بعد دقائق من انتهاء المعركة
كان الهواء جالسًا على صدر الأرض كشيطانٍ متأمل، والهواء محمّلٌ برائحة الحديد والبارود. لم يمضِ على نهاية المعركة سوى دقائق… دقائق تشبه الدهور، كأن الزمن توقف يلهث من شدّة ما رأى.
في ركن من الغرفة التي تفوح منها رائحة الموت والصراخ القديم، رنّ الهاتف. لا صوت بشري سبقه، لا إنذار، فقط رنين كأنّه جرس كنيسة تدعو للموتى أن يستيقظوا من قبورهم.
اقترب أحد المشرفين، يده ترتجف. لم يكن خائفًا من الاتصال، بل مما سيليه. مدّ الهاتف لبلاك داون، همس كمن يقدّم سيفًا مقدّسًا لشخصٍ فقد إيمانه:
– "مكالمة لك… إنها شيماء."
رفعت بلاك داون الهاتف كأنها ترفع قلبها ذاته.
– "أهلاً، شيماء."
– "أهلاً بكِ، يا بلاك… لقد تغيّرت الخطة."
نبرة شيماء كانت غريبة، كأنها تمضغ البكاء وهي تبتسم. ذلك النوع من الفرح المريض، الذي لا يأتي إلا حين يُكسر شيء بداخلك للأبد.
– "ما الذي جرى؟ تحدثي… لا تحرقيني بالبُطء."
– "لن أقتل المختبرين، بلاك…"
سكونٌ تام. حتى الأنفاس لم تعد تصدر من بلاك. ثم همست كأنها تسترد صوتها من داخل قبر:
– "أخيرًا... رجع لكِ عقلك، حمداً للسواد الذي يسكنك، لقد عاد إليكِ."
لكن شيماء ضحكت… ضحكة من تتذوق السمّ وتطلب المزيد.
– "بل سأضحي بنفسي، بلاك اسمه . تشاي أودجين… انها صدفة لا احلم بها قاتل زوجي لقد وصل إلى تونس. أنا تعقّبته، رأيته، شممت رائحته، لقد رأيته بعيني يا بلاك يا إله النار، كيف احترق قلبي! رأيته، فأردت تمزيق جلده بأسناني… سأواجه قاتل زوجي، بلا رحمة.لم يعد يهمني اكاي الان ، اريد ان اواجه "
– "يالها من صدفة ايضا احمل لك خبر سيعجبك … الاختبار قد انتهى لتوّه. سبعة أطفال نجوا. سبعة، رقم القدر. سأرسلهم إليكِ… ليقاتلوا إلى جانبكِ. و ذالك ستنتقمين من أكاي و تشاي معا لكن النتيجة؟ يا شيماء، يا دم قلبي، ستموتون جميعًا."
سكوت. ابتسامة خفيفة رسمتها شيماء كأنها تتقبّل تعزيتها قبل موتها.
– "هذا جيّد... متى ستصلون؟"
– "الليلة، شيماء 20:00. الليلة التي ستكتب على جبينها بالدم: هنا بكت السماء."
تنهّدت بلاك، ثم تغيّرت نبرتها. لم تعد القائدة. بل صديقة قديمة… مكسورة، خائفة، تتوسل في خندق الدموع:
– "افصلي جميع الاتصالات. مروطة بالمشرفين لا أريد أن يعلم أكاي بأي شيء. أرجوكِ... أغلقي ا."
– "علم."
لكن بلاك لم تنهِ الاتصال. علق صوتها في الحلق، ثم خرج منها كأنّه نبوءة غارقة في الأسى:
– "شيماء… تراجعي… أرجوكِ… أكاي سيحزن يومًا، يومين… ثم سيكمل طريقه. أما تشاي؟ لن يشعر. لن يندم. لن يذكركِ حتى. استقيلي… ابحثي عن الراحة، عن الهدوء… عن الحياة."
صمتٌ طويل.
ثم جاء صوت شيماء… هادئًا، كأنها تسرد جنازة لم تُقم.
– "لقد ماتت روحي يوم مات ماركس. يوم سقط قلبي في أحشاء الأرض. لا يهمّني ما يشعر به أكاي، ولا ما لن يشعر به تشاي. أنا… أنا كنت تلك المعلمة اللتي سكّتت كثيرًا. تبسّمت في وجوه الأعداء والآن… آن أوان الحساب. سأحرقهم... باسم كل دمعة بلعتها، باسم كل صرخة خبأتها تحت وسادتي."
تجمدت بلاك. تشقّق قلبها بصمت. ثم قالت أخيرًا، بشهقة:
– "سنتقابل الليلة… أيتها المعلمة ."
.
في تونس
كانت شيماء تقف على سطح مبنى مهجور، ريح الصحراء تمزّق عباءتها. لا دموع. لا ارتجاف. فقط الصمت. الصمت الذي يسبق الانفجار.
قالت شيماء لنفسها:
"يا ماركس… إني قادمة. لن أدع موتك يذهب سدى. سيُقْطع اللحم الليلة. سيُحفر في ذاكرة الأرض اسم تشاي… كجبان طُعن من امرأة عاشت نصفها مدفونة."
بعد ساعة من نهاية المعركة… لم يكن الصمت راحة، بل
كان قنبلة مؤقتة لا تعرف متى ستنفجر.
الأرض لا تزال تنزف رمادًا.
أجساد القتلى لم تُرفع بعد.
والموت… كان لا يزال جالسًا على كتف كل من نجا.
بلاك داون وقفت على أنقاض المذبحة، تنظر إلى جثّة هيت، وقد تكسّر جسده كبناءٍ قديم ضربه الزلزال. لم تكن فخورة بالنصر، بل مستاءة من التأخير… وكأن هيت لم يكن إلا عقبة في طريقها إلى الهدف الحقيقي.
الهواء محمّل برائحة الخيانة والنار، والجنود يتنقّلون كالنمل بين الركام، يجمعون الأغراض، يحملون الجرحى، ويدفنون الأسرار.
ثم جاءت المركبات.
ضخمة. صاخبة.
صُمّمت لاجتياز الصحراء، لا الرحمة.
ركب الجميع. لا وقت للحِداد.
أما الأطفال السبعة… أولئك الذين نجوا من الجحيم فقط ليُرمَوا في آخر، فقد اقتيدوا إلى قاعة منعزلة داخل واحدة من المركبات.
الجو هناك كان بارداً رغم حرارة النهار.
ورائحة الحديد والخوف تسكن الجدران.
دخلت بلاك داون.
وكل شيء توقّف.
نظرت إليهم كما تنظر القائدة إلى جنودٍ فشلوا، لكنها مضطرة أن تمنحهم فرصة ثانية.
قالت بصوتها الهادئ، القاسي، كالسيف حين يُجرّد من غمده:
– "الاختبار… لم ينتهِ."
الصدمة على وجوههم كانت أعمق من أي نزيف.
جين شهق
سون أسند رأسه على الجدار، وأغلق عينيه كمن يستسلم لقدَره.
بلاك لم تتأثر. لم تقترب. لم تُظهر تعاطفًا.
تابعت، كأنها تقرأ حكمًا نهائيًا:
– "معركة هيت دمّرت كل شيء. البنية، الأجهزة، البيانات، وحتى الأسس. لذا لا يمكننا اعتبار نتائجكم نهائية. لقد نجوتم، نعم… لكن لا أحد يهتم إن نجوت، إن لم تُكمل المسار حتى النهاية."
– "لكن… نحن فعلنا كل شيء!"
قالها غاندي، بصوتٍ مبحوح. لم يكن يعترض، بل يصرخ طلبًا للشفقة.
أجابت بلاك دون تردّد:
– "الأبطال لا يشتكون."
عمّ الصمت.
ثم ابتسمت بلاك.
لكن تلك الابتسامة… لم تكن إلا إعلانًا عن شيء أسوأ.
– "المهمة الأخيرة بسيطة. لا قتل جماعي، لا مواجهات مرعبة، لا مفاجآت. سنعود إلى تونس، وسترافقون السيدة شيماء. هدفنا: قاتل مأجور. مجرد ظل يمشي. نتعقبه… ثم نغتاله."
غاندي تمتم:
– "هذا يبدو… سهلًا."
– "هو كذلك."
ردّت بلاك، ثم اقتربت منهم خطوة.
– "لن تكونوا في خطر… شيماء ستقود المهمة. نحن فقط نريد أن نُعوّض ما حدث هنا."
لكن عيون الأطفال لم تصدّق.
أرواحهم التي مرّت عبر الجحيم، صارت تعرف الحقيقة حين تسمعها.
خارج القاعة، كانت الشمس تشع بدمٍ ذهبيٍ ثقيل، فيما الرمال تُصفّق للوداع كأنها تُحذّر أحدًا ما.
السيارة الأولى انطلقت، تحمل السيدة مين، إيرلي، وثلاثة معلّمين…
السيارة الثانية تلتها، نصف المشرفين على متنها…
خطّان من الحركة على جسد الصحراء، كأنّهما جريان دمٍ في شريان ميت.
بلاك داون وقفت عند الباب، تراقب السيارتين تختفيان عن مدى النظر.
وراءها، الأطفال يستريحون كما أمرت…
ما يعلمون أن الراحة… خدعة.
وما إن اختفت السيارتان من الأفق، حتى…
ابتسمت.
ثم ضحكت.
ضحكةٌ غير بشرية… ضحكةٌ ممزوجةٌ بصوت الحديد، والرماد، والوعود الكاذبة.
ضحكةٌ لو سمعها الشيطان، لقال:
"رفقًا بهم يا بلاك، ما عادوا يحتملون!"
وفجأة… انقضّ رجالٌ من كل الجهات.
رجالٌ بقبّعات سوداء، لا ملامح لهم.
كأن الظل أنجبهم، وكأن السكون ربّاهم.
في غضون ثوانٍ، قُتل كل المشرفين الذين بقوا.
بلا رحمة. بلا صوت.
رؤوس تطايرت، ودماءٌ تبخّرت من حرارة الرمال.
ثم اقتربت بلاك داون من أحد الرجال.
وجهه مغطى، لكن هيبته واضحة.
قالت:
– "اخفِ الجثث. لا نريد أن يشتم أكاي رائحة الموت قبل الأوان."
هزّ الرجل رأسه.
أكملت:
– "السيارتان… عطّل وصولهما. شتّتهما. أضف لهما القليل من المتعة… إن لزم الأمر، احرقوا الأرض تحتهما. لكن لا تدعوهم يصلون الليلة."
لم تنتظر ردًا.
لأن صوتًا… أعلى من الريح، وأقسى من الانفجار… جاء من فوق.
دوّي هائل.
هيليكوبتر سوداء تنزل كأنها نُسخة من جحيم ميكانيكي.
الباب الجانبي يُفتح، الدخان يتسرّب من الداخل، والموت يبتسم من المقاعد.
ثم ظهر راغنا، واقفًا في فتحة الباب.
عيناه مثل خنجرين.
بلاك داون نظرت إليه… لم تتكلم أولًا.
بل ضحكت مجددًا، ضحكتها المعتادة…
ضحكة امرأة قرّرت أن تخون كل شيء، ولا تنظر خلفها.
ثم قالت:
– "إلى تونس إذاً."
الهيليكوبتر كانت تشقّ صدر السماء كما لو أنها سهمٌ أسود انطلق من قوس القدر.
وبلاك داون… تجلس على حافة الباب المفتوح، والريح تعصف بشعرها، تعري وجهها، وتغمره بتراب الليل.
لكنها لا تراه.
ولا تسمعه.
كانت تنظر إلى شيء أبعد من الأفق، أبعد من تونس، أبعد من مهمة الموت.
كانت تنظر إلى الوراء.
وفجأة…
ومضة.
صوت ضحك.
صرخات أطفال.
أنوار نيون ملونة تدور في دوائرٍ مجنونة.
موسيقى قديمة تصرخ من سماعاتٍ صدئة.
مدينة ملاهٍ.
لكن ليس أي ملاهٍ.
هذه… مدينة الذكرى
كانت الأرض تحت قدميها مليئة بأقدام الآخرين. الناس تتدافع، تركض، تشتري البالونات، السكر، السعادة المؤقتة.
أما هي…
فكانت تقف في أحد الممرات الجانبية.
طفلة.
نحيلة.
حافية.
ترتدي قميصًا لا يشبه القمصان، بل يشبه الخرقة التي نام بها ألف متشرّد.
لم تكن تبتسم.
لم تكن تبكي.
كانت تشاهد.
فقط تشاهد.
حتى وقعت عيناها عليها…
طفلة أخرى.
أصغر منها.
تجلس على الأرض، ظهرها إلى جدار قذر، يداها ممدودتان، وصوتها يخرج كأنّه آخر أنفاسها:
"خبز… ماء…"
كأنها لا تطلب طعامًا، بل تطلب وجودًا.
كأنها لا تريد النجاة، بل تريد من يعترف بأنها موجودة.
اقتربت بلاك داون… أو ما كانت يومًا "هاوية سوداء" بلا اسم ولا ماضٍ.
وقفت أمام الطفلة، تردّدت.
ثم أخرجت من جيبها قطعة خبز.
ليست كبيرة.
وليست طازجة.
لكنها كانت كل ما تملك.
كان من المفترض أن تبقيها لأسبوع.
أن تأكل منها كل ليلة لقمة صغيرة…
أن تخدع جوعها بها.
لكنها، ولسببٍ لا تفهمه حتى اليوم، مدّت يدها… ووضعتها على يد الفتاة الأخرى.
وهنا… حدث شيء غير متوقع.
الفتاة الأخرى… بدأت تبكي.
بكاء لا يشبه بكاء الأطفال الذين يريدون لعبة.
بل بكاء من يُعاد إلى الحياة بعد أن نُسي في قبر.
قالت وهي تنتفض:
"أربعة أيام… أربعة أيام لم ينظر أحد إليّ. كنت أعتقد أنني غير موجودة… أنني شبح"
ثم أمسكت الخبز… ونظرت إليها.
قسمته إلى نصفين.
وأعطتها النصف الثاني.
وقالت بصوت مكسور… لكنه دافئ كحضن أم لم تولد بعد:
"اسمي شيماء… وأنتِ؟
تلعثمت.
لم يكن لديها اسم.
لا أحد سمّاها.
لا أب. لا أم. لا ماضٍ.
فقالت دون تفكير:
"هاوية… هاوية سوداء بلاك داون."
ثم ابتسمت، لأول مرة في حياتها، بتلك اللحظة.
وما كانت تعلمه هو أن تلك اللحظة… ستكون نواةً لحياة كاملة من النار، والخيبة، والخيانة، والدم.
عادت إلى الحاضر.
الريح تصفع وجهها.
لكن الدموع… جفّت منذ زمن.
نظرت إلى راغنا، الواقف في الطائرة.
قالت له وهي تضحك بسخرية مشروخة:
– "هل تصدق أن أول من قسّمني إلى نصفين… لم يكن سيفًا، ولا رصاصة… بل رغيف خبز؟"
راغنا لم يرد.
لأنه كان يعرف.
يعرف أن ما يقود هذه المرأة الآن… ليس الغضب فقط، بل الذكرى التي رفضت أن تموت.
قالت وهي تنهض من الباب، تستعد للنزول:
– "شيماء…"
تمتمت الاسم كما يتمتم الكهنة اسم إلههم الساقط.
– "منذ البداية… كنا سائرين إلى هذا. أنتِ… وأنا… والرغيف الذي قسّمنا إلى قسمين."
ثم صرخت بصوتٍ أعمى، كأنها تخاطب الكون:
– "قادمون يا تونس… افتحي لنا بوابة الجحيم!"