قبل ساعتين من موت بلاك داون 21:30

في أحد ممرات المدينة السوداء، تلك التي لا يمرّ بها الزمنُ إلا ليبصقَ رمادَه…

‎الريحُ تعوي ككلبةٍ طُردت من قبرٍ مفتوح،

‎الظلالُ تمضغُ النور بأسنانٍ سوداء،

‎والمباني كالعظام الباردة… تصغي.

‎امرأة تمشي.

‎خطواتها بلا صوت…

‎كأنّ الطريق يعرفها، أو يخاف منها.

‎تمشي، وفي إثرها ستةُ أطفال، لا كالأطفال… بل كأنّهم أرواحٌ لم يُكتب لها أن تنضج،

‎كالحشد… كالأمنية التي قُطعت قبل أن تنبت.

‎جين، أليكس، غاندي، آلما، سيبرو… وكيم.

‎أعينهم لا تلمع… بل تشتعل.

‎أنفاسهم ليست هواء… بل نذور.

‎وجوههم بيضاء، ولكن قلوبهم لا لون لها.

‎يمشون خلفها كأنها القدر.

‎لا أحد يتكلم، فقط المدينة تصرخ بصمتها.

‎وفجأة…

‎كأنّ أحداً نفخ في طين الوجود،

‎اختفوا.

‎لا صوت… لا أثر… لا زفرة.

‎ثم… ظهروا.

‎على أسطح البنايات، مثل أطيافٍ تلعبُ مع الغراب الأخير.

‎شيماء — تلك المرأة — رفعت يدها،

‎وأشارت إلى بيتٍ يبدو كأنه جُمع من صراخ الموتى.

‎بيتٌ لا نافذة فيه تُطلّ،

‎ولا بابٌ يُفتح،

‎لكنّ جدرانه تتنفس.

‎شيماء (بصوتٍ يحمل برد القبور):

‎"ذاك هو… المنزلُ "

‎غاندي (يرفع حاجبه، بابتسامة كمن يضحك من جثته):

‎"أمتأكدة؟ تقولين إنه ضعيف؟ أشعر انه يبلعُ الضوء كالثقوب السوداء."

‎سيبرو (يشمّ الهواء، كذئبٍ وُلد في المقابر):

‎"أنفي لا يشكّ… أنفي لا يكذب…

‎هناك وحشٌ،في الداخل

‎أليكس (يضحك ضحكة طفل يقطف جناح فراشة):

‎"إنه ينظر إلينا، حتى قبل أن نقرع بابه."

‎آلما (تتمتم كأنها تصلي ضدّ نفسها):

‎"شيماء… هل سندخل؟ هل سنخرج؟"

‎شيماء (بجمود من يعرف أن الموت مسألة ترتيب):

‎"سنكون بخير."

‎في قلب ذلك المنزل...

‎حيث الزمن لا يتنفس، بل يئن…

‎وحيث الجدران ليست طينًا، بل ذاكرة مجوّفة،

‎كانت الغرفة تنبض.

‎نعم، الغرفة نفسها تنبض… كأنها قلبُ كائنٍ قُطع ثم زُرع في جدار.

‎اللون؟

‎ليس أسود… بل أسوأ من السواد.

‎خيوط…

‎خيوط سوداء، ليست كنسيج، بل كأنها ضوءٌ من عُمْقِ الفراغ.

‎ضوء قاتم… يتلوى… يتنفس.

‎وكان هو…

‎تشاي.

‎جالسًا فوق كرسيٍّ قديم، كرسيّ لا يليق إلا بشيطانٍ أنهكته النبوءات.

‎عينيه ساكنتان… لكن في داخله، كانت حربٌ تعصف.

‎كان يعلم.

‎سبعة ظلالٍ قد دخلت منطقة الإحساس…

‎سبعة أرواحٍ تحمل بين أضلعها نية القتل… أو نية المعرفة،

‎وكلاهما، في قاموس تشاي، خطيئة.

‎كان بإمكانه أن ينهض، أن يمسحهم كما يُمسح الحبر عن صفحةٍ قديمة،

‎لكنه تجاهل…

‎أدار ظهره لهالتهم،

‎لأن هناك ما هو أعمق…

‎ما هو أقدم.

‎الغرفة حوله ترتجف،

‎والخيوط؟

‎الخيوط تخرج من يده.

‎ليست خيوطًا عادية، لا من حرير ولا من دم…

‎بل من شيءٍ لا يمكن تسميته،

‎شيءٍ حين تُحاول أن تفهمه، ينفجر جزءٌ من عقلك.

‎تمتدّ تلك الخيوط،

‎ترتفع، تنخفض،

‎تنسج حوله قبة، لا تُشبه إلا رحم الليل حين يُقرر أن يلد شيطانًا.

‎نظر إليها…

‎ثم همس:

‎> "إلى الآن… لم أفهم.

‎لماذا أنا؟

‎لماذا اخترتِني؟

‎لماذا أنا بالذات… كنتُ الوعاء؟"

‎وفجأة…

‎تشقق الهواء.

‎انفلق كجلدٍ تمزق من الداخل.

‎وخرج منه…ذالك

‎الكائن.

‎ليس له جسد.

‎لا عيون… لا فم… لا شكل.

‎لكن إن نظرتَ إليه…

‎قلت: كروي؟

‎ثم تعيد النظر… فتجد أنك كنت تكذب على نفسك.

‎هو ليس له شكل،

‎بل هو الشكل نفسه حين يفقد معناه.

‎"أنتم… من اخترتم."

‎قال الكائن، بصوتٍ لا صوت له.

‎بل كأن الجملة نُقشت داخل عظام تشاي، لا في أذنه.

‎> "أنتم… من قرر البقاء.

‎أعطيتموني جسدكم… لا مشاعركم فقط،

‎بل كلّ شيء…

‎وقلتَ أنت — وأنت لا تتذكر —

‎أن الموت ليس خيارًا…

‎تذكر… يا تشاي… تذكر."

‎ثم حدث الانهيار

‎تشاي لم يعد هنا.

‎بل في مكانٍ آخر.

‎في ذاكرةٍ لا تخصه.

‎في جسدٍ ربما كان له… وربما لا.

‎هلوسة.

‎منظوره كأنّه غُمس في زجاجٍ مكسور.

‎كل صورةٍ تُقطّع نفسها أمامه قبل أن يفهمها.

‎نساءٌ يابانيات.

‎من عصرٍ لم يعد موجودًا.

‎يرقصن في صمت،

‎فوق أرضٍ لا لون لها.

‎وجوههنّ بيضاء كالورق،

‎شفاههن حمراء كالخطيئة،

‎لكن أعينهنّ؟

‎ثقوبٌ تؤدي إلى الندم.

‎يشتعلن…

‎يرقصن والنار تشتعل،

‎لا لحن، لا صوت…

‎فقط النار تقفز كوحشٍ حر.

‎وجوه الناس من حولهنّ…

‎ماتت.

‎لكنها لا تزال تنظر.

‎الدماء…

‎أينما التفت تشاي، وجد دمًا،

‎ليس دمًا سائلًا…

‎بل كأن العالم طُلي بالأحمر القاني.

‎أحمرٌ بلا حياة.

‎أحمرٌ كثيف… كالكراهية.

‎ووسط كل هذا،

‎رأى نفسه.

‎طفلًا.

‎جالسًا بين تلك النسوة،

‎ينظر إليهنّ… يبتسم.

‎لماذا؟

‎لماذا كان يبتسم؟

‎من أين جاءت تلك الذكرى؟

‎> "أنا… لم أعش هناك…

‎لم أكن أنا!"

‎لكن الصوت بداخله قال:

‎> "بل كنتَ… وستظلّ."

‎قطعُ المشهد.

‎تشاي يعود إلى الحاضر.

‎الغرفة تنبضُ بقوة،

‎الخيوط تشتدّ،

‎الكائن ما زال واقفًا، بلا شكل،

‎لكنّ حضوره يُثقلك كما تُثقلك خطيئتك حين تُقرّ بها في الظلام.

‎"لقد بدأتَ تفهم، أليس كذلك؟"

‎قال الكائن.

‎> "أن تكون وعائي لا يعني أن تحويني…

‎بل يعني أن تصيرني.

‎يوماً ما، ستختفي، يا تشاي.

‎وسأبقى."

‎تشاي، بصوتٍ خافت، كمن يعترف:

‎> "ربما…

‎وربما أنا منذ البدء لم أكن أنا."

2025/08/08 · 4 مشاهدة · 799 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025