‎في منزل

‎بلاك داون (بصوت خافت كأنّه اعتراف عند مذبح):

‎"ارقد بسلام يا راغنا... أنا آسفة... كان يجب أن نهرب أسرع...

‎لكني أعتقد أن خيط القدر لا يُحبّ الهاربين، بل يختار من يموتون في الصف الأول."

‎خطت إلى الخلف.

‎خطوة واحدة...

‎ثم ابتلعت دموعها.

‎لا مجال للعاطفة الآن — ليس في عالمٍ تحكمه الوحوش،

‎وليس في زمنٍ كل دقيقة فيه تُحاك بخيوط موتٍ رفيعة لا تُرى.

‎مدّت يدها نحو الطاولة، سحبت المفاتيح،

‎ثم أمطرت الأرض بخطى ثقيلة، كأنّ الأرض تحاول التهامها في كل خطوة.

‎المظلّة… سيارة الفورد القديمة التي تُصدر زئيرًا معدنيًا كوحشٍ غاضب…

‎ثم... الانطلاق.

‎الطريق كان مهجورًا،

‎كأنّ أحدًا مسح المدن من الوجود، وترَكها وحدها في عالمٍ فارغ.

‎الأشجار كانت تميل كأنها تهمس لبعضها: "إنها تركض وحدها… لكنها ليست وحدها."

‎ضغطت على زر الأغاني…

‎صوت الطنين…

‎ثم اشتعلت الأغنية:

‎> “Happy nation… living in a happy nation…”

‎ابتسمت بلاك داون نصف ابتسامة، كأنها تستحضر شبحًا من الماضي:

‎بلاك داون:

‎"هذه الأغنية… لطالما أحبّتها شيماء… عزيزتي الصغيرة، أيّ قلب كان فيكِ..."

‎لكن ابتسامتها لم تُكمل طريقها.

‎لم تصل إلى العيون.

‎فجــــأة.

‎صرير… طقطقة… غليان الهواء.

‎شيء يقترب… لا، ليس يقترب…

‎إنه يركض خلفها… لا… إنه يُطارِدُها.

‎من مرآة السيارة الخلفية...

‎تظهر سيارة سوداء، ضخمة كأنها دبابة جحيمية.

‎المحرك يصرخ — لا، يعوي!

‎تجري بسرعة أكثر من 200 كلم/ساعة،

‎وهي تقترب… تقترب… حتى صار يفصلها فقط نَفَسٌ… رعشة… صرخة واحدة!

‎داخل تلك السيارة...

‎يقف "أكاي".

‎وجهه؟

‎ليس وجه إنسان.

‎بل كأنّ الغضب نحت قناعًا بملامح مجنون لا يعرف النوم.

‎عيناه؟

‎واسعتان إلى حدٍّ لا يُطاق، إلى حدٍّ لا يُسمَح به في قوانين البشر.

‎فمه نصف مفتوح…

‎ولسانه يهمس بشيء ما — ليس صوتًا، بل لُعنة، كأنّه يقرأ كتابًا لا يجب أن يُقرأ.

‎ثم...

‎ضوء أحمر… لا، ليس ضوء… بل طيف دموي يخترق الظلام.

‎أكاي (بصوتٍ يُكسر الزجاج في الرئتين):

‎"قــــــــــــــــــــــــــــــــــف هــــــــنــــــــــــــــــــــــــــــــــااااااااااا!"

‎الصوت لم يأتِ من الخارج…

‎بل من داخل عقل "بلاك داون".

‎توقّف الزمن، تجمّدت الأغنية،

‎وتحوّلت ألوان الطريق إلى رماد.

‎ضربت مكابح السيارة،

‎لكن كل شيء كان قد خرج عن السيطرة.

‎كل شيء صار جزءًا من مشهد مسرحي يكتبه "القدر" بدم.

‎السماء فوقها تصرخ…

‎الرياح كانت تمزّق الحقول على الجانبين،

‎وفي كل لحظة كانت ترى ظلّ "راغنا" في المقعد الخلفي… يبتسم لها… ثم يختفي.

‎الشارع لم يكن شارعًا.

‎بل صار كابوسًا.

‎أكاي اقترب.

‎مجنون… لا، ميت حي.

‎عيناه تقولان: أنا لن أقتلكِ الآن… بل سأجعلكِ تندمين أنكِ وُلِدتِ.

‎بلاك داون ضغطت على العجلات،

‎انحرفت يسارًا دون أن ترى الطريق.

‎ثم فجأة، ، الطريق ضاق،

‎ضاق كأنّه رحمُ جحيم.

‎لكن أكاي تبعها…

‎ليس بسيارته فقط…

‎بل بخيطٍ غير مرئي من الغضب — لا يُقطع، لا يُوقف، لا يُفهم.

‎ومن أعماق قلب "بلاك داون"،

‎خرجت جملة لم تسمعها منذ زمن:

‎"راغنا... سامحني، يبدو أنّي سألحق بك..

‎كانت سرعة السيارتين تصرخ.

‎الإطارات تلهث…

‎والطريق صار نصلًا يقطع الهواء.

‎كل ثانية كانت انفجارًا،

‎وكل زاوية في الشارع كانت كمينًا ينتظر السقوط.

‎بلاك داون كانت تضغط على دواسة السرعة كأنها تحاول تمزيق الزمن بقدميها.

‎السيارة تهتز… تصرخ… تتقيأ شررًا حارقًا من الخلف.

‎في المرآة؟

‎"أكاي" لا يزال خلفها.

‎بل أقرب مما ينبغي.

‎كلما حاولت أن تنعطف — هو ينعطف.

‎كلما انزلقت — هو يتقدّم.

‎السيارتان لم تعودا تركضان…

‎بل تتعاركان!

‎اصطدام — شرارة — عواء حديد.

‎أكاي صدم جانب سيارتها.

‎بلاك داون (تصرخ كمن يقاتل القدر):

‎"أنتَ مجنون! مجنون بحق الجحيم!"

‎لكن لا جواب.

‎فأكاي الآن…

‎لم يكن إنسانًا.

‎بل مخلوقًا يسير على حبل بين الحياة والموت،

‎عيناه تقولان: حتى لو هربتِ من السيارة، سألحق بك في أحلامك

‎في لحظة مجنونة…

‎زاوية ميتة.

‎جدار إسمنتيٌّ ضخمٌ يظهر فجأة.

‎بلاك داون لا تملك وقتًا.

‎ثانية… نصف ثانية…

‎قفزت!

‎خرجت من النافذة كأنها شظية من نار،

‎وتركت السيارة تصطدم بالجدار بسرعة 400 كم/س.

‎انفجار صوتيٌّ، دخان، زجاج يتطاير كأنّ المكان يتهشم داخليًّا.

‎سقطت على الأرض تتدحرج — جلدها تمزق…

‎كتفها انخلع…

‎لكنها نهضت.

‎نهضت مثل كابوس لا يموت.

‎ثم… بدأت تركض.

‎شوارع المدينة كانت مزدحمة.

‎ناس يمشون… سيارات تمضي… أطفال يضحكون…

‎ولا أحد يعلم أن "الموت" يجري بجانبهم بوجه امرأة ممزّق ويدٍ تنزف.

‎بلاك داون تركض…

‎تركض وكأن الهواء نفسه يُلاحقها ليمنعها من التنفس.

‎تمرّ بجانب مقهى…

‎رجل يحمل قهوة… يصطدم بها… القهوة ترتفع…

‎لكنها لا تنظر حتى.

‎خلفها…

‎أكاي نزل من السيارة.

‎لكنّه لا يركض.

‎بل يمشي.

‎يمشي وسط الزحام، والناس يبتعدون لا إراديًّا…

‎وجهه ثابت،

‎جسده كأنّه من حديد لا يُكسر.

‎الناس لا يرونه بوضوح،

‎يرون فقط ظلاً… لا، كابوسًا متحرّكً

‎لكن الزمن لم يعد طبيعيًّا.

‎فـ"بلاك داون" سمعت صوت خطواته فوق كل الأصوات.

‎سمعت صوته يهمس وسط ضجيج الشوارع:

‎أكاي (همس خافت، كأنه داخل رأسها):

‎"قــــــــف هــــــــنا..."

‎أرادت أن تركض أكثر…

‎أرادت أن تقفز فوق كل السيارات،

‎كانت تركض، وتركض…

‎وكل شيء خلفها يشتعل، يتمزق، ينكسر…

‎ثم فجــــأة…

‎لم تعد تركض إلى الأمام.

‎بل رأته.

‎كل شيء من حولها…

‎يجري بالعكس.

‎الناس يمشون إلى الوراء،

‎الطفل الذي سقط يعود إلى حضن أمه،

‎القهوة التي سُكبت على الأرض ترتفع إلى الكوب…

‎الهواء نفسه عاد يتلوى بشكلٍ معكوس.

‎ثم ظهرت سيارة في الأفق،

‎تعادت، تجمعت أجزاؤها، ثم عادت إلى الطريق،

‎وكل هذا… يحدث نحو مركزٍ واحد فقط:

‎نحو "أكاي".

‎كأن الزمن انقلب ليخدمه.

‎كأن كل الأكوان، حتى لو أُعيدت، يجب أن تمرّ به.

‎وبينما تشوهت الصور،

‎صارت الشوارع كأنها لوحة ملوّنة مشروخة…

‎الناس بلا ملامح، الأرض بلا ألوان،

‎وكل شيء يرتجف من بردٍ داخل

‎بلاك داون شعرت أن شيئا ما خطأ.

‎ليست هي التي تتحرك…

‎بل العالم كلّه ينسحب من تحت قدميها.

‎وشيء داخليٌّ فيها كان يصرخ:

‎"هذا هو… هذا هو الموت."

‎تنفست بقوة…

‎كأنها تغرق في نهرٍ من زجاج.

‎صوت "أكاي" خلفها

‎لم يكن صوتًا…

‎بل وزنًا على قلبها.

‎كأن خطاه تُدفن داخل عظامها.

‎بلاك داون (بداخلها):

‎"لا… لا أريد أن أموت… لا أريد…"

‎"لماذا؟ أنا… كنت فقط أريد حياة عادية…

‎أريد أن أجلس في صباح هادئ… أرتشف قهوتي… أنظر من نافذة بها ضوء…

‎كنت أريد أن أحب… أن أنجب طفلاً لا يعرف الكوابيس…"

‎"لكن العالم لم يسمح لي… كان كل شيء يهرب مني، كل شيء يحترق كلما اقتربت منه

‎صرخت.

‎صمت.

‎ثم… رفعت مظلّتها.

‎كانت يدها ترتجف،

‎لكنها رفعتها بقوة، كأنها ترفع أملًا قديمًا من قاع القلب.

‎فتحت المظلّة…

‎للهجوم لكن

‎خرجت تنانين من العدم بيضاء اللون، شفّافة، جميلة كالخرافة.

‎تطير بخفّة، كأنها فراشات من نعيمٍ سماوي.

‎تموجت من حولها… تلفّها… تلمس وجهها بأجنحتها الناعمة…

‎وكان الهواء من حولها يُضاء كأنها واقفة في حلم.

‎ثم… ظهرت صورة.

‎عائلتها.

‎أمٌّ تناديها…

‎أبٌ يحملها…

‎أخٌ نائم بجانبها.

‎كانت صورًا دفنتها الذاكرة…

‎نسيَت كيف تبدو وجوههم.

‎لكنها الآن تراهم…

‎يبكون فرحًا بعودتها.

‎ثم…

‎ظهرت صورة "شيماء".

‎بعينين تلمعان بالأمل… تلوّح لها… تبتسم لها…

‎كأنها تقول: "عودي، لقد اشتقنا إليكِ."

‎بلاك داون ابتسمت.

‎لكن شيئًا ما غريب…

‎لم تشعر بشيء.

‎لا دفء…

‎ولا ألم…

‎ولا خوف

‎أغلقت عينيها.

‎وكأن جسدها صار خفيفًا.

‎كأنها لم تعد على الأرض.

‎ثم…

‎سقَطَت.

‎الجسد ارتطم بالأرض،

‎والمظلّة تهتزّ فوقه بلطف،

‎والتنانين البيضاء… تذوب في الهواء كأحلام الطفولة

‎ماتت بلاك داون.

‎لا صراخ…

‎لا دماء…

‎فقط صمتٌ…

‎كأنّ السماء قد اعتذرت عن قسوتها،

‎وأعطتها موتًا جميلاً.

‎الشارع كان حيًّا… ‎لكن ما عاد كذلك. ‎ ‎الجدران تتنفس دخانًا، ‎والناس يهربون دون أن يعرفوا ممّاذا. ‎الأرض ترتجف… ‎ليس من زلزال… بل من رجلٍ واحد، يقف في قلبها… ‎ ‎ ‎ ‎أكاي. ‎واقفٌ هناك. ‎وفي يده… ‎رأس بلاك داون. ‎ ‎لا يحملها كغنيمة… ‎بل كجُرحٍ مفتوح… لا يريد أن يُشفى. ‎ ‎عيناها مفتوحتان، ‎وشَعرها يتدلّى كأنّه ستار جنازة. ‎يُحدّق في الرأس — لا بالبغض… ‎بل بالفراغ ‎ ‎الناس يركضون، ‎الأبواق تصرخ، ‎وهو لا يتحرّك. ‎ ‎ثم… ‎رنّ الهاتف. ‎ ‎اهتز جيبه… ‎لم يُجب. ‎رنّ مرة ثانية… ‎لم يُجب ‎ ‎في الثالثة، ‎سحب الهاتف بيده التي تقطر دماً، ‎وردّ. ‎ ‎صوت جاك، مهزوز، مضغوط: ‎"لقد تجمعت أكثر من ثلاثين فرقة في المنظمة… ‎اتصلت بالسيد موريس، قال إنه سيحضر غدًا، ‎قطعتُ كل الاتصالات بفرقة أوڨا كي لا يعلموا شيئًا… ‎أوه، والمعلومة الأهم: ‎موريس أبلغني أن (شو)… تم قتله. ‎قتله أحد أفراد أودجين… ‎وآخر خبر، ‎الفرق ما زالت تبحث عن شيماء والمختبرين، لكن لا جدوى… ‎لا أثر، لا ظل… لا شيء." ‎ ‎أكاي لم يرد. ‎يده تزداد تماسكًا على الرأس. ‎عيناه تتسعان، ‎كأنّ قلبه يفيض حريقًا لا يُطفأ. ‎ ‎جاك (بتردّد): ‎"هل… هل ؟" ‎قطعه أكاي :… اهرب، وحدك، سأبقى أنا هنا…" ‎ ‎ ‎لكنّ الصوت الذي خرج من فم أكاي، ‎لم يكن صوتًا بشريًا. ‎ ‎أكاي (ببطء، بنغمة خالية من الحياة): ‎" سأواجه تشاي؟" ‎"لا أدري أين ومتى… لكن أولادي… أولادي…" ‎"قُتلوا على يد ذلك القاتل." ‎ ‎صوته يرتجف... يرتفع... ينفجر: ‎"أريده ميتًا!" ‎"أريد قتل شيماء ‎ ‎جاك (بقلق واضح): ‎"ليس هذا الوقت، أكاي… أنت لست مستعدًا… هذا الجنون سيبتلعك!" ‎ ‎لكن الجواب لم يكن كلمة. ‎ ‎كان صمتًا. ‎ ‎ثم… ‎ ‎"كرااااك!" ‎ ‎أكاي أغلق الهاتف… ببطء… ثم رماه على الأرض. ‎ددد ‎ ‎الناس نظروا إليه، ‎بعضهم تجمّد، ‎بعضهم ركض أكثر ‎ ‎أكاي الآن لم يعد رجلًا. ‎ ‎بل مذبحة تنتظر أن تتكلم. ‎ ‎رفع رأس "بلاك داون"، ‎ثم تمتم بكلمات لا تُفهم، ‎كأنها تعاويذ لبعث الموتى… أو لاستدعاء جحيم جديد ‎ ‎"تشاي..." ‎"أقسم بروحي… سأقتلك ‎ ‎ومن خلفه، ‎انفجرت سيارة بلاك في الشارع… من شدة السرعة . ‎

2025/08/08 · 4 مشاهدة · 1518 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025