الفصل الثاني و العشرين: مثيرة لشفقة [3]
“ هيلين، بما أن جميع الكتب في هذه المكتبة غير عادية، هل هذا أيضًا؟” تمتم بايل دون ان يدرك
[أجل، سيدي.]
لم أكن أعرف نوع التأثيرات التي قد يحملها هذا الكتاب، لكنني أمل أن يساعدها. اتجهت نحو إيفا ومددت لها الكتاب بابتسامة مطمئنة.
“لا تقلقي، هذا الكتاب سيساعدك.”
**
نظرت إيفا إلى الكتاب بخوف. موجة طاقة رمادية غامضة انبعثت من صفحاته، ملتفة حولها كما لو كانت تراقبها.
حتى إيفا، التي كانت قدرتها على استشعار المانا ضعيفة، شعرت بها بوضوح.
-بلع-
دون أن تدرك، بلعت جرعة من اللعاب، وجسدها بدأ يرتجف. كانت تخشى الكتاب دون أن تفهم السبب.
“هيا، خذي.” قال بايل بهدوء، لكن صوته كان يحمل نغمة تخفي أمرًا مستترًا، وكأن الامتثال ليس خيارًا، بل ضرورة.
يدها، المرتجفة بشدة، امتدت نحو الكتاب. نظرتها متجمدة، وكأنها تخشى أن يمسكها في الفخ. ما الذي يجعل هذا الكتاب مرعبًا؟
بينما كانت يدها تقترب من الكتاب، بدأت المكتبة تتحول بهدوء. ضباب كثيف زحف من زوايا الغرفة، كأنما ينبعث من جدرانها.
إيفا لم تدرك حتى أن هناك ضبابًا في المكان، لكن حدقتاها اتسعتا فجأة عندما نظرت إلى وجه بايل. كانت الصدمة واضحة على ملامحها.
ابتسامة بايل لم تتغير. كانت ثابتة، مليئة بشيء غير مريح، وكأنها تنتمي لكائن ليس من هذا العالم.
الضباب، الذي كان في البداية رماديًا، بدأ يتحول تدريجيًا إلى لون أحمر قاتم، وأخذت الأسنان في فم بايل تتحول، تصبح أشبه بشفرات سكاكين حادة. من عينيه كانت تخرج هالة حمراء ملتهبة، وكأنهما نيران جهنمية تتراقص في أعماقهما.
في تلك اللحظة، أدركت إيفا أن ما أمامها ليس إنسانًا عاديًا. كان أشبه بمسخ، وحش متربص. الأجواء كانت متوترة بشكل لا يُحتمل.
-سقوط-
“ارتطام!”
قدما إيفا خانتها، وفقدت السيطرة على جسدها. سقطت على الأرض بشدة، والتوتر في صدرها انفجر.
“هوف - هوف - هوف”
أنفاسها أصبحت ثقيلة ومتسارعة، وكأن قلبها يحاول الفرار من قفصه الصدري. كان جسدها يرتعش بشكل لا إرادي، ووجهها شاحب كالموتى.
نظرت حولها بفزع، لكن الضباب كان كثيفًا للغاية، لدرجة أنها لم تعد ترى سوى الظلام الأحمر المحيط بها وبايل. كانت محاصرة، وحيدة، في دوامة من الرعب.
“هل هناك مشكلة؟” سأل بايل بصوت بارد، وكأن ما يحدث لا يعنيه. ابتسامته لم تزل على وجهه، لكن تلك الابتسامة كانت الآن أكثر وحشية.
إيفا كانت على وشك الإغماء. كل ما حولها كان يتفكك، عالمها أصبح كابوسًا.
“أوه، صحيح…” نطق بايل فجأة، وكأن شيئًا تافهًا قد تذكره.
وفي اللحظة التالية، انتشرت أصوات احتكاك حادة في جميع أرجاء المكتبة، كأن جدرانها تصرخ من الألم.
-بوف-
ثم ساد الصمت فجأة. صمت مرعب.
“…”
فتحت إيفا عينيها ببطء، متوقعة الأسوأ. لكنها رأت المكتبة كما كانت، كل شيء عاد إلى طبيعته.
“ها؟” نطقت بدهشة، وهي تحدق في بايل.
“ماذا؟” سألت، وكأنها تتساءل عما إذا كان ما حدث لتوها حقيقيًا أم مجرد وهم.
لكن ابتسامة بايل الباردة كانت كافية لتؤكد لها أن الكابوس لم ينتهِ بعد.
اختفى الضباب الأحمر في لحظة، كما لو أنه لم يكن موجودًا أبدًا. عاد وجه بايل إلى حالته الطبيعية، وسرعان ما تلاشت تلك الأنياب الحادة والهالة المظلمة التي كانت تحيط به.
“ماذا حدث؟”، كانت هذه الكلمات تدور في ذهن إيفا بلا إجابة. كانت أنفاسها لا تزال متقطعة، والجحيم الذي عاشته قبل لحظات لا يزال يحاصر وعيها.
بايل لم يبدِ أي اهتمام بما جرى، وكأنه كان مجرد عرض قصير. مدّ يده نحوها ليساعدها على الوقوف، ناظرًا إليها بابتسامة هادئة.
“إذن… لن تفتحي الكتاب للقراءة؟” سأل بهدوء، وكأن شيئًا لم يحدث.
ها؟
تجمدت نظرات إيفا على الكتاب الذي كانت لا تزال ممسكة به بقوة. للحظة، كانت قد نسيت تمامًا أنها كانت تحمل شيئًا.
-بلع-
بلعت جرعة من اللعاب، وصدى تلك اللحظة السابقة لا يزال يتردد في عقلها. “هل كان كل ذلك هلوسة؟” تساءلت في عقلها. لا، كان كل شيء واضحًا، كل التفاصيل، كل نبضة خوف شعرت بها.
لا، لا يمكن أن يكون مجرد وهم.
مدّت يدها المرتجفة وأمسكت يد بايل، وهو يساعدها على النهوض. “ح-حسنًا”، تمتمت بصوت مرتعش.
لكن رغم محاولتها العودة إلى الواقع، ظل الرعب الذي عانته يغزو تفكيرها. لم يكن من السهل نسيان ما حدث قبل لحظات.
فتح
أطاعت الكتاب أخيرًا وفتحت صفحته الأولى، بأيدٍ لا تزال ترتجف، شعورها بالفزع لم يختفِ بعد.
شفط
“وشششش”
في لحظة غير متوقعة، شعرت إيفا بقوة غير مرئية تمتص وعيها، وكأن الكتاب الذي بين يديها استولى على شيء أعمق منها.
**
ها!!!
شهقت بصوت عالٍ وهي تستفيق في عالم آخر. “م-ماذا؟!”
فتحت عينيها ببطء لتجد نفسها محاطة بعالم ناصع البياض. كل شيء حولها كان غريبًا، وكأنه خارج عن أي منطق. نظرت إلى الأمام لترى مرآة ضخمة تعكس جسدها بالكامل.
تفحصت المشهد حولها، بذهول وارتباك. كان المكان مليئًا بالمرايا، ممتدة في كل اتجاه، وكأنها عالقة في متاهة لانهائية.
أعادت نظرها إلى المرآة التي أمامها.
صدمة
تجمّدت في مكانها وهي ترى المرآة تعكس صورة مختلفة عنها. كانت تلك النسخة من نفسها تبتسم، لكن بابتسامة واسعة ومرعبة، وكأنها تتلذذ برؤيتها.
رفعت النسخة الأخرى يدها ببطء، وأخذت المرايا المحيطة تعكس نفس الحركة. جميع النسخ داخل المرايا رفعن أيديهن بنفس الهدوء والابتسامة.
شيء داخلها تكسّر. هل هذه حقيقتها؟ هل هي هذه الابتسامة الشيطانية التي تعكسها المرايا؟
وفجأة، سمعت صوتًا غريبًا خلفها.
نظرت إلى المرآة أمامها مجددًا، لكن هذه المرة، لم تعكس أي شيء. لقد اختفى انعكاسها تمامًا.
نظرت إلى يمينها بخوف، حيث كان ينبغي أن يكون انعكاسها.
وجدت نفسها هناك، لكن نسختها تلك كانت تشير بإصبعها إلى رأسها.
سطوع~
وششش-!!
قبل أن تتمكن من فهم ما يجري، انبثق ضوء ساطع من الإصبع الموجه نحوها، وكأنما كان ذلك الإصبع سلاحًا قاتلًا.
"بوفففف-!!
دوّى انفجار مدوٍّ، وتلاشت معها الصورة، تاركة إيفا عالقة بين الوهم والحقيقة، حيث اختلط الواقع بالأحلام.
وششش-!!
نظرت إلى جسدها المتوهج، حيث بدأت أطرافها تختفي وتتشقق كأنها زجاج يتناثر ببطء. كانت تشعر بأن كل جزء منها يتلاشى، يحترق، ويختفي عن الوجود.
الابتسامة على وجه انعكاسها الآخر تلاشت فجأة، وحلت محلها نظرة فارغة بلا روح، كما لو أن تلك النسخة كانت تعرف ما سيحدث قبل أن يحدث. في نفس اللحظة، خرجت أيادٍ كرستالية لامتناهية من الفراغ، تسللت من بين شظايا المرآة المحطمة لتلتف حول جسد إيفا. حاولت الصراخ، لكن صوتها اختفى في الصمت الرهيب.
توقف العالم كله عن الحركة. كل شيء أصبح هادئًا بشكل مخيف. انعكاس إيفا كان يراقبها بلا تعبير، ثم رفعت يدها بهدوء وأشارت إلى الفراغ أمامها.
"صمت…"
كان الصمت مطبقًا، حتى أن أنفاس إيفا لم تعد مسموعة. انقبض قلبها في صدرها وهي تشعر بأن هذه اللحظة ليست مجرد وهم. نقر.
بانغ!!
بمجرد أن نقرت انعكاسها بهدوء في الهواء، انهار جسد إيفا بين الأيادي الكرستالية. بدأت تتفكك بسرعة، خيطًا بعد خيط، وكأنها نسيج تمزقه قوة لا ترى.
بوششش-!!
الانعكاس لم يتحرك، فقط رفع يده ببطء وأشار نحو إيفا التي كانت تتحلل، وتمتم بشيء.
“تدمير.”
انبعث من جسد إيفا ضوء قوي، ثم في لحظة واحدة، اختفت تمامًا من الوجود. لم يبق منها شيء.
وشسششش-
الانعكاس، الآن وحيد، نظر إلى الفراغ الذي كانت تشغله إيفا. لم يكن هناك أي شعور أو ندم في تلك العيون الغريبة. قام بحركة دائرية بيده في الهواء، وكأنما يعيد تشكيل الواقع نفسه.
“إعادة هيكل.”
كانت كلماته بطيئة، ثقيلة، ومع كل حرف، بدأت طاقة سوداء تتسرب من الفراغ الذي كانت فيه إيفا. بدأت تلك الطاقة تتشكل تدريجيًا، أولاً قدماها، ثم ساقاها، حتى اكتمل جسدها بالكامل. ولكن المكان كله بدأ يهتز بعنف، وكأنه يعترض على هذا التدخل الغريب.
الانعكاس رفع يده، وفي لحظة، هدأ كل شيء. كان مشهدًا مثيرًا للرهبة؛ جسد إيفا الذي عاد للحياة عائمًا في الهواء، محاطًا بالطاقة السوداء.
~فرقع~
فرقع الانعكاس أصابعه. وفي لحظة، بدأت الأيادي الكرستالية التي كانت تغطي جسد إيفا بالتراجع بسرعة، وكأنها قد أنجزت مهمتها.
بدا الانعكاس متأملًا للحظة، ثم أومأ برأسه ببطء قبل أن يبدأ جسده في التلاشي كضباب يختفي في الهواء.
**
“هممم؟”
فتحت إيفا عينيها ببطء، غير قادرة على استيعاب ما حدث. كانت عائمة في الهواء، جسدها لا يزال ينبض بالطاقة التي أعادتها للحياة. ثم جاء الإدراك.
“كيااااا!!”
صرخت بصوت مرتجف، وسقطت بجسدها على الأرض بقوة.
سقوط
“آه! آخ!”
أمسكت بمؤخرتها وهي تشعر بالألم من السقوط، لكنها سرعان ما وقفت محاولةً استعادة توازنها. “ماذا… ماذا حدث؟” همست بصوت مرتجف.
قشعريرة
جسدها ارتعش بعنف عندما تذكرت آخر شيء رأته قبل أن يبتلعها الظلام. انعكاسها، ذاك الوجه الذي خرج من المرآة بابتسامة مرعبة، وتلك الأصبع التي أشارت إليها كما لو أنها كانت تحكم عليها بالموت.
لم تستطع إيفا استيعاب ما حدث، كما لو أن عقلها يرفض تفسير ما عاشته للتو. الغموض والرهبة التي اجتاحتها كانا كابوسًا حيًا، لدرجة أن مجرد التفكير في العودة إلى تلك اللحظات يجعل قلبها ينبض بالخوف. لم تكن تجرؤ على السماح لعقلها بالغوص أعمق في تلك الذكريات.
نظرت حولها بعيون مشوشة، تحاول تمييز ما يحيط بها. العالم الذي كانت فيه لم يكن سوى مساحة زجاجية متصدعة، مشوهة بأطياف مشوشة وعاكسة لصورتها المكسورة.
تك-
سمعت صوتًا طفيفًا، وكأنه نبض العالم ذاته. نظرت حولها برعب متزايد، تشعر بأن كل شيء حولها يوشك على الانهيار. “ما الذي يحدث؟” تمتمت بخوف، وكأن السؤال لا ينتظر إجابة، بل هو انعكاس لحالة الذعر التي تملأ كيانها.
"تك..!"
"تك..!"
كانت الأصوات تتزايد، وكأنها ضربات ساعة تقرع على نهايتها. بدأت الشقوق في الزجاج تنتشر بسرعة، مثل شبكة عنكبوتية تنسج نفسها في كل زاوية، تتشقق ببطء ولكن بثبات. الهواء من حولها أصبح ثقيلاً، وكأن العالم نفسه يختنق.
"تصدع-!
"تصدع-!
كانت التصدعات تتسارع، تتشابك وتندمج، حتى…
انكسار~
في لحظة واحدة، كل شيء تحطم.
وششش-!
انهار العالم بأكمله حولها، كأن الأرض نفسها انفجرت إلى شظايا زجاجية لا حصر لها. صوت تحطم الزجاج كان يصم الآذان، وكأن العدم قد انفجر أمامها، تاركًا صرخة مروعة تملأ الفراغ.
شهيق
“هااااااب!!”
امتلأ صدرها بالهواء فجأة، وكأنها خرجت من تحت الماء بعد غرق طويل. نظرت حولها بذهول، تحاول التقاط أنفاسها المقطوعة، جسدها يرتجف بصمت، وعيونها تتسع بخوف غير معقول. كل شيء كان هادئًا الآن… لكن الجو تغير.
كان هناك شيء جديد، ملموس، ولكن غير مرئي.
رائحة مألوفة بدأت تتسرب إلى أنفها.
رائحة الكتب.
شعرت بالراحة تتسلل إلى قلبها، رغم كل شيء. لقد عادت.
كانت بالمكتبة.
إغلاق.
إيفا أغلقت الكتاب بسرعة. شعرت أن ثقلًا كبيرًا أُزيح عن كاهلها بمجرد فعل ذلك، وكأن الكتاب نفسه كان مصدر كل الذعر الذي اجتاحها قبل لحظات. لم تتذكر حتى أنها فتحت الكتاب، ناهيك عن قراءته. كانت في حالة رعب شديدة، لا تسمح لها حتى بتفكير واضح.
ببطء، استقرت عينيها على الغلاف، وقرأت العنوان لأول مرة.
الكتاب كان بحدود سوداء، وغلافه الرمادي باهت، مما أعطاه مظهرًا موحشًا كئيبًا. في الوسط، كانت الكلمات محفورة بطريقة بارزة:
“تقاطع التركيب.”
ما الذي يعنيه هذا؟ لم تفهم العنوان، وكان الأمر يزيد من شعورها بالارتباك.
ثم…
نظرت أمامها. كان بايل جالسًا بهدوء على الكرسي كما هو، يحتسي قهوته كما لو أن شيئًا لم يحدث. عينيه الثاقبتين تلتقيان بعينيها. كان يدرك جيدًا ما يجول في خاطرها.
ابتسم ببطء قبل أن ينطق بصوت هادئ ومرن:
“إذا، ما هو شعورك؟”
“إذا، ما هو شعورك؟”
كانت إيفا تغرق في العرق، جسدها مشدود، والصدمة لا تزال تسيطر عليها. حاولت أن تستجمع نفسها، ولكن كل ما شعرت به هو الغموض المتزايد الذي يملأ صدرها.
نظرت إلى نفسها، لم تفهم مشاعرها، كأن كل شيء داخلها قد تغير دون تفسير واضح.
“أشعر بالاختلاف.”
تكررت الكلمات في رأس بايل. اختلاف؟ كانت تلك الكلمة غريبة. نظر إليها بعينين مرتابتين، يبحث عن إجابة أكثر وضوحًا.
“اختلاف؟ ماذا تقصدين بالضبط؟” سألها بلهجة مرنة، ولكنه كان يريد أن يغوص في أعماقها أكثر.
إيفا بدت مضطربة، وأغلقت قبضتها بشدة كما لو كانت تحاول السيطرة على ما يحدث داخلها.
“أشعر أن شيئًا بداخلي قد تغير، لكنني لا أعرف ما هو.”
رفع بايل حاجبيه، كان يتساءل: هل هي جادة؟ لا تستطيع حتى أن تفهم ما تشعر به. هذا مقلق، ومثير للاهتمام في نفس الوقت.
في تلك اللحظة، توقفت إيفا عن الحركة تمامًا. جسدها جمد في مكانه، وعيناها اتسعتا بصدمة كما لو أنها رأت شيئًا يفوق استيعابها.
كانت تتنفس بصعوبة، وبدأت شفتيها ترتجفان.
بايل، الذي شعر بالملل، رفع الكوب إلى فمه مرة أخرى، متجاهلًا التوتر المتزايد في الهواء.
لقد سئمت من كل هذا.
~~~
أعذروني على الأخطاء…