في المستشفى - صحراء إفريقيا

مرّت الساعة كما يمر الخيط في يد مشنوق، ببطء خانق…

‎لكن الهدوء في المتاهة ليس رحمة، بل فخّ.

‎الجدران، التي تجمدت طوال الساعة الماضية، بدأت تهتزّ من جديد.

‎أولاً كاهتزاز قلب قبل الانفجار…

‎ثم كزلزال يزيح الأرض من تحت الأقدام.

‎من الزوايا المعتمة خرجت أضواء متقطعة، ليست أرواح هذه المرة… بل أشباح من الزجاج، شفافة، تتحرك بخفة النصل وتلمع كأنها سيوف حيّة.

‎آلما، التي كانت تمسح دماء معركتها السابقة عن وجنتها، فتحت عينيها على اتساعهما:

‎"هذا ليس مثل السابق… هذه لا تُلمس، ولا تُكسر بسهولة."

‎رفعت سيوفها الأربعة، وبدأت الدوران في نصف قوس، الضربات تتوالى بسرعة خاطفة، لكن كلما قطعت جسد الشبح الزجاجي، عاد ليلتحم من جديد، أسرع من لمح البصر.

‎سيبرو، في مكان آخر من المتاهة، شعر بأنفاسه تُسحب من صدره، ليس لأن الهواء سام، بل لأن هذه الكائنات تسرق رائحة الجسد نفسه.

‎أخرج ثلاث قوارير جديدة، مزجها في الهواء، وخلق دوامة قاتلة من العطر الحارق…

‎لكن الشفافية كانت تحميها من التلاشي الكامل، فتقترب منه وهي تتماوج كالماء

‎في غرفة المراقبة، ابتسمت بلاك داون بخبث، وهمست لنفسها:

‎"لن يروا مخرجًا قبل أن تُستنزف أرواحهم أولاً."

‎ثم فجأة،

‎كأن المتاهة كانت تضحك، انهار جدار بين ممر آلما وممر سيبرو…

‎التقيا مجددًا، لكن هذه المرة ليس بينهما فقط… بل خلف كل منهما أسراب من أشباح الزجاج، تحاصرهم من الأمام والخلف.

‎آلما تصرخ: "تحكم بروائحك وإلا قتلتني معها!"

‎سيبرو يرد بابتسامة ملتوية: "إذن أبقي أنفاسك بعيدة عن نصالي!"

‎المعركة بدأت مجددًا، لكن الآن كانت ثلاثية:

‎آلما ضد سيبرو،

‎آلما ضد الأشباح،

‎سيبرو ضد الأشباح…

‎ومع كل ثانية، كانت المتاهة تغيّر الأرض تحت أقدامهم، ترفع الممرات، تخفض السقف، وتغلق المخارج الوهمية التي كانت تظهر فجأة وتختفي وكأنها تسخر منهم.

‎كل ضربة، كل قفزة، كل نفس… كان أبطأ وأثقل من الذي سبقه، والعرق والدم اختلطا برائحة السموم.

‎حتى أن بعض الأشباح بدأت تتعلّم، تتهرب من الضربات وتتجمع في تشكيلات كأنها جيش صغير من الزجاج المميت.

‎وفي لحظة كانت أشبه بالانفجار، اصطدم سيف نور من آلما بقارورة سم من سيبرو، فاشتعل المكان بضوء وأبخرة قاتلة، وتحولت الرؤية إلى عاصفة من الضباب المضيء…

‎وسطه، لم يعد أحد يعرف من يهاجم من، ولا من سينجو أولاً.

‎ في جهة الاخرى الممر كان هادئًا بشكل غير طبيعي…

‎هدوءٌ يصفع الأذن بدل أن يريحها.

‎سون يسير بخطوات متثاقلة، ذراعه ترتجف، أنفاسه قصيرة وحارقة،

‎كل عضلة فيه تصرخ أن تتوقف، لكن عينيه لا تزالان تبحثان عن أي حركة في الظلام.

‎طاقته انخفضت إلى أدنى حد، السيمفونيات السامة التي طالما اعتمد عليها أصبحت مجرد ذكرى ثقيلة…

‎الآن، لم يبقَ له إلا الجسد.

‎ثم، من بين الظلال، ظهرت فتاتان.

‎صغيرتان، ترتديان فساتين بيضاء قديمة، أيديهنن متشابكة، وجوههنن مليئة بالبراءة،

‎وعيونهنن… عيون أطفال حقيقيين، لا ظل فيها للشر.

‎> "أأنت تائه؟"

‎سألت الأولى بصوت ناعم كالمطر على زجاج النوافذ.

‎> "تعال… سنريك المخرج."

‎أضافت الثانية بابتسامة خجولة.

‎سون توقّف.

‎جزء من عقله أراد أن يصدق، لكن شيئًا في قلبه كان يقرع ناقوس الخطر.

‎خطوة منه للخلف…

‎وفجأة، براءة الوجوه انكسرت كما ينكسر قناع خزفي على الأرض.

‎عيونهم تحولت إلى ثقوب سوداء عميقة، والفم انفتح على آخره حتى وصل للأذنين، صفوف من الأسنان الطويلة والرفيعة كإبر مشبكة في جدار من اللحم.

‎الهجوم بدأ بلا مقدمات.

‎الأولى اندفعت بسرعة لا تناسب جسدها الطفولي، مخالبها تمتد من أطراف أصابعها كخطاطيف سوداء.

‎الثانية قفزت من الجانب الآخر، تحركها كان مزيجًا بين الرقص والكابوس، دوران خفيف، ثم طعنة سريعة نحو عنقه.

‎سون تراجع، تفادى الطعنة الأولى بانحناءة قصيرة، لكن الثانية لامست كتفه، والدم بدأ يسيل فورًا.

‎لم يكن هناك وقت للتفكير.

‎هو يعرف أن جسده وحده الآن، وأن أي خطأ سينهيه

‎بضربة قدم مفاجئة، ركل الأرض ليندفع بجسده للأمام، قبضته ارتطمت بفك الفتاة الأولى، لكن الصدمة لم تسقطها، بل جعلتها تبتسم والدم يسيل من فمها.

‎الأخرى أمسكت بمعصمه، قوتها كانت هائلة،

‎لكن سون لف جسده في نصف دورة، حرر ذراعه، واستغل الزخم ليضربها بكوعه في جانب رأسها.

‎كل ثانية كانت كساعة كاملة، كل نفس يساوي حياة أو موت.

‎ضربات الأقدام، اللكمات، الركب، كلها كانت تتحرك بسرعة حيوان محاصر يعرف أن لا مفر إلا بالقتال حتى النهاية.

‎الفتاتان كانتا تتناوبان الهجوم بلا توقف:

‎إحداهن تشاغله بمخالبها، والأخرى تبحث عن ثغرة في دفاعه.

‎لكن رغم نزيفه وتعبه، كان سون يتحرك بخفة قاتل مخضرم، يصد الضربات، يوجه اللكمات، ويستغل كل سنتيمتر من الممر الضيق لصالحه.

‎ثم جاءت اللحظة الحاسمة…

‎الفتاتان هجمتا معًا من الأمام والخلف.

‎سون انخفض فجأة، استند على يديه، ووجه ركلتين متعاكستين:

‎اليمنى ارتطمت بفك الأولى، واليسرى اخترقت معدة الثانية، القوة كانت كافية لدفعهما بعيدًا عدة أمتار.

‎لكن حتى بعد السقوط، ظلتا تتحركان، يزحفان نحوه، الابتسامة لا تفارق وجهيهما الممزقين.

‎سون بصق الدم من فمه، قبض يديه، وقال بصوت متحشرج:

‎> "لن أحتاج إلى السم… جسدي يكفي لدفنكما."

‎واندفع من جديد، هذه المرة بلا تردد، ضربات متتالية كالمطر في ليلة عاصفة،

‎ركلات، لكمات، ضربات كوع وركبة، حتى تحولت وجوههما إلى كتل مشوهة من اللحم.

‎وفي النهاية، سقطتا على الأرض بلا حراك، والهواء عاد إلى الممر،

‎لكن سون بقي واقفًا، صدره يعلو ويهبط كوحش ما زال يبحث عن فريسة أخرى…

2025/08/07 · 5 مشاهدة · 849 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025