44-وزارة فيينا (2)
لقد كنت أسقط منذ لحظات، وأنحدر إلى هاوية لا نهاية لها. ومع ذلك، أمامي الآن زقاق، وهو ممر مظلل يذكرنا بتلك الموجودة في مدينة تروبن. الهواء هنا كثيف، ومغطى بغطاء من الضباب، على الرغم من غياب اللون الأزرق البارد القمعي. بدلاً من ذلك، هذا المكان غارق في الظلام، أسود أعمق، حيث تأتي الإضاءة الوحيدة من التوهج الخافت للقمر الأبيض.
ليس أحمر.
ليس ذهبي.
أبيض.
تقف امرأة تحت ذلك الضوء الباهت، وقد تشابكت يدها حول يد فتاة صغيرة. تحدق الأم إلى أعلى، وعيناها الغائمتان مثبتتان على الكرة السماوية، ويلقي وهجها الضوء الفضي الخافت على الظلال الزاحفة. الطفلة التي بجانبها تبتسم ببراءة، وخدودها المستديرة تتوهجان بالحياة.
"فيينا، عزيزتي،" تقول الأم بلطف، على الرغم من أن نبرتها مليئة بالحذر، "لا ينبغي لنا أن نذهب أبعد من ذلك. الحدود ليست آمنة."
إنها تتردد، ثم تتنهد. على الرغم من انزعاجها، إلا أن ابتسامة رقيقة تزين شفتيها وهي تنظر إلى ابنتها. نظرتها معلقة على وجه الطفلة البريئة، وخدودها الممتلئة ترتعش قليلاً مع كل خطوة. كلاهما مزينان بملابس سوداء داكنة يبدو أنها تمتص ضوء القمر الخافت. الأجنحة، المطوية بشكل أنيق على ظهورهم، تتلألأ بشكل خافت بنفس اللون الأبنوسي مثل شعرهم.
تضحك الفتاة الصغيرة، وتسحب والدتها إلى الأمام. تبدو فرحتهم هشة وعابرة، كما لو أنها يمكن أن تتحطم بمجرد همس الريح. ثم فجأة، يتقلب العالم. يغمر الظلام رؤيتي، وأسمع صرخة - عويل يائس ثاقب يمزق الصمت.
"ماما! لا، لا تذهبي!"
الصوت صغير، يرتجف من الذعر. تمد فيينا يدها، وتحاول ذراعاها الصغيرتان الإمساك بوالدتها، لكن شخصًا آخر يمنعها من ذلك. لقد تم رفعها وحملها بعيدًا كما لو كانت دمية. يزداد صراخها ارتفاعًا، وأكثر جنونًا، بينما يتجمع الدم الأسود على الأرض.
يلمع النصل في ضوء القمر الشاحب.
أبيض. باهِر. ثقب.
يقطع السيف جسد والدتها بدقة لا ترحم. للحظة، تومض نظرة المرأة الباهتة، وتنطفئ حياتها في لحظة. يقف ملاك فوقها، أجنحتها نقية ومشرقة، مما يلقي تناقضًا صارخًا مع الظلال.
تظهر المزيد من الشخصيات — ملائكة، تتوهج أشكالهم مثل أشباح الدينونة.
لكن المشهد يتغير من جديد، بعنف، وكأن عقلي يُجر في عاصفة. الصور تغمر وعيي، كل واحدة منها أكثر حدة وألمًا من الأخرى. يبدو الأمر كما لو أن مطرقة تضرب جمجمتي مرارًا وتكرارًا وتشتت أفكاري.
أقبض على رأسي، وأكافح من أجل تثبيت نفسي. يتغير العالم مرة أخرى، وأجد نفسي في مكان آخر، مساحة كهفية خالية من ضوء الشمس. الهواء كثيف، قاسٍ، مضاء فقط بوميض ضوء الشموع الخافت. الجدران مبطنة بالجماجم، وأعينها المجوفة تراقب في حكم صامت. تحت قدمي، تبدو الأرضية الحجرية باردة وقاسية.
إنه قبر.
رجل يسير بجوار فيينا، وكان حضوره آمرًا ومرهقًا في نفس الوقت. شعره، الذي كان أسودًا، أصبح الآن مخططًا باللون الرمادي، وأجنحته - الممزقة والمكسورة - تسير خلفه مثل بقايا معركة منسية. ترسم أصابعه الضعيفة ملامح الجدران المحاطة بالجمجمة، وصوته ثابت ولكنه كئيب.
"الموت، أيها الطفل، ليس صديقًا لطيفًا"، يقول، وكلماته تتردد في السكون، "بل لص صامت. إنه يأخذ كل ما كنت عزيزًا عليه في السابق، ويتركك أجوفًا، مجردًا من الكبرياء والحيازة. إنه يراقب، ينتظر دائمًا، لا مفر منه ولا ينضب – قاضيًا بلا رحمة. ومع ذلك، ففي أحضانها الباردة تكمن حقيقة نحن نكره قبول الوعد بها لجميع الأحياء. لا يوجد مفر ولا ملجأ. إنه يتركك عاريًا، دون أي شيء سوى ثقل اختياراتك وظلال الإرث الذي تتركه وراءك. الموت ليس البداية يا طفلتي، بل النهاية، نقطة ترقيم أخيرة للقصة التي تكتبها.
يتوقف الرجل، ونظرته بعيدة، كما لو كان يحدق في هاوية غير مرئية. يخف صوته، وتلامس يده المرتجفة جدار الجماجم مرة أخرى.
ويتابع قائلاً: "لا تخافوه، فهو ليس العدو. إنها مرآة تعكس مجموع حياتك. ليس المهم كم من الوقت تعيش هذه الأمور، بل كيف تسير في الطريق نحوها. واجه الأمر بشجاعة، وعش بكرامة، وعندما يأتي، قابله برأسك مرفوعًا. لأنه في النهاية يا صغيرتي، ليس الموت بل العلامة التي تتركها في هذا العالم هي التي تحدد إرثك.
تستمع فيينا بصمت، ورأسها منحني. إنها لا تزال صغيرة جدًا، لكن عينيها تحملان ثقلًا يفوق عمرها.
يتغير المشهد مرة أخرى.
الألوان تنفجر في الأفق، نابضة بالحياة والمبهرة. تتدلى البلورات من الجدران، وينكسر ضوءها إلى مجموعة من الألوان التي تتراقص عبر الكهف مثل الأرواح العابرة. يبدو الأمر سخيفًا تقريبًا - هذا المشكال من الجمال يقع على اللوحة القاتمة التي أمامي.
يرقد الرجل العجوز بلا حراك على الأرض، وجسده الضعيف ممتد على الأرضية الحجرية. تقف فيينا فوقه، وجسمها ساكن ومهيب. أستطيع أن أشعر بحزنها يشع منها، قوة صامتة لا تنضب. نظرت إليه، تعبيرها غير قابل للقراءة.
يثير هذا المنظر ذكريات في داخلي – ذكريات بيل، بينما كان جسده يُنزل إلى الأرض، والألم المجوف الذي أعقب ذلك.
يومض ضوء البلورات، ملقيًا ظلالًا متغيرة على شكل فيينا. لم تعد طفلة. تقف طويلة ومتوازنة، وشعرها الأسود يتدفق مثل نهر من الحبر. ملابسها - داكنة وأنيقة، منسوجة من ألياف نانوية - تلتصق بجسمها، ويلتقط لمعانها المعدني الضوء الخافت. تعمل الألواح السوداء على تقوية درعها، وتبرز كتفيها وذراعيها وفخذيها، مما يمنحها جوًا من الأناقة والقوة.
تحيط بها العشرات من الشخصيات، وأجنحتها مطوية، ووجوهها مغطاة بالظل. يحمل البعض لونًا بنيًا باهتًا على بشرتهم، وأشكالهم ملفوفة بالسلاسل أثناء قيامهم بسحب البلورات من أعماق الكهف. آخرون، شاحبون والطيفيون، يبقون في صمت.
ظلت فيينا ساكنة ورأسها مرفوع.
يبدأ جسد الرجل العجوز في التحلل ويتحول إلى دخان أسود، ويستهلك الظلام شكله. الضوء الصادر من خافتات البلورات، تتلاشى ألوانها مع تصاعد الدخان إلى أعلى، جائعة ومستهلكة.
"سوف يجد أندروميد السلام، فيينا،" يقول صوت يقطع الصمت. "لكن يجب علينا أن نتحرك. "الجيش الأول من الملائكة في طريقه، وهم يعتزمون تدميرنا."
الهواء يتحول. تم استبدال السكون الحزين الذي سيطر على الغرفة بالإلحاح. تستقيم الأشكال المتجمعة، وتتكشف أجنحتها بينما تستعد للطيران. يصعدون من خلال فتحات خشنة في سقف الكهف، وأشكالهم الظلية صارخة في مواجهة الضوء المتضائل.
بقيت فيينا للحظة والدموع تتلألأ في عينيها الداكنتين. حزنها واضح، لكنها لا تتعثر. وهي تقبض قبضتيها، وتصلب عزمها.
ومرة أخرى يتغير المشهد.
أرى الآن من خلال عينيها، وهي تحدق إلى الأعلى في السماء - فراغ أسود، مشوب باللون الأحمر بشكل طفيف. على مسافة بعيدة، تتصادم الظلال ضد بعضها البعض: أشكال بيضاء وسوداء تتقاتل في المعركة. يرتجف الهواء من قوة ضرباتهم، وتصطدم أشعة الضوء برشقات من النار السوداء.
المعركة بعيدة من داخل الكهف، لكن شدتها لا يمكن إنكارها. تتشوش رؤيتي، وترفرف عيناي، وتتلاشى الصور في الظلام.