اللحظة التي انتهى فيها الحوار، لم يعد ظلها خلف الباب.

‎لم يُسمع صوت خطوات، ولا صرير مقبض… فقط غياب مفاجئ، كما لو أن المكان لفظها إلى عالم آخر.

‎أحد ممرات المنظمة — بعد ثوانٍ

‎ظهر جسد شيماء فجأة، وكأن الهواء تكثف وتحول إلى شكلها.

‎عيناها تتلألآن ببرود يشبه برود السكين قبل أن تنغرس في اللحم.

‎تمتمت بصوت خافت، لكنها كانت تتحدث لنفسها كما لو كانت تخاطب خصمًا قديمًا:

‎— "علمت من قبل أن أكاي خائن… لكن لم أكن أملك الدليل. الآن… ما سمعته سيغير خطتي تمامًا."

‎مدت يدها إلى جيبها، أخرجت هاتفًا أسود نحيفًا، ضغطت زر الاتصال، وانتظرت حتى جاءها صوت في الطرف الآخر.

‎— "اجمع كل الفريق. سنترقب شخصًا ما عند المطار."

‎توقف صوتها لحظة، وكأنها تحصي الوقت:

‎— "سأكون هناك… بعد نصف ساعة."

‎ثم أغلقت الخط، وأخفت الهاتف مرة أخرى.

‎الإنارة الخافتة في الممر جعلت ملامحها تبدو أكثر حدة.

‎كانت تعرف أن اسم "الشخص" الذي ستترقبه ليس اسمًا عاديًا… إنه تشاي أودجين.

‎لكن ما لم يعرفه أكاي وجاك… هو أن شيماء لم تكن تخطط فقط للمراقبة.

‎كانت تخطط لاختبار الوحش بنفسها.

‎المطار كان يزداد ازدحامًا كل دقيقة،

‎صوت رنين الهاتف قطع ذلك الصمت الميت.

‎لم يرفع حاجبه حتى، فقط مد يده ببطء وأجاب:

‎— "ماذا تريد؟"

‎في الطرف الآخر جاء صوت عميق، وهادئ، لكنه يحمل ثقل رجل يتحكم في عوالم تحت الأرض:

‎— "أهلاً… تشاي."

‎لم يرد تشاي، فقط انتظر.

‎السيد— "لقد علمت الآن بالأمر… لماذا لم تتصل بي وتخبرني أن أكاي هددك بتلك الفتاة؟ كنت سأتصرف معه فورًا… وأطبق عليه قانون المقاعد العشرة."

‎صوت تشاي كان كالجليد:

‎— "لا يهمني أي قانون. لا أريد شيئًا… لدي فقط رغبة في قتل أكاي. عندما أتذكر وجهه… أشمئز."

‎توقف لحظة، وكأن كلمة "الفتاة" مرّت في ذهنه كظلٍ قديم.

‎— "ولا تهمني تلك الفتاة. لأنني… لا أتذكر ما كان يربطني بها أصلاً."

‎على الطرف الآخر، ابتلع السيد كلمات كان على وشك أن يقولها.

‎— "حسنًا… اذهب إلى تونس."

‎لكن صوته تغير، وكأن ما سيأتي أهم من مجرد أمرٍ بالتحرك:

‎— "لكن… انتظر. لا تفعل شيئًا."

‎تشاي رمش ببطء، وعيناه تضيقان قليلًا:

‎— "لم أفهم."

‎— "ستذهب إلى أكاي… لكن لا تستعجل."

‎أضاف السيد بنبرة أشد هدوءًا:

‎— "أرجوك يا تشاي… هذه فرصة ذهبية. أردت أن تفعلها من قبل، لكنك رفضت."

‎تشاي رفع رأسه قليلًا، نظر إلى سقف السيارة، كأنه يحاول سحب ذكرى من مكان بعيد:

‎— "لا أتذكر… ماذا؟"

‎السيد لم يتأخر:

‎— "أريدك أن تعيد مجزرة كبيرة… مثل التي فعلتها في إنجلترا. لكن هذه المرة… في تونس."

‎كلمات "المجزرة الكبيرة" مرّت على أذن تشاي كما يمر صوت الماء على حجرٍ أملس، لكنها في داخله أيقظت شيئًا.

‎إنجلترا…

‎ليلة المطر الدموي، الشوارع المليئة بالصراخ، العيون الواسعة وهي تنطفئ واحدة تلو الأخرى.

‎ذلك الإحساس حين كان جسده يتحرك بلا تردد، كأنه آلة صُممت للقتل.

‎ابتسم ابتسامة باردة:

‎— "حسنًا… أرغب في ذلك الآن… وبشدة."

‎لكن السيد لم يتركه يندفع:

‎— "ليس الآن. بعد يومين… سيتجمع أغلب فرق المنظمة في مكان واحد. وعندها… سيكون الضرب في العمق. اريد ان اخسر المنظمة خسائرا بشرية و بهذا سيسقط نفوذها في العديد من البلدان سأكلف اثنين معك من أودجين… لكي يساعدوك على الإبادة."

‎صوت تشاي عاد حادًا:

‎— "لا يهمني ذلك. سأنتظر يومين… لكن لا أريد أفراد أودجين أن يتدخلوا. أظن أنهم ما زالوا يملكون… القليل من الإحساس… بالرحمة. أو ربما… أنا الذي لا أتذكره. لا أريد أن أُورطهم مرة أخرى. "

‎السيد صمت لثانيتين، ثم قال:

‎— "سأكلم إيفا… سترسل لك اثنين من الخدم إذن."

‎— "حسنًا."

‎ثم انقطع الاتصال.

‎[منظور تشاي]

‎الهاتف ما زال في يدي، لكن صوت السيد تلاشى في رأسي.

‎كلمة "مجزرة" كانت كافية لتعيد إليّ صورة الدماء على الجدران، والأرض المبتلة في شوارع لندن، حين لم يكن أحد يعرف أنني كنت هناك.

‎حين خرجت من تلك الليلة، لم أخرج بذكرى واضحة… فقط برائحة الدم عالقة في يدي، وبرودٍ أعمق مما كان.

‎الآن… تونس ستكون تكرارًا.

‎لكن الفرق هذه المرة… أنني لن أترك أحدًا ينجو.

‎أنظر إلى … الناس يمشون ببطء، يحملون أكياس التسوق، يتحدثون، يضحكون… كلهم لا يعرفون أن في هذا العالم، هناك من يمكنه إنهاء حياتهم في لحظة، بلا سبب، بلا شعور.

‎في رأسي، اليومان القادمان ليسا انتظارًا… بل هما شحذ للسكين.

‎[

‎[منظور الراوي]

‎الساعة على هاتف تشاي تشير إلى أن الطائرة ستقلع بعد ساعتين.

‎لكن الزمن بالنسبة له لم يعد يُقاس بالدقائق… بل بعدد الضربات التي يستعد لإطلاقها.

‎في هذه اللحظة، في مكان آخر من المدينة، كانت شيماء — التي سمعت حديث أكاي وجاك قبل قليل — تجهز فريقها للتحرك نحو المطار.

‎أما أكاي… فقد كان يعتقد أن خطته قد أمنت له مساحة للهروب من المواجهة المباشرة.

‎لكنه لم يعرف أن الخيوط التي يحاول شدها… تتشابك مع خيوط أخرى تنسجها شيماء،

‎اليومان القادمان… سيكونان مثل فم تنين يفتح ببطء.

‎وحين يكتمل الفتح… لن يُغلق إلا على جثث كثيرة.

2025/08/07 · 2 مشاهدة · 960 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025