الفصل العشرين: مثيرة لشفقة.

بعد يومين.

جلس بايل على الكنبة في المكتبة، محاطًا بجدران الكتب المتراصة، ينظر بملل نحو سقف الغرفة. الزمن بدا كأنه يتباطأ، وسكون المكتبة كان كثيفًا، يعزف صرير الخشب تحت وزنه سيمفونية بطيئة.

• صرير *

ثم رنَّ الجرس الخارجي.

“درينغ -

“سيدي، لقد عدت.”

ألقى بايل نظرة جانبية باردة نحو آرون، الذي دخل بهدوء مهيب، محملًا بمهمته. صمتت المكتبة للحظات بينما راقبه بايل من خلف رموشه الكثيفة.

“إذاً، هل سحبت كل النقود؟” سأله بايل بصوت رتيب، كما لو أن المال نفسه كان مجرد تفصيل عابر.

لوح آرون بيده، وفي لمح البصر، انشق الفضاء أمامهما. انفتح الشق بطريقة مظلمة وكأنها تبتلع الضوء، ليظهر بداخله فضاء مظلم تتكدس فيه أكوام هائلة من الذهب اللامع، تتلألأ تحت ضوء خافت ينبعث من الشق نفسه. سرعان ما أُغلق الشق مرة أخرى، واختفت معه الثروة الهائلة وكأنها لم تكن.

“لقد واجهت مشكلة في جمع كل هذا المال،” قال آرون بابتسامة خفيفة، “أصر مدير البنك على أنني بحاجة إلى حارسين شخصيين.”

“ظنّ أنهم سيسلمونني المال في عربة،” أضاف ضاحكًا قليلًا. “لكن عندما فتحت شق الفضاء وابتلع كل الذهب، كاد أن يسقط فكّه من الصدمة.”

ابتسم بايل برفق، لم يكن مفاجئًا له أن يحدث هذا. الأشياء الغريبة أصبحت جزءًا من حياته اليومية.

“حسنًا، إذًا، ماذا نفعل الآن؟” سأل بايل بصوت ناعس.

“همممم؟” تساءل آرون وهو ينظر إليه بنظرة استفسار.

“آه، صحيح…” قال بايل فجأة وكأنه تذكر شيئًا.

“آرون، هل سمعت عن أي مزاد سري سيُقام قريبًا في المدينة؟”

نظر آرون إلى بايل بدهشة طفيفة، سؤاله غير متوقع تمامًا، لكن في عالم الغموض الذي يعيشانه، ليس غريبًا تمامًا.

“أعتقد أنني سمعت شيئًا خلال طريقي، يُقال إن هناك مزادًا بعد يومين.”

“همم، إذًا بعد يومين…” تمتم بايل لنفسه وهو ينظر نحو النافذة. الشمس كانت تميل نحو الغروب، متخلية عن مكانها للظلال الطويلة التي غطت الشوارع. الوقت قد تسرب بين يديه، كما يفعل دائمًا.

“حسنًا، آرون، أريد كوبًا من القهوة.” قال بايل فجأة، وكأن التفكير في المزاد جعله يشعر بالحاجة إلى التركيز.

“مفهوم، سيدي.” انحنى آرون بخفة واتجه نحو المطبخ.

بايل جلس صامتًا للحظة. مزاد باندورا…

كان المزاد واحدًا من تلك الأحداث الغامضة التي تُباع فيها الأشياء النادرة والخطيرة. كان يعلم أن هناك قطعة محددة ستظهر، قطعة لا يحتاجها لكنه يعرف قوتها.

خاتم أسداموس.

أسداموس، شيطان قوي بمستوى 77، لم يكن تهديدًا في مواجهة القوة التي يعرفها بايل الآن. لكن السحر الأسود الذي يُجيده هذا الشيطان كان مقارنًا بملوك الشياطين أنفسهم.

“قد يكون من المثير الاطلاع عليه…” همس بايل لنفسه، معبرًا عن شوق غير مُعلن.

لم يستطع جسد أسداموس تحمل كل تلك المعرفة التي تراكمت عبر الزمن. قوته، رغم عظمتها، لم تكن بلا حدود. ومع مرور الأيام، اصطدم بحد موهبته. لم يعد قادرًا على تحقيق المزيد من التطور. بدلاً من زيادة قوته، اختار أسداموس ترك بصمة خالدة قبل موته.

قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، قام بتقسيم روحه إلى ثلاث أقسام، وزرعها في ثلاثة خواتم مختلفة. تلك الخواتم تحمل قوة ومعرفة لا تقدر بثمن، يمكن لمن يمتلكها أن يرث الحكمة العميقة للسحر الأسود الذي برع فيه أسداموس.

في اللعبة، الشخص الذي حصل على هذه الخواتم في النهاية لم يكن سوى شرير متوسط، سيد منظمة خفية تتحرك في الظل. لم يكن خصمًا حقيقيًا أمامي أو أمام آرون، خاصةً أني انا من يمتلك مكتبة الغموض، نفس المكتبة التي تحتوي على المعرفة الكلية. لكنني لم أكن راضيًا بفكرة ترك قطعة مخفية دون جدوى، حتى لو كانت بلا قيمة واضحة.

على أي حال، جربت في اللعبة كل شيء تقريبًا. لكن… هذا ليس مجرد لعبة. إنه العالم الحقيقي، والفرص هنا قد تحمل نتائج غير متوقعة. لماذا لا أحاول تحويل شخص عديم القيمة إلى شخصية قوية؟

بينما كنت غارقًا في أفكاري، قاطعني صوت مألوف.

• صرير *

• درينغ - *

رنَّ الجرس مجددًا، ليعلن عن وصول زائر. التفتت نحو باب المكتبة ببطء.

دخلت فتاة تبدو في التاسعة عشرة من عمرها. شعرها أسود قصير، وعيونها سوداء، وجسدها نحيل لكنه جميل. بدت متوترة قليلاً وهي تنظر حول المكتبة بفضول.

لاحظت وجودي بعد لحظة من التأمل، وحين التقت أعيننا، ابتسمت ابتسامة خفيفة، ربما لتخفي توترها.

“مرحبًا بكِ في المكتبة.” قلت لها بنبرة هادئة وجذابة.

“أي نوع من الكتب تبحثين عنه؟” سألتها وأنا أراقب رد فعلها.

نظرت إلي للحظة قصيرة، ثم قالت بتردد، “مرحبًا، اسمي إيفا. لا أدري، أريد فقط إلقاء نظرة.”

اسم لم أسمع به من قبل. لكن، في نفس الوقت، بدا مألوفًا بطريقة ما.

إيفا فرود…

على ذكر “عديم القيمة”، يبدو أن القدر قد جلبها إلي بنفسه.

**

إيفا فرود.

ولدت لعائلة ثرية. والدها، جيمس أبراهام فرود، كان رجل أعمال ناجح يمتلك العديد من الشركات التجارية. أما والدتها، روبي فالتون، فقد جاءت من عائلة غنية أخرى، معروفة بتأثيرها الاقتصادي في المدينة الثانية.

عائلة فرود كانت اسمًا مألوفًا في عالم المال والأعمال. ثروتهم التجارية كانت ضخمة، مع نفوذ يمتد عبر العديد من المجالات. لكن وسط هذه الثروة الطائلة، كانت هناك مشكلة واحدة لا يمكن تجاهلها.

كانت عائلتها باردة للغاية. والدها، الذي رأى فيها مجرد وسيلة لزواج سياسي، لم يكن يهتم بها كفرد بقدر ما كان يهتم بزيادة نفوذه ورفع مكانة العائلة. أما والدتها، فقد نظرت إليها كأداة عديمة النفع، شيء يمكن التخلص منه أو استغلاله حسب الحاجة.

إيفا، رغم كل هذه الثروة والامتيازات، كانت مجرد دمية في يد عائلتها.

على عكس إخوتي، كان هناك سبب لذلك.

الموهبة.

لم أكن أمتلك موهبة في القتال، ولا في التجارة، ولا حتى في القيادة. لم أكن أتمتع بأي شيء يجعلني مميزة أو ذات قيمة بالنسبة لعائلتي. بالنسبة لهم، كنت وصمة عار، حملًا ثقيلًا. حاولت بكل جهدي أن أثبت نفسي. بكيت، دفعت جسدي إلى حدوده، مررت بساعات طويلة من الجهد الشاق، لكن في النهاية، كل ما حصلت عليه كان تلك النظرة المحتقرة.

نظرة تقول لي بوضوح أنني غير مرغوب فيها، عديمة الفائدة.

مهما فعلت، مهما بكيت وتألّمت، لم أكن كافية لهم. لا يمكنني نسيان تلك الليالي الطويلة التي قضيتها في محاولة تحسين نفسي، ولكن ما كنت أواجهه في الصباح دائمًا هو نظراتهم الباردة.

نعم، لقد كانت حقًا…

عائلة لعينة.

***

بينما أشعة الشمس تدخل برفق عبر النافذة، تفتح إيفا عينيها ببطء. كانت ممدة على سرير بحجم كينج، الوسائد الفاخرة تحيط بها، تشعر وكأنها محاصرة في سجن ناعم. صوت الهدوء في الغرفة كان ثقيلًا، حتى الهواء بدا وكأنه لا يتحرك، كما لو أن المكان كله كان يشاركها في كآبتها.

رفعت رأسها عن الوسادة بكسل، لتفرك عينيها.

طرق - طرق - طرق

“أرجو المعذرة سيدتي، سوف أدخل.”

صرير

دخلت ميا، خادمتها التي تجاوزت الثلاثين من عمرها، ذات شعر بني مائل إلى الكستناء وعيون عسلية دافئة. رغم تقدمها في السن، كانت ميا تحتفظ بنضارة غير عادية، وكأنها عاشت حياتها في خدمة الآخرين، لكنها لم تفقد ذرة من طاقتها أو تفاؤلها.

كانت ميا أكثر من مجرد خادمة؛ كانت اليد التي رفعت إيفا في طفولتها، السند الوحيد الذي شعرت أنه يمكنها الاعتماد عليه في هذا المنزل الجليدي.

“أهلاً ميا. صباح الخير.” قالت إيفا بصوت متهدج، بينما تمددت لتستيقظ من سباتها.

لكن ميا عبست على الفور، وعقدت حاجبيها بصرامة. “إيفا، أرجوكِ، تحلي ببعض الاحترام. والدك لن يكون سعيدًا إذا عرف أنك استيقظت في هذا الوقت.”

تنهدت إيفا وهي تمسك جبينها بإحباط، وكأن هذا الحوار قد تكرر عشرات المرات من قبل. “ليس وكأن ذلك العجوز المجنون سيعرف متى استيقظت. لن يهتم على أي حال.”

ردت ميا بسرعة، محاولة السيطرة على الموقف. “سيدتي، أرجوكِ، تتبعي ألفاظك. إنه والدك، وعليكِ أن تستيقظي باكرًا.”

نظرت إيفا إلى الساعة المعلقة على الحائط، تنهدت بعمق. “الثانية ظهرًا؟ يا له من وقت…”

تثاؤب

رفعت إيفا يديها في الهواء وتمددت، محاولة التخفيف من توتر جسدها.

“ليس وكأن والداي يهتمان متى أستيقظ. بالنسبة لهما، أنا فاشلة، مهما حاولت.” قالتها بنبرة باردة، لكن داخلها كان يصرخ من الألم. كانت هذه الحقيقة التي عاشتها طوال حياتها، والتي تخللت كل لحظة في يومها.

تغير تعبير ميا، وظهرت علامات الحزن على وجهها. كانت ميا تعرف أن إيفا تعاني، وكانت ترى الجراح التي خلفتها العائلة في نفسها. “سيدتي، أنتِ لستِ فاشلة. ليس كل شيء يتعلق بالموهبة—”

قاطعتها إيفا بحدة، عيناها تلمعان بتصميم غاضب. “ميا، توقفي. لا أريد سماع كلمات العزاء هذه. تعاطفك لن يغير شيئًا.”

تنهدت ميا بتعب، فقد اعتادت على هذا الحوار المرهق. كانت تعرف أن إيفا تحتاج أكثر من كلمات لتهدئتها، لكنها لم تكن تملك سوى هذه الكلمات، ولم تكن كافية.

“حسنًا، كما تأمرين سيدتي.”

تغيرت ملامح وجه ميا بسرعة، فأصبحت جامدة، عديمة التعبير. كان من الواضح أنها تعرف هذا الروتين جيدًا، وتعرف كيف تُخفي مشاعرها خلف قناع الاحترافية. “لقد فاتك الفطور بالفعل. هل تريدين أن أجعل الخادمات يعدّون لك شيئًا؟”

هزت إيفا رأسها بنفي بسيط، ثم قالت: “لا أشعر بالجوع حاليًا، أريد أن أتجول في المدينة.”

“حسنًا، إذن.”

ميا، وكأنها توقعت هذا الجواب مسبقًا، أضافت بهدوء: “لقد جهزت ملابسك، إنها في الخزانة.”

“أوه، شكرًا لك، ميا.”

هزت ميا رأسها بإيماءة متواضعة. “لا داعي للشكر، سيدتي، إنه واجبي.”

تيك

إغلاق

خرجت ميا من الغرفة بهدوء، وأغلقت الباب خلفها بلطف. للحظة، ساد صمتٌ خفيف في الغرفة. بقيت إيفا في مكانها، عيناها مثبتتان على الباب المغلق. شيء ما تغير في تعبيرها بعد رحيل ميا؛ تلك الابتسامة التي كانت ترسمها على وجهها بعناية تحولت ببطء إلى ملامح حزينة مليئة بالذنب.

ميا.

كانت ميا الشخص الوحيد الذي أبدى لها تعاطفًا منذ ولادتها. كانت المربية، اليد التي اعتنت بها في كل لحظة، وكانت، بالنسبة لإيفا، الأم التي لم تحظَ بها أبدًا. في داخلها، لم تعترف يومًا بوالديها الحقيقيين، جيمس وروبي. لم تكن هناك مشاعر أبوية حقيقية تجاههما، ولم تشعر قط بأي رابطة أخوية مع إخوتها.

لكن هذه الأفكار لم تكن جديدة على إيفا، كانت تلاحقها كظلال مستمرة. كفاية. هزت رأسها بسرعة لتطرد هذه الأفكار الثقيلة. ليس اليوم.

وقفت، تحركت نحو الخزانة، وبدأت في ارتداء ملابسها. ثم، بعد لحظات، كانت في الخارج، تترك القصر خلفها، متجهة نحو المدينة الثانية لتتنزه، لتتنفس، لتبتعد عن كل ما يمثل العبء في حياتها.

مر الوقت بسرعة بينما كانت تتجول بين الأزقة، تشاهد واجهات المحلات والمقاهي، وتتنقل بين الناس. لم يكن أحد يعرف هويتها، وكانت تستمتع بهذا الغموض، كأنها جزء من الحياة العادية، بعيدًا عن قيود العائلة والضغوط الاجتماعية. في تلك اللحظات، كانت إيفا تجد شيئًا يشبه الحرية.

كانت المدينة ملاذًا لها، مكانًا للهرب من هموم العائلة. حتى لو عادت في وقت متأخر من الليل، لم يكن أحد يهتم أو يسأل عنها سوى ميا. ربما لهذا كانت تتجول لساعات، تتنقل بين الأسواق والمطاعم، تتجاهل الجميع من حولها.

لكن اليوم كان مختلفًا. أثناء تجوالها، لفت انتباهها مكان لم تره من قبل، مكان بدا غريبًا ومثيرًا في الوقت نفسه.

“مكتبة الغموض”.

توقفت إيفا لبرهة أمام الواجهة، عيناها تتمعنان في الاسم. كيف لم ترَ هذا المكان من قبل؟ رغم أنها تعرف كل زاوية وكل زقاق في المدينة، لم يكن هذا المكان مألوفًا لها. شعرت بفضول يجذبها نحو المكتبة، فضول لم تستطع مقاومته.

سرّعت خطواتها نحو الباب، وضعت يدها على المقبض وفتحته.

صرير

دخلت المكتبة، وصوت الجرس المعلق على الباب رنّ مرتين، مشيرًا إلى قدومها.

درينغ - درينغ

نظرت إيفا حولها. المكان كان غريبًا، لكن بطريقة جميلة. الأرفف كانت مرتبة بعناية، مليئة بالكتب من كل الأحجام والألوان. الجدران كانت مزيجًا رائعًا من الذهبي والأسود، مما أضفى على المكان جوًا من الغموض الفخم. الأرضية الخشبية البنية الداكنة كانت تضفي شعورًا بالدفء والاستقرار. أما الطاولات والكراسي، فقد تم ترتيبها بدقة مدهشة، كل شيء كان في مكانه الصحيح.

لكن ما جذب انتباه إيفا حقًا هو الشاب الذي يقف أمامها. بدا أصغر منها ببضع سنوات، لكن ابتسامته كانت غير طبيعية، مليئة بالحيوية ولكنها في نفس الوقت تحمل خلفها شيئًا غامضًا، غير مفهوم.

“مرحبًا بكِ في مكتبة الغموض.” قال بصوت هادئ وملغز، وكأن كل كلمة كانت تحمل سرًا بانتظار الكشف عنه.

ثم، دون انتظار ردها، سأل بابتسامة غامضة: “أي نوع من الكتب تبحثين عنه؟”

***

مرحبًا ايها القراء، بس عندي موضوع، قمت نوعًا ما بتغير طريقة السرد وكتابة هذا الفصل بطريقة مختلفة عن الفصول السابقة ، انه مجرد تجربة، هل تحبون هذا النوع من الكتابة؟… او ارجع لسرد السابق؟.

أعذروني على الأخطاء…

2024/09/22 · 33 مشاهدة · 1863 كلمة
TroX
نادي الروايات - 2024