الفصل التاسع عشر: مقهى الفجر [2]
الجو في الخارج كان غارقًا بالعتمة، والأمطار تنهمر كالسياط على الأرض، كأن السماء تبكي بحرقة. كانت قطرات المطر ثقيلة، تحفر الأرض تحت أقدام الفتاة الصغيرة التي وقفت وحدها وسط الفوضى، جسدها الصغير مبلل بالماء، يلتصق به ثوبها كأنه يحاول إخفاء الهشاشة التي تلتف حولها. نظراتها جامدة، باردة كالصقيع، تحدق في الجثث المترامية حول القصر المدمر.
الجثث متناثرة كأشجار مقطوعة، وكل شيء كان ينبض بالصمت المميت. لا بكاء، لا صراخ، لا شيء سوى صوت المطر وهو يقرع بلا هوادة، وكأنه يتآمر مع الرياح لينسج سيمفونية الحزن واليأس.
“لقد كنت مخطئًا يا أبي…” تمتمت الفتاة بصوت مبحوح، عينيها تحترقان بالغضب المكتوم.
بكل خطوة تتخذها، كان المطر يزداد غزارة، وكأن الطبيعة تحاول غسل خطايا الماضي. “كل هذا حدث بسبب رحمتك… رحمتك التي قتلتهم.”
التفتت الفتاة دون أن تلقي نظرة أخرى على الجثث، وكأنها قد أدارت ظهرها لكل شيء كانت تعرفه. “سوف أحقق انتقامي… ولكن ليس كما فعلت أنت، سأجعلهم يتوسلون للرحمة التي لم أعد أعرف معناها.”
**
في زاوية معتمة من مقهى صغير، تجلس صوفيا بعيونها المرتجفة، نظراتها متوترة تجاه بايل الذي يتكئ بهدوء على الطاولة، يُظهر لامبالاة قاتلة وهو يلعب بأصابعه فوق سطح الخشب المبلل من الكؤوس المبعثرة.
“إذن… هل نتحدث عن السعر الآن؟” صوته جاء رقيقًا، لكنه كان يحمل في طياته تهديدًا خفيًا. عينيه تتسعان، وتلمعان بنور باهت أشبه بنظرات مفترس يُحضّر لابتلاع فريسته.
صوفيا شعرت بقشعريرة تخترق جسدها، تحول تعبيرها من الحذر إلى الكراهية الصافية. لم تستطع أن تفهم بعد مدى خطورة الموقف.
“لماذا تنظرين إلي كأنني وحش؟” قال بايل بابتسامة هادئة. “أنت من هاجمني أولًا، أليس كذلك؟ على أي حال، هذا ليس موضوعنا الآن.”
ارتخى في جلسته وتحدث بنبرة أكثر تهديدًا، “أريد أن أعرف… كم تساوي حياتك؟”
تجمدت الكلمات في فم صوفيا، قلبها ينبض بسرعة تكاد تسمعها في أذنيها، شعرت وكأن الهواء قد سُحب من الغرفة. حاولت أن تتحدث، لكن الرعب تسلل إلى أعماقها وجعل جسدها يتجمد.
“لماذا لا تفتحين فمك؟” استمر بايل بابتسامة ملائكية، لكنها كانت تحمل خلفها شبحًا من الشر المطلق. “أم أنك لا تساوين شيئًا؟”
كانت ابتسامته بالنسبة لصوفيا ليست سوى انعكاس للشيطان الذي يقف أمامها، يلعب معها كدمية معلقة بخيط رفيع. حاولت أن تحرك جسدها أو تفتح شفتيها، لكنها كانت كالأسيرة، مشلولة تمامًا تحت ضغط هائل لم تستطع تفسيره.
نظر بايل إلى حراسها الشخصيين بابتسامة ساخرة، “ألم يكونوا يحاولون تقيدي قبل قليل؟” التفت إليهم، وكأنه يتفحصهم. “إذاً، لنلعب لعبة صغيرة.”
ارتفع حاجبا صوفيا في دهشة لا توصف. “إذا لم تذكري لي السعر المناسب لحياتك، كل ثلاث ثوانٍ سيتم قتل أحد تابعيك.”
بدأ العد بصوت هادئ، كأن الأمر ليس سوى تسلية. “واحد…”
كان الذعر يعصف في قلب صوفيا، توسلت في داخلها أن تجد صوتها، أن تجد الشجاعة لتتحدث، ولكنها لم تستطع.
“إثنان…”
كانت شفتا بايل ترتفعان ببطء، ابتسامة عريضة تشق طريقها على وجهه، مستمتعًا برؤية الرعب يتسلل إلى قلبها.
“ثلاثة…”
صمت مطبق. لم يحدث شيء… في البداية.
ثم، فجأة، سمعت صوتًا مرعبًا بجانبها. التفتت بسرعة لترى جسد أحد حراسها يسقط، لكن ما رأته كان أكثر مما يمكن أن يتحمله عقلها.
نصف جسده كان مفقودًا… من الخصر إلى الرأس، لا شيء سوى فراغ، كما لو أن شبحًا مرّ وابتلعه.
ثم انفجرت الدماء من الجسد المتبقي، وكأنها نافورة شيطانية، تلطخ الأرض والهواء برائحة الموت.
“واحد…” كرر بايل ببرود.
التفتت صوفيا إليه بعيون فارغة، وجهها أصبح شاحبًا تمامًا، ارتجافها أصبح لا إراديًا، شعرت وكأنها تغرق في بحر من الجنون.
صوفيا أدركت بوضوح، ولأول مرة، أنها في قبضة شيطان يرقص بها كما يشاء. كانت كلمات بايل تُنسج بخيوط من الخوف، تحيط بها من كل جانب، كغلالة ثقيلة تُخنق أنفاسها. لم يكن هذا مجرد تهديد عابر؛ بل كان فنًا مرعبًا يُمارَس على أنفاسها، حيث كل حركة تُعتبر خطوة في رقصته الماكرة.
تلاشت الذكريات في عقلها، لكن صورة والدها وهو يُعلمها عن الرحمة والرأفة ظلت عالقة. القيم و الذكريات التي كانت تعتز بها أصبحت هزيلة، كأوراق شجرة تُعصف بها رياح عاتية. في هذا المكان المظلم، تحولت الرحمة إلى ضعف، والقسوة أصبحت سيدة الموقف.
عندما نظرت إلى عيني بايل، شعرت وكأنها تنظر إلى عمق بئر مظلم بلا قاع، حيث تُخفي أسرارًا تفوق حدود الخيال. لم تكن مجرد ضحية، بل كفأر في مصيدة، يُراقَب بينما هو يستمتع بمشاهدتها تتخبط في يأسها. كانت عينا بايل مثل أفق مظلم، تحمل في طياتها عواصف من الألم.
مع كل لحظة، كانت أذرع الخوف تلتف حولها، تُخنقها حتى باتت عاجزة عن التفكير. كأنما الوقت توقف، وأصبحت الساعات تتلاشى في دوامة من الرعب. “ماذا لو كانت هذه اللحظة بداية النهاية؟” كانت تسأل نفسها، لكن الصوت الذي يُجيبها كان صوت بايل، هادئًا ومُربكًا، مُخاطبًا أعماقها بنبرة جليدية: “أنتِ لا تساوين شيئًا.” كأن تلك الكلمات تُحفر في روحها، تُخلف جراحًا عميقة، وتجعلها تدرك انعدام السيطرة على مصيرها في هذا العرض المروع.
“اثنان.”
صوت بايل كان باردًا كالصقيع، يزحف كالأفاعي داخل عقلها، يدمر أي بقايا من هدوئها. الحراس الشخصيون حاولوا التحرك، أجسادهم ترتجف بشدة حتى أن العروق البارزة كادت تتمزق من تحت الجلد. كل حركة كانت تُستنزف فيها قواهم، لكن لم يكن هناك فائدة. بدا وكأن الفضاء ذاته يقيدهم، يجعلهم عاجزين تمامًا أمام قوة خفية.
“ثلاثة.”
صمتت الغرفة مرة أخرى، ولم يكن هناك سوى صوت الرياح القادمة من الخارج. صوفيا، وهي ترتجف، أدارت ببطء رأسها نحو الحارس الذي يقف على يسارها.
نفس المصير. نصف الجسد من الرأس إلى الخصر قد اختفى كأنه تبخر. جسده المتبقي انهار على الأرض كدمية مفككة، والدم بدأ يتسرب منه ببطء، مشكلًا بحيرة حمراء تحت قدميها.
أغمضت عينيها، شعرت بالدوار، وكأن العالم نفسه بدأ يغلق عليها.
“واحد…”
مر الوقت ببطء مرعب، كأن كل ثانية تحمل في طياتها وزنًا لا يُحتمل. الأرض البيضاء التي كانوا يقفون عليها تحولت إلى ساحة مغطاة بالدماء. لم يبقَ سوى صوفيا وحارسين شخصيين.
لم يكن هناك أمل. شعرت أن حياتها أصبحت مجرد لعبة لهذا الشيطان الجالس أمامها. كانت تستطيع أن ترى البهجة الملتوية في عينيه، متلذذًا بمشاهدتها وهي تنزلق في دوامة اليأس.
ثم، دون سابق إنذار، لوح بايل بيده.
واختفى الضغط.
“هوف… هوف…”
كانت أنفاس صوفيا ثقيلة، كأنها خرجت للتو من قاع البحر. جسدها بأكمله كان يرتجف، وكأن الهواء ذاته أصبح سميكًا بما يكفي ليخنقها.
“إثنان…”
صوت بايل قطع سكون اللحظة.
“عشرون!!!”
صوتها كان متحشرجًا، كما لو كانت تسحب نفسها من حافة الهاوية.
“عشرون ألف قطعة ذهبية! أرجوك، دعني أذهب!”
بيد مرتجفة، رمت بطاقة سوداء نحو بايل. التقطها بيده برفق، ونظر إليها بتفحص. البطاقة سوداء بالكامل، مرسوم عليها شعار جمجمة بيضاء.
“هذه البطاقة تحتوي على عشرين ألف قطعة ذهب.”
قالت صوفيا بصوت مكسور، “الرقم السري هو… قهوة القلب الأسود.”
نظرت إليه بتوسل، بينما ابتسم بايل تلك الابتسامة الهادئة التي جعلت كل خلية في جسدها ترتعش.
“حسنًا…” قال بايل ببطء، “كما وعدت، سأبقي على حياتك.”
ثم ابتسم ابتسامة أكثر اتساعًا. “ولكن من قال أنني سأدعك تذهبين؟”
فرقعة أصابعه كانت كإشارة لأرون. في لحظة، ظهر أرون أمام صوفيا، يضع كفه على رأسها.
طاقة سوداء، كثيفة كالدخان المتصاعد من جهنم، بدأت تتجمع في كفه، ثم انطلقت نحو رأس صوفيا كالسهم.
“أااااه!!… غغغغغغغغ!!!”
صراخها كان لا يحتمل، وكأن آلاف المسامير قد اخترقت جسدها في لحظة واحدة. الألم كان يغزو كل عصب من أعصابها، يمزقها من الداخل. استمر الصراخ لمدة نصف دقيقة، بينما جسدها يرتعش بلا سيطرة.
ثم، فجأة، توقف كل شيء.
نزع أرون يده من رأسها، وسقطت صوفيا على الأرض، جسدها منهك تمامًا.
غطى وجهها الحجاب الأحمر، الذي سقط ببطء كما لو كان يرفع الستار عن عرض مأساوي، ليكشف عن امرأة رائعة الجمال، تجسد سحرًا غامضًا. شعرها الأسود، الذي يتلألأ كالليل الدامس، يتدفق بسلاسة إلى كتفيها، كأنه ينتمي إلى أسطورة قديمة. عيناها الرمادية، المليئتان بالخوف والقلق، تشبهان عواصف سحابية، تعكسان عتمة الروح والعمق العاطفي، وكأنهما تحكيان قصصًا عن فزع لا ينتهي.
على ظهرها، بدت علامة سوداء صغيرة كوشم الريشة، غارقة في الدماء، كأنها تجسد دموع السماء. تلك العلامة، المحفورة بلطف ولكن بوحشية، كانت تروي حكاية من الألم والمعاناة، تطوقها كجروح الماضي. بشرتها الفاتحة كانت تتباين بشكل صارخ مع الظلال الداكنة للوشم، مما أضاف بعدًا مهيبًا لصورتها.
كان كل شيء فيها يتنفس الأسى، كما لو كانت تعيش في حالة من الترقب، تبحث عن خلاص في عالم مليء بالخراب. تعابير وجهها، التي كانت مليئة بالقلق، كانت كرسومات غامضة تنقل قصة صراع بين الجمال والهشاشة، مما يجعلها كائنًا أسطوريًا يتحدى الفناء، ليترك أثرًا في قلوب من ينظر إليها.
تحدث بايل بصوت هادئ، وكأن ما حدث لتوه كان أمرًا تافهًا.
“من الآن فصاعدًا، ستعملين تحت إمرتي.”
نظر إليها بحدة، عينيه كانتا كأعماق هاوية لا قاع لها.
“افعلي ما تفعلينه دائمًا، ولا تحاولي البحث عني أبدًا.”
ثم أكمل ببرود، “آه، ولا تبيعي أي معلومات عن المنطقة المدمرة أو تتحرين عنها.”
نهض من مقعده، وألقى نظرة خاطفة على الحارسين الشخصيين اللذين فقدا الوعي بجانبها.
“اقتلهم. لا أحتاج إلى شهود.”
ثم خرج من الغرفة.
في لحظة، اختفى رأس الحارسين، وكأن سيفًا غير مرئي قد شطرهما نصفين.
تبع أرون بايل بهدوء، وأغلق الباب خلفهما.
تركت الغرفة غارقة في الدماء، امرأة مدمرة تسقط على الأرض، وجثث مشوهة تتناثر حولها.
في الممر الطويل والمظلم، تحرك بايل ببطء، وأرون يتبعه بخطوات هادئة.
كسر الصمت أخيرًا، وقال بايل دون أن ينظر خلفه، “هل وضعت عازل الصوت؟”
أجاب أرون بنبرة هادئة، “أجل، سيدي.”
“لقد أحسنت صنعًا.”
نظر بايل إلى يده للحظة، محاولاً استيعاب ما حدث. على الرغم من المجزرة التي شهدها للتو، لم يرمش له جفن. كانت الأضواء الخافتة تعكس ظلالًا مروعة على جدران المكان، لكن كل ذلك بدا له وكأنه جزء من روتين يومي، شعور غريب يتسرب إلى أعماق روحه.
هدوء لا يُفنى، يبعث على الاستغراب. كان هذا الهدوء بمثابة سلاح ذو حدين، يمنحه عقلية لا تتزعزع بينما يفصل بينه وبين إنسانيته. كانت تلك اللحظات المظلمة تذكره بتلك اللحظات الفارغة في حياته، حيث كانت المجازر تحتل مكانة طبيعية.
أما صوفيا، فكان مصيرها محتوماً. حتى لو لم يفعل شيئًا، كانت ستصبح رئيسة في جمعية الأفق المظلم، تلك المنظمة الخفية التي تتحكم في السوق السوداء، تسيطر على كامل المنطقة الثانية وأطراف المنطقة الأولى. كانت امرأة داهية تستخدم عقلها كالسيف، تُدير الأمور بذكاء يثير الإعجاب.
لكن ما فعله آرون لها كان شيئًا فريدًا. كانت “وصمة الحد”، مهارة مرعبة تُعطي للعبيد، بحيث يُشعرون بعذاب لا يُحتمل إذا تجرأوا على التفكير في الخيانة. تلك المهارة لم تُعلّم بشكل صحيح، إذ لم يكن بايل يتذكر تفاصيل الرواية التي تعلمها منها. لكن آرون، بعقليته العبقرية، استوعبها بسرعة، وكأنها تنبض في عروقه.
من خلال وضع جزء من مانا الخاصة به في قلب وعقل صوفيا وربطها بنفسه، أصبح هناك رابط عميق لا يُفك. أي فكرة مشؤومة تراودها عن التمرد كانت تعود إليها كعذاب قاسٍ، يجتذبها نحو الانصياع.
“لكن لا يمكن استخدام هذه المهارة مع من هو أقوى منك…” فكر بايل، مُدركًا أنهم يتعاملون مع شخص مثل آرون، الذي يُعتبر الرئيس النهائي.
كان قلقه بشأن صوفيا يزداد، خاصة عندما قال لها ألا تبيع معلومات عن المنطقة المدمرة نتيجة القتال بين آرون ولافير. كان يعلم أن فضول الآخرين قد يتحول إلى خطر، وأن أي شائعات يمكن أن تُستغل من قبل شخصيات قوية. كانت تلك المنطقة الآن قاحلة، محاطة بإشعاعات قاتلة تفوق إشعاع الجاما، ناتجة عن قتال لا يُمكن وصفه.
“الحكومة ستحتاج وقتًا طويلاً لعلاج تلك الأرض الميتة…” همس بايل، وهو يحاول استعادة تركيزه.
ثم، مع تقدمهم نحو نهاية الممر، استقبلهم باب ضخم مزخرف برموز غامضة. فتح بايل الباب بحذر، ليجد نفسه في غرفة واسعة مُضيئة بسحر غريب. كان هناك رجلان يرتديان لباس الساحر، يتوسطهما دائرة سحرية تُشع بألوان مُتلألئة، وكأنها تأخذهم إلى عالمهم الخاص.
“إذاً، هل نعود للمنزل؟” سأل بايل، وهو يتأمل الأموال التي جناها من وراء صوفيا. كانت أفكاره تتجول بين الكسل وراحة البال، حيث كانت المكاسب تدعوه للاسترخاء في زاوية دافئة، مستمتعًا بصوت الهمسات الخفيفة في الخلفية.
~~~
أعذروني على الأخطاء، ولا تنسوا التعليق في الفصول…