في المنظمة 23:00
الضوء خافت، خافتٌ إلى درجة أن الجدران اختفت من الوجود، كأنّ العالم تضاءل إلى الطاولة، والوجوه المتجهمة، والشرر المتطاير من عيني أكاي.
على الجدار المقابل، ثلاث صور... لا، ثلاث طعنات مغروسة في صدر المنظمة.
الأولى...
لقطة قديمة، لكنها دامية، دامية ببرود يشبه الثلج.
شيماء... تقف بجانب بلاك داون، وخلفهما... ستة أطفال.
كل طفل يحمل نظرة موتٍ مؤجلة.
اللقطة مأخوذة من الأعلى، زاوية مائلة، كأنّها عينُ شيطانٍ توثق خيانةً كُبرى.
الثانية...
بلاك داون، واقفة بثقة، وعلى يسارها راغنا.
يبتسم. هي لا تبتسم.
اللقطة أمامية، من مسافة قريبة. لا أحد من الحاضرين يعرف من التقطها، ولا كيف وصلت.
الثالثة...
كارثة.
الأطفال الستة... واقفون في صف، نصف ابتسامة على شفاههم، كأنّهم تخلصوا من شيء بشري بداخلهم.
لكنّ الأهم... ما يقف أمامهم.
أكاي.
نفسه.
نعم، هو في الصورة... لكنّه لم يكن يعلم.
من التقط هذه الصورة؟ متى؟ ولماذا؟
وراءه، يظهر أحدُ المستخبرين، يدوّن شيئًا على دفتر ميداني، ويظهر جهازٌ صغير على كتفه...
> آلة توثيق من طراز لم يُعتمد بعد رسميًا في المنظمة.
ما الذي يحدث؟
أكاي لم يتكلّم.
كان يقف أمام الصور الثلاث... لا يتحرك، لا يومئ، لا يتنفس.
لكنّ هالته... تلك الهالة.
> كأنّها ضغط جوي هبط فجأة على الغرفة.
تكسّرت أكواب القهوة.
تشققت شاشة الحاسوب في الزاوية.
صوت انفجار خافت صدر من ساعة أحد الضباط.
واحد من الحاضرين، رجل ضخم ذو لحية بيضاء ووشم غامض على رقبته، همس بتوتر:
— لم أفهم شيئًا... لماذا لم تصلنا أيُّ معلومة عن انتهاء الاختبار؟! وماذا يفعلون الآن؟
أظنّهم يخططون لشيء... شيءٍ لا يمكننا مواجهته إن استمرّ الصمت.
أكاي... لا يزال صامتًا.
لكنه كان يربط الخيوط بسرعةٍ مرعبة في عقله.
كلّ صورة كانت بندقيةً جديدة موجهة إلى رأسه، كلّ طفل في الصور مشروعُ لعنة، وكل نظرة شيماء خيانةٌ تُسكب على مقعده.
فجأةً... نطق.
بصوتٍ رخيم... هادئ... كأنّه قادم من مقبرة:
— إلى تشاي.
ضربت الجملةُ العقول كالمطرقة.
تشاي؟
ماذا دخل هذا شخص في هذا؟ من هو ؟!
الوجوه بدأت تتبادل النظرات المرتجفة، وكأنّ الجميع فهم... ولكن لا أحد تجرأ على السؤال.
أكاي :
—.. أين بلاك الآن؟
رفع أحدهم يده مباشرة، من دون أن يُطلب منه:
— لقد أتت قبل ساعة... هي وراغنا.
دخلا من البوابة الرابعة، استُقبلوا من دون موعد رسمي.
لكنها رحلت بعد أقل من عشر دقائق.
راغنا بقي في المكتب.
الركض يعلو فوق الصمت، كأن الأرض بأكملها ترتجف تحت وطأة خطواته.
أكاي... وجه لا يُخطئه الموت، مندفِعٌ كرصاصةٍ تخطّت حدّها الزمني.
كان يركض كمن أحرَقَ ماضيه وترك المستقبل يُطارده.
يتصبّب العرق من جبهته، لكن العرق لم يكن وحده ما يبلّل جلده؛ فقد النطق له شيءٌ أعمق...
رائحة دمٍ لم يجف بعد، عيناه اللامعتان كجمرتين في ظلامٍ دامس، تبحثان عن خيطٍ من المنطق وسط فوضى تنبعث من عمق المنظمة.
"شيمــــــــاء!!!"
صرخةٌ تشقُّ سقف المبنى، ترتدّد في الأروقة كخطيئة أبدية، كنداءٍ استُدعي من قبْرٍ منسيّ.
لم تكن مجرّد اسم، بل كانت نداء نجاة، كأنفجار داخليّ يبحث عن تفسير... عن عقاب.
وصل أمام مكتب "راغنا".
لم يطرق الباب، لم ينتظر، لم يكن أصلاً هناك بابٌ ليطرُق.
الممر الذي قاده إلى مكتب المعلم أحمد كان معتماً، بارداً، كأنّه شريانٌ ميت في جسد المنظمة.
الضوء لا يمرّ هنا بسهولة، والأصوات تُدفَن فيه قبل أن تُولد.
كانت الجدران مصبوغة بلونٍ رماديّ باهت، لكن فوقها لطخاتٌ حمراء متفرّقة، كبقع ذاكرةٍ غير قابلةٍ للغفران.
فتح الباب.
لا، لم يفتحه.
مزّقه.
خشبٌ يُقتلع من جذوره، مفاصلُ تصرخ، هواءٌ يتدفّق داخلاً كأنّه كان محبوساً طيلة قرن.
المنظر أمامه... توقّف الزمن.
كان الممر المؤدي إلى مكتب المعلم أحمد موحشًا، باردًا كأنما شريان ميّت في جسد منظمة تحتضر. الضوء بالكاد يتسلل، والأصوات تذوب فيه كأنها لم تولد أبدًا. جدرانه الرمادية الباهتة تلطخت ببقع حمراء متفرقة، كشظايا ذاكرة فقدت لونها منذ زمن.
فتح الباب.
لا، لم يفتحه، بل… ارتجف.
كأن خشبًا اقتُلع من جذوره، مفاصله تصرخ، وهواءٌ كثيف تدفق للداخل كما لو كان محتجزًا منذ قرن.
المنظر أمامه جعل الزمن يتوقف.
امتدت يد "أكاي" بسرعة مفاجئة، وكأنها خرجت من زمن مغاير. قبضته أمسكت بعنق "راغنا" بقوة لا تنتمي لهذا العالم. أصابعه كانت كأنها أنياب، ومفاصله جميعها تصرخ بإعلان الحرب.
نهض عن الكرسي، جسده كما لو أنه دمية مكسورة، قدماه تتدليان، وعيناه تتسعان بفزعٍ كأن الهواء قد خذله فجأة.
– "أين ذهبت شيماء؟"
قالها "أكاي" بصوت خفيض، لكنه كان ثقيلاً كالرصاص. لم تكن جملة، بل كانت حكماً صادراً من محكمة لا تعرف الرحمة، ولا تمنح فرصة للنجاة.
– "أين المختبرين؟"
تجمد الهواء حولهم. النوافذ ارتجّت. حتى الذباب المتشبث بالجدران توقف عن الحركة.
حاول "راغنا" النطق، لكن الكلمات اختنقت في حلقه… كأن الدم قد تراجع من وجهه. ازرقّ، وارتجفت عيناه.
– "تكلّم…"
شهق راغنا، خرج صوته مرتعشًا من بين شفتيه المرتجفتين:
– "أنا… لا… لا أعرف، أرجوك… لا…"
لكن التوسل لا يشفع أمام من تغذى على الألم كوجبة عشاء أبدية.
قبضة "أكاي" اشتدت.
ضغط على عنقه حتى بدأ الجلد يتشقق، وبدأ خط دمٍ رفيع يسيل من عنق "راغنا"، يهبط على ياقة قميصه، ثم يختفي في النسيج.
"أكاي" لم يصرخ، لم ينطق بكلمة… فقط نظر إليه، تلك النظرة… كانت كافية لتحرق الشجاعة في قلب أي رجل
.راغنر حاول أن ينطق، لكن الكلمات اختنقت في حلقه… كما الدم الذي ملأ وجهه الأزرق، وعيناه ارتجفتا.
"تكلّم.."
شهق راغنر، وصوت خافت خرج من بين شفتيه المرتجفتين:
"أنا... لا... لا أعرف، أرجوك... لا.."
لكن التوسل لا يمرّ أمام من اعتاد الألم كوجبة عشاء أبدية.
قبضة آكاي اشتدت.
ضغط عنقه حتى بدأ الجلد يتمزق تحت الأصابع. خط دم رفيع بدأ يسيل من عنق راغنر، وانحدر على ياقة قميصه، ثم اختفى في النسيج. آكاي لم يصرخ، لم يصدر أي كلام. فقط نظر إليه... تلك النظرة... كانت كافية لإذابة الشجاعة من أي قلب.
ثم قال، بصوت بارد كأنّه خارج من قبر:
"إذا كنت لا تعرف مكان شيماء... إذًا أخبرني... أين هي بلاك داون؟"
ذلك الاسم... سقط كجرس كنيسة يُقرع في جنازة سرّية.
راغنر، بين الموت والخوف، ارتعش. جسده دخله، وركبتاه بدأتا بالارتخاء رغم أنهما كانتا معلّقتين.
هالة آكاي لم تكن مجرد نية قتل... بل كانت إعلان نهاية زمن. ضغط رهيب خرج من جسده، ضغط يكسر الأضلاع قبل أن يلمسها. الأضواء اهتزت، والظل خلفه بدأ يتمدّد كوحش يهمس باسم الضحية.
أخيرًا، تلعثم راغنر، وكأن الكلمات خرجت من رئته الممزقة:
"لقد... لقد عادت... إلى منزلها... ذهبت إلى هناك بنفسها."
آكاي لم يتحرّك. فقط ثبت عينيه في عينيه.
صمت.
ثم فجأة....
ضحك أكاي.
ضحكة بلا روح.
ضحكة رجل فقد إيمانه بكل شيء، حتى بالغفران.
ثم دون تحذير، دون تهديد، دون صراخ... تقدّم خطوة واحدة، وغرس يده عميقاً في بطن راغنا.
الصوت؟ كان كتمزّق نسيج قديم، كأنك تمزّق جدار
الزمن نفسه.
النتيجة؟ ذراع أكاي خرجت من ظهره، محمّلة بدم دافئ... وقطعة لحم لا اسم لها.
جسد راغنا ارتجف للحظة, ثم سقط كما تسقط أوراق الخريف... بلا صوت, بلا وداع، بلا كرامة.
خرج أكاي مسرعا
تمدد راغنا على الأرض، يحتضن بطنه الممزق، والدم يخرج منه كنافورة يائسة. عيناه تحدّقان في اللاشيء، وفي عقله آخر نداء:
> "الهاتف... أين الهاتف.."
راح يتحسس الأرض بأصابعه المرتجفة وجد الهاتف... سحبه كأنه يرفع صخرة من ألف طن.
ضغط على زر الاتصال الأخير....
بلاك داون.
الصوت خرج منه ضعيفاً، مختنقاً، مشوشا:
<
"إهربي... بلاك... إهربي... إنه... قادم.."
لكن الكلمات الأخيرة لم تكتمل.
اضنه مات