39-البقاء (1)

التوازن ليس عبئاً يحمله المرء، بل هو سيف يرقص عليه. كل خطوة تتطلب التضحية، وكل خطأ يرسل العالم إلى الفوضى. على الرغم من أن الوزن قد يقع على كتفي، إلا أن عقلي هو الذي يتحمل العبء الأكبر، ويتشقق تحت الضغط.

أنا مجرد وعاء فارغ، قوقعة من الألوهية مكلفة بالحفاظ على توازن الوجود. ومع ذلك، كل ما أردته هو حياة هادئة. حياة مع عائلتي، من لحمي ودمي. مع أخي. لكنني أحمق لأنني أؤمن بمثل هذا الحلم. هذا الفراغ المظلم الذي أجد نفسي محاصرًا فيه - هذه الهاوية القاتمة - هو سجني. مكان لا أستطيع الهروب منه.

لقد بحثت عن أخي عبر أيام امتدت لفترة أطول من حياتي الفانية، وكل لحظة من هذا البحث كانت محفورة في ذهني. ورغم ذلك فقد خانني. لقد كذب علي. لقد بصق على السند الذي تقاسمناه، وسحقه تحت أقدامه. إن الجروح التي أحدثها لم تكن بسبب النصل أو الفولاذ، بل بسبب خيانته. الآن، أنا مستلقي هنا، غارق في ثقل العالم، محاطًا ليس بالأحياء بل بالأموات. أجسادهم – أجسادنا – تراكمت فوق بعضها البعض في جبل أحمر بشع.

لقد حل الليل منذ زمن طويل، ولكني مازلت بلا حراك، غير قادر على الحركة. أنفاسي تأتي في شهقات سطحية، كل واحدة منها عبارة عن معركة بينما يضغط ثقل القدر الساحق بقوة أكبر. ماذا فعلت لأستحق هذا؟ يطاردني هذا السؤال، ويقضم روحي، بينما تنهمر الدموع على وجهي ونظري مثبت على القمر الأحمر الدموي في الأعلى. لونه يعكس اللون القرمزي الذي يلطخ كل شيء حولي: دمي ودمهم.

أرتعش، وجسدي يرتعش بين العرق والبرد. تنزف الأيام لياليًا، والليالي أيامًا، ومع ذلك أظل مشلولًا، وأطرافي مخدرة، وجسدي لا يستجيب. رن - أخي - يناديني بـ Golden Reaper. لا، ليس أخي بعد الآن. فقط رن. يقول سأقتله. يقول ذلك بكل يقين. تنجرف أفكاري إلى الضوء القرمزي الخافت المتسرب عبر صدع صغير في هيكل هذه السفينة الملعونة.

أرقد بالقرب من حافة كومة الجثث، وقد تحولت أطرافي منذ فترة طويلة إلى وزن ثقيل. برد الموت يتسرب إلى عظامي. معدتي تقرقر، فارغة لعدة أيام الآن. يأتي الدفء فقط على شكل دفعات عابرة بينما يستسلم جسدي لأبسط احتياجاته، ويلطخ سروالي بدفء شخي. رائحة العفن خانقة، والهواء مليء برائحة اللحم المتعفن وقذارتي.

تتراقص الديدان على جلدي، وتتلوى أجسادها الصغيرة على جسدي المتجمد. أنا جائع، معدتي حفرة لا نهاية لها من الألم القضم. في الليل، تهتز السفينة بلطف، مما يؤدي إلى تهدئة كومة الجثث في إيقاع غريب. لا أستطيع إلا أن أدير رأسي قليلاً إلى اليمين، ورقبتي متصلبة ومن المحتمل أن تكون مكسورة. كل حركة ترسل ألمًا حادًا يسقط في العمود الفقري.

القمر الأحمر معلق في سماء الليل، ونوره لعنة وراحة في نفس الوقت. عندما يأتي الصباح، تشرق الشمس الزرقاء، وتطلي السماء بألوان باردة عديمة الشعور. لكني أفضّل الليل. يبدو لون القمر الأحمر أقرب إليّ، وأكثر دراية. تحت نوره أبكي.

الأيام تطول، لكن لا أستطيع أن أحدد عدد الأيام التي مرت. اسبوع؟ اثنين؟ الوقت يطمس في الظلام. تظل عيناي محتقنتين بالدم، وقد اختفى اللون الأبيض منذ فترة طويلة، وحل محله اللون القرمزي. بشرتي شاحبة، وجسدي بارد. إذا تمكنت من رؤية نفسي، أشك في أنني سأتعرف على المخلوق البائس الذي أصبحت عليه.

حلقي يحترق من الجفاف، ولساني منتفخ ومتشقق. الديدان التي تزحف فوقي تصبح أكثر من مجرد آفات؛ هم الرزق. أعض الهواء، وألتقط اليرقات المتلوية التي تزحف بالقرب من فمي. قوامها غريب - مقرمش ولزج على حد سواء - ولكني أمضغها وأبتلعها رغم ذلك. هذا الفعل يثير اشمئزازي، لكني لا أستطيع تحمل ترف الكبرياء.

أسمع أصواتًا في الأعلى: رجلان، كلماتهما مكتومة ولكنها واضحة بما يكفي لتمييز لامبالاتهم. كلام تافه، ثرثرة لا معنى لها.

قلبي ينبض بضعف، لكن جسدي يبقى بلا حياة.

يستمر ضوء القمر الأحمر في التدفق عبر الشق، ويغمرني بوهجه الخافت. أرتجف، ارتعاش جسدي لا يمكن إيقافه الآن. تحتج رقبتي وأنا أرغمها على التوجه نحو مصدر الضوء، بعيداً عن الظلام الخانق. كانت الحركة مؤلمة، وألم حاد يمتد إلى أسفل العمود الفقري.

أمامي يكمن السواد، فراغ لا يملؤه سوى اللحم المتعفن وزحف الديدان بلا هوادة. تخرج أجسادهم الشاحبة من الاضمحلال، وهي تتلوى في البقايا المتقيحة. أنفي يضغط على القذارة، والرائحة الكريهة غامرة. معدتي تترنح، لكن ليس لدي ما أتقيأه. الجوع ينخرني، بلا هوادة ولا ينضب.

اليأس يدفعني إلى ما لا يمكن تصوره. يتحرك فمي من تلقاء نفسه، باحثًا عن الغذاء في الرعب الذي أمامي. الديدان، واللحم، أصبحا فرصتي الوحيدة للبقاء على قيد الحياة. أعض وأذوق الحديد وأتعفن. اللحم النيئ حقير، قوامه لزج وبارد، لكنني أجبره على النزول. يضيق حلقي، ويهدد بالتقيؤ، لكنني أبتلع، رافضًا أن يفلت مني النجاة.

احمر وجهي من الخجل، واختلطت دموعي بالقذارة على خدي. القمر يراقبني، لا ينضب في نظرته القرمزية. في كل مكان، هناك دماء. الدم الذي يلطخ، الدم الذي يبقى، الدم الذي يرفض أن يتركني أذهب.

تزحف الديدان الآن على وجهي، وتتلوى في أنفي وعبر شفتي. سمحت لهم بالدخول، وسحقتهم بين أسناني. تملأ رائحة الدم المعدنية فمي، وتختلط مع الطحن البشع لأجسادهم. تومض عيناي، المحتقنتان بالدم والضجر، نحو القمر الأحمر مرة أخرى.

تسحق الديدان بين أسناني، ويشبه قوامها الحليب الحامض الممزوج برقائق الذرة المبللة. معدتي تتألم وأنا أبتلع، والطعم الكريه يظل كالإهانة. لقد تكتمت ولكنني أجبرتها على النزول، والدموع تتدفق بشكل لا يمكن السيطرة عليه على وجهي المغطى بالدماء. يتشنج جسدي رافضًا الوجبة الهزيلة، فأتقيأ على نفسي، ورائحة العفن الكريهة تتفاقم الآن بسبب الصفراء. تناثر هذا الطين الغريب على الجثة المجاورة لي، وعاء زميل من الدم الأحمر، ومآخذه الفارغة المليئة باليرقات تحدق في داخلي بشكل فارغ. بصقت مرة أخرى، وأنظف حلقي، لكن رؤيتي تزعزعت. لقد اختفى القمر الأحمر.

أرقد هناك، أرتجف في الظلام الظالم، وثقل الموت يسحقني كما لو أن العالم كله يقع على كتفي. تتحول أفكاري بمرارة إلى رين. دائما إلى رن.

لماذا؟

لماذا يجب أن أعاني هكذا؟ ما الجريمة التي ارتكبتها حتى أستحق هذا؟ أم أنه بسبب خطايا "أنا" آخر - نسخة من نفسي لم أكن ولن أكون أبدًا؟ لقد عضضت بقوة، وأسناني تتآكل معًا بينما يتدفق الإحباط بداخلي. لا تتوقف الديدان التي تزحف على جسدي. إنهم يحفرون في طبقاتي الناعمة المتعفنة، وليمتهم لا تنتهي. هل هم بداخلي؟ هل احتلوا مساحات جسدي المجوفة، الأماكن غير المرئية التي لم أعد أشعر بها؟ أرتعد عندما أتخيلهم مختبئين في الشقوق المخفية في تشريحي، حتى في أعمق الفجوات وأكثرها خجلًا.

"أريد أن أعيش."

الكلمات تهرب من شفتي المتشققة والملطخة بالدماء، ليس بصوت أعلى من التنفس. يرتجف صوتي، ويختفي صدى العزيمة الخافت المدفون تحت طبقات من اليأس.

اسم رين باقي في ذهني. دموعي تجف، لكن جسدي يرتجف بشكل لا يمكن السيطرة عليه. ماذا سأفعل لو رأيته مرة أخرى؟ هل أرغب في ذلك؟ ليس هذا رن. وليس الشخص الذي خانني.

غياب القمر الأحمر يملأ الليل بفراغ خانق. أدفن وجهي مرة أخرى في الجثة الفاسدة فوقي، وأمزق اللحم المطاطي البارد بأسناني. يقاوم في البداية، لكن اليأس يقودني، فأمزق قطعةً منه، وأمضغها ميكانيكيًا. كان قوامه رديئًا، قاسيًا ولزجًا بسبب رائحة الدم القديم، لكني أجبرته على النزول، وأبتلعه بصعوبة. انفجرت الديدان على لساني، مما أضاف مرارة شديدة الملوحة إلى اللدغة المقززة.

هذا ما أصبحت عليه.

ليس رجلا. ولا حتى وحش. مجرد شيء أجوف يقضم الموت من أجل البقاء.

أعض مرة أخرى، بشراهة هذه المرة، مثل رضيع يرضع أمه. ولكن ليس هناك دفء هنا، فقط احتضان الموت الجليدي. أنا لا أتقيأ هذه المرة، حلقي جاف جدًا لدرجة أنني لا أستطيع التعامل حتى مع هذا التمرد الصغير. رأسي ينبض من الجهد، وعيناي تحترقان، وللحظة أتساءل عما إذا كانوا سيخونونني، إذا كانوا سيغلقون إلى الأبد.

لا.

الكلمات تتكرر مثل تعويذة في ذهني.

ليس بعد.

أغمض عيني، والسواد خلف جفني يعكس الهاوية التي حدقت فيها لأيام لا تعد ولا تحصى. ثواني؟ دقائق؟ لقد فقد الوقت كل معنى. يجر لساني فوق أسناني، ويجمع بقايا وجبتي البائسة. ترتعش شفتاي عندما أعض مرة أخرى، وأسناني تطحن معًا بنقرة خافتة يتردد صداها في ذهني بصوت أعلى من أي وقت مضى في الواقع.

وبعد ذلك أسمع ذلك.

أصوات.

"يا ويلسون، نحن على وشك الانتهاء من تسليم الشحنة. فقط بضع دقائق أخرى، وسوف نرسوا."

يجيب صوت آخر، خشنًا وواثقًا. "أسبوع من الإبحار، لكن الأمر يستحق العناء. عشرين إليس. تدفع عائلة Rosenmahl أعلى سعر لهذه الشحنة. لا عجب أنهم من أقوى العائلات في إليسيا ".

روزنمال؟

ترتعش شفتاي الجافة والمتشققة، ولأول مرة منذ أيام، أشعر بشيء قريب من الأمل. يتغير الوزن فوقي قليلًا مع ميل القارب، وألتقط قطعة من الضوء الخافت الدافئ تتسلل عبر كومة الجثث. تسحب الحركة رقبتي المتصلبة، ويمتد الألم إلى أسفل العمود الفقري.

أصر على أسناني وأجبر نفسي على التركيز.

أحد الأصوات يتحدث مرة أخرى، هذه المرة أكثر برودة، وأكثر قيادة.

"وماذا عن ذلك الرجل الذي ذكرته؟ الذي كان يعمل مع والدك؟"

صوت الصوت يرسل قشعريرة في داخلي، حادة ولا يمكن إنكارها.

إريكسون.

الأخضر.

ذهني يترنح، لكن شفتي تتجعد في أدنى تلميح لابتسامة. صوته كما أتذكره – ثابت، محسوب، خالي تمامًا من الدفء.

لقد خلصت.

--ملاحظة المؤلفين---

من الآن سيتم سرد القصة بضمير المتكلم.

2025/01/12 · 16 مشاهدة · 1384 كلمة
Shadow
نادي الروايات - 2025