الفصل السادس: فوضى [1]

مرّ أسبوع، لكنه كان يبدو وكأنه عام كامل.

تسللت تلك الحادثة الغامضة إلى كل ركن من العالم، مثل ظلال داكنة لا يمكن إيقافها. الناس بدأوا يهمسون بها، يروون قصصًا عن ما حدث. كان البعض مصدقًا ومندهشًا، وآخرون يسخرون وينكرون. لكنهم جميعًا كانوا يشعرون بأن شيئًا كبيرًا قد تغير. نظريات عجيبة ظهرت كالفطر، بعضها منطقي وبعضها أقرب للجنون، إلا أن الحقيقة بقيت غارقة في الظلام.

قال آرون بصوت هادئ وهو يقف بجانبي: “لا تقلق يا سيدي، إنهم مجرد حمقى لا يدركون عظمتك.”

وضعت رأسي على المكتب بهدوء، شعور بالملل يغلفني وكأنني غارق في ضباب لا نهاية له. “شكرًا لك، آرون… لكن المواساة لم تعد تجدي نفعًا بعد الآن.”

تفاجأ آرون: “!!ولكن…”

قاطعته بنبرة هادئة، تحمل في طياتها خيبة أمل عميقة: “لا داعي لذلك، أعلم أن نيتك طيبة… ولكن هذه الكلمات لم تعد تفعل شيئًا.”

تنهد آرون، وكأن العالم بأسره يسقط على كاهله. لقد كان يحاول مساعدتي، لكن ما كان يشعر به بدا أثقل من أي شيء يمكن للكلمات أن تحمله.

الصمت سيطر على المكان. على مدى الأسبوع الماضي، لم يدخل أي عميل إلى المكتبة. كان المكان يشبه قبرًا، مزيجًا من الوحدة والعزلة، يملأه شعور غريب بأن شيئًا ما يكمن في الزوايا المظلمة. رفعت رأسي ببطء، نظرت من خلال النافذة الزجاجية الكبيرة. الغيم الكثيف كان يغطي السماء بالكامل، وكأنها لوحة من الكآبة.

“وششش-”

المطر كان ينهمر بشدة، قطراته تضرب الزجاج بعنف، كأنها تريد الدخول إلى المكتبة والهروب من شيء أعظم في الخارج. كانت الظهيرة قد حلت، لكن السماء الملبدة بالغيوم جعلت النهار يبدو كليلة طويلة. لم يكن هناك أي إشارة إلى أن المطر سيتوقف قريبًا.

نظرت إلى آرون، كان الحزن واضحًا في عينيه السوداوين، وكأنه يحمل على عاتقه ثقل العالم بأسره. الغموض الذي يحيط به كان يجعل ملامحه تبدو وكأنها منحوتة من الظلال.

ابتسمت، محاولة كسر تلك الأجواء الملبدة بالكآبة. “لا حاجة لهذا الجو الحزين، قال آرون لتحسين المزاج. ماذا تفضل؟ القهوة أم الشاي؟”

تردد للحظة قبل أن ينظر إليّ، كان يعلم أنني لم أكن أرغب حقًا في أي منهما. لكن العادات الصغيرة تلك كانت تبقينا مرتبطين بالواقع.

قلت بابتسامة هادئة: “بما أن الجو ممطر اليوم، أعتقد أنني سأرغب في كوب من الشوكولاتة الساخنة.”

ظهرت لمعة في عيني آرون، وابتسامته التي كانت خافتة في البداية تحولت إلى إشراق حقيقي. “سأذهب فورًا!”، انطلق بسرعة إلى المطبخ، كأنه قد وجد مهمة تملأ فراغ يومه الممل.

نظرت إلى الفراغ مجددًا. تسللت تنهيدة عميقة من بين شفتي. “لماذا هو سعيد بخدمتي؟” همست لنفسي، شعور غريب بالذنب بدأ يلتهمني. خلال الأسبوع الماضي، عرفت شيئًا جديدًا عن آرون، شيئًا لم يكن واضحًا من قبل. اكتشفت الرعب الذي عاشه عندما دخل المكتبة لأول مرة. كان يخفي ذلك عني، لكنه لم يستطع إخفاء كل شيء.

المكتبة… هذا الكيان الغامض والمخيف. لقد استمتعت بتعذيب كل من يجرؤ على دخولها، تختبرهم، تلاعب بأرواحهم كما تشاء. لم يكن آرون استثناءً. لقد نجا، لكنه لم يخرج من تلك التجربة كما كان من قبل. الندوب التي تركتها المكتبة في داخله لم تلتئم بعد.

“درينغ-”

“درينغ-”

صوت جرس الباب أيقظني من أفكاري. رفعت رأسي على الفور، مشاعر الحماس تسللت إلى قلبي كما لم يحدث منذ أسبوع. عدّلت جلستي، مستعدًا لاستقبال العميل الثاني. لقد انتظرت هذه اللحظة طويلاً.

نظرت إلى الباب بابتسامة… لكن تلك الابتسامة سرعان ما تلاشت، بل تحطمت تمامًا عندما رأيت من يقف خلف الباب.

الغرفة بأكملها امتلأت بطاقة غريبة، البرودة التي غزت المكان جعلتني أرتجف. الشخص الذي دخل لم يكن مجرد عميل آخر… لقد كان شيئًا آخر تمامًا.

مراهقة تبدو في الرابعه عشرة من العمر على أقل تقدير ، وقفت أمامي كظهور شبح ملكي. كان فستانها الأحمر الملكي ينسدل حولها بوقار، بينما شعرها الذهبي يلمع تحت ضوء المكتبة، وعيونها الحمراء تتوهج كالجمر. جمالها كان يتجاوز حدود الوصف، وكأنها تجسيد لكائن من عالم آخر.

فكرت بسرعة وبقلق: هل المكتبة تجذب الوحوش؟ أحتاج عملاء طبيعيين، وليس مخلوقات تتسبب في خوف عالمي. بدأت ألاحظ أن جسدها كان يتصلب تدريجياً، عيونها الثاقبة تتنقل بين أركان المكتبة وكأنها تبحث عن مخرج. هل المكتبة تخيفها فعلاً؟

فتحت فمي لجذب انتباهها. “مالذي أتى بملكة مصاصي الدماء إلى مكتبي المتواضع؟”

في تلك اللحظة، انتشرت هالة قاتلة من حولها، ليست فقط داخل المكتبة، بل ملأت المنطقة الثانية بأكملها. كان ذلك بمثابة تحذير صارخ، يشعر المرء فيه وكأن الحياة كلها تجمدت للحظة. الوضع أصبح حرجًا بشكل يثير الرعب.

عندما يواجه المرء خوفًا لا يمكن السيطرة عليه، تحدث ثلاث حالات:

1. الشلل التام: عندما يطغى الخوف على الجسم ويشل حركته بالكامل.

2. فقدان القوة: الخوف يتسبب في انهيار الجسم، ويسقط دون أي مقاومة.

3. فقدان العقل مؤقتًا: اندفاع الأدرينالين يجعل العقل يفقد السيطرة، ويصبح الشخص غير قادر على التفكير بوضوح.

الوضع هنا كان أكثر من سيء. نظرت إلى لافير، ملكة مصاصي الدماء، المعروفة بلقب “حاكمة الموت”. كيف أصفها بدقة؟ كانت شخصيتها غريبة الأطوار في اللعبة، تملك قوة تعادل رؤساء النهائين. رغم في الحرب الكبرى، لم تغادر قصرها أبدًا.

عند اختيار مسار حاكم الشرور أو ملك الظلام كخصم نهائي، تكون شخصية محايدة ليس لها تأثير مباشر على القصة. ولكن عند اختيار لوهان النسيان، تصبح خصمًا شريرًا يجب هزيمتها قبل مواجهة الرئيس النهائي. كانت شخصية تجلب الصداع للاعبين، وصورتها هنا كانت أكثر رعبًا من أي وقت مضى.

ابتسمت إليها، محاولًا الحفاظ على هدوئي، لكن ابتسامتي سرعان ما تلاشت، وتحولت ملامحي إلى تجاعيد من التركيز. في تلك اللحظة، رفعت لافير يدها، وخرج من اللامكان شعاع أسود ساطع، كالشمس السوداء التي تنبئ بدمار شامل. كنت متأكدًا أن هذا الشعاع لو خرج إلى الخارج، لكان بمقدوره تبخير المدينة الثانية في لمح البصر.

في جزء من الثانية، أصبح بيني وبين الشعاع الأسود شعرة.

“بوففففف!”

“وشششششش!!!”

عند ملامستي للشعاع، تفكك في لحظة، واندثر من الوجود كما لو لم يكن موجودًا من الأساس. نظرت إلى نفسي بذهول، وتمتمت: “إذًا، هذا ما يعنيه. طالما أنا داخل المكتبة، لن يؤذيني شيء.”

لم أفقد هدوئي على الرغم من أنني كنت على شفير الموت. يالها من مهارة رائعة، لم أستطع إلا أن أستمتع بها. كانت قوة لافير مدهشة، وابتكارها في الهجوم كان يتخطى كل حدود الخيال.

***

كل خطوة عبر عتبات المكتبة كانت تزداد ثقلًا، وكأن كل حجر في هذا المكان كان يضغط على كاهلي. منذ اللحظة التي دخلت فيها، شعرت بشيء غير طبيعي يسري في الهواء، وكأنها نفس تلك اللحظات التي اختبرت فيها حدود البقاء بين الحياة والموت. كان هناك تهديد خفي يتصاعد من الأعماق، قوى مظلمة ومجهولة تتربص بي، وتجعل كل لحظة هنا تبدو وكأنها اختبار لمدى قدرتي على التحمل.

كل ما حولي كان يغلي بالرعب. الظلام يتخلل كل زاوية في المكتبة، وكل حركة للأشياء من حولي تصطدم بأعماق روحي. الكائنات المرعبة والظلال المتراقصة تتسلل من كل ركن، وكأنني في قلب عاصفة من الظلام، حيث كل لحظة هنا تأخذني أعمق إلى جحيم غير مرئي.

الخوف كان يتسرب إلى كل جزء مني، وكأن كل ثانية في بقائي هنا تسحبني نحو أعماق هذا الرعب المظلم. كل زخة من الهواء كانت ثقيلة ومشبعة بشعور الفزع، وكأن كل تنفس يضيف إلى الثقل الذي ينهش عقلي. حواسي كانت في حالة تأهب قصوى، عاجزة عن تحديد مصدر التهديد بينما القوى المظلمة تحيط بي من كل جانب.

كلما بقيت في المكتبة، زاد الشعور بالخوف. الكائنات غير المرئية التي كنت أشعر بها ازدادت كثافة، والظلال أصبحت أكثر وضوحًا، وكأنها تتجسد لتتسلل إلى عقلي. شعرت بأن المكتبة ليست مجرد مكان، بل كيان حي ينبض بقوى مظلمة، تدفعني إلى حافة الجنون.

عندما رأيت شخصًا هنا، كان هدوؤه في مواجهة هذا الرعب محيرًا. كيف يمكنه مواجهة هذه الظلال والكائنات المظلمة وكأنها لا تؤثر عليه؟ هذا الهدوء في وجه الفزع جعلني أشعر برعب أعمق، كأن هناك شيئًا مروعًا يتجاوز قدرتي على الفهم.

لم أتمكن من السيطرة على مشاعري. الخوف كان يتدفق من كل جانب، وأصبح كل جزء من كياني يتشدد. ارتفعت قوتي بشكل غير عادي، وتشكّلت شمس سوداء في يدي، تضيء بوهج مظلم ومخيف. صرخت في داخلي، محاولًا استعادة السيطرة على الرعب الذي اجتاحني، ولكن كل ما استطعت فعله كان توجيه الشعاع الأسود نحو مصدر التهديد.

الهجوم لم يكن مجرد رد فعل عادي، بل كان محاولة يائسة للسيطرة على الرعب الذي اجتاحني. كنت أبحث عن وسيلة لفرض سلطتي على هذا المكان، مهما كان الثمن. الشعاع الأسود الذي أطلقته كان تعبيرًا عن الرعب الهائل الذي شعرت به، ووسيلة للتعامل مع القوى المظلمة التي أحاطت بي.

في تلك اللحظة، كان كل شيء يختلط بالفوضى والرعب. شعرت وكأنني في معركة لا أستطيع فيها سوى الهجوم بكل قوتي. الخوف كان يتدفق من كل جانب، وحاولت بكل ما أوتيت من قوة أن أفرض سيطرتي على هذا الكابوس، حتى لو كان ذلك يعني مواجهة العدم.

من وجهة نظر ثالثة، كان المشهد يعكس صراعًا مريرًا بين الهدوء والظلام، حيث كان كل طرف يسعى لفرض سيطرته. ويبدوا إن المكتبة كانت تلعب دورًا حاسمًا في هذا الصراع، تزيد من تعقيد الأمور بظلالها وكائناتها التي تثير الرعب، وكأنها تسهم في تعميق التهديد الذي يواجهه الجميع.

***

رفعت عيني نحو لافير، ويدها لا تزال مرفوعة في الهواء، كما لو كانت تستعد لإطلاق قوة هائلة. فجأة، دون أي تحذير، ظهر أمام عيني منجل أسود محمر، يتلألأ بلمعان قاتم، وكان على بعد ثوانٍ من ملامستي. كانت الحركة سريعة للغاية، لدرجة أنني لم أتمكن من الاستجابة أو التفكير قبل أن يلامسني المنجل.

ولكن قبل أن يتسنى للمنجل أن يلمسني، اختفى فجأة، ظل أسود غير مرئي. ظهر كالكابوس، انقض على لافير، وضرب وجهها بقوة. في تلك اللحظة، كما لو كانا مجرد سراب، اختفى الكائنان من المكتبة في غمضة عين. تلا ذلك انفجار صدمة هائلة، واهتزت المكتبة بالكامل، مما جعل الأثاث والكتب تتطاير في كل اتجاه.

وجدت نفسي وحدي وسط الفوضى، ذاهلًا مما حدث. “يالها من سرعة مرعبة!” تمتمت، غير قادر على تصديق ما جرى. كل هذا وقع في ثانية واحدة فقط، وكأن الزمن توقف لحظة لتشهد هذا العرض المفزع.

نظر بايل إلى المكتب، ووجد كأسًا من الشوكولاتة الساخنة جاهزًا، وكأنه لم يحدث شيء. صمت للحظة، ثم ضرب المكتب برفق، محدثًا صوت “بفت” خافت. “كياهاهاهاهاهاها”، ضحك بسخرية، “لاتزال راحتي تهمك.”

~~~

اعذروني على الأخطاء…⬇️

2024/09/06 · 88 مشاهدة · 1555 كلمة
TroX
نادي الروايات - 2024