الفصل الثامن: فوضى [3]

{في مقر فرسان الهيكل}

الفوضى كانت عنوان المشهد. أقدام الجنود تضرب الأرضيات الرخامية، والهمسات القلقة تتصاعد بين الجدران الباردة. الناس يركضون في كل الاتجاهات كأنما الأرض نفسها تهتز تحت أقدامهم. كان مقر فرسان الهيكل أشبه بخليّة نحل ثائرة، بينما تعالت أصوات صافرات الإنذار كأنها صفارات القدر نفسه، تنذر بشيء مرعب على وشك الحدوث. لكن وسط هذه العاصفة المحمومة، في الطابق العلوي، وقف رجل عجوز بجانب نافذة واسعة، تتراءى خلفها مشاهد المدينة الثانية المتأزمة.

ألبرت، بملامحه الصارمة التي لم تعترف بالفوضى من حوله، نظر إلى الخارج بهدوء غير مفهوم. عينيه العميقتين كهاويتين تبتلعان كل ما حولهما، دون أن يهتز له جفن. كان وجوده ثقيلًا، يفرض هدوءًا غير طبيعي وسط الضجيج المتصاعد.

الباب انفتح فجأة، ودخل رجل آخر مندفعًا، أنفاسه تتسارع كأنه مطارد من شبح لا يُرى. شعره البني القصير كان مبللًا بالعرق، ورداؤه الأزرق الداكن كان ملوثًا بغبار المعارك. الرجل وقف متصلبًا للحظة، تردد في الحديث أمام العجوز الذي بدا وكأنه لا ينتمي لهذا العالم.

“سيدي… يجب أن نتدخل فورًا! المدينة الثانية… إنها على وشك الانهيار!”، قال بصوت يرتجف، وكأنه يعلم أن كل كلمة تخرج من فمه قد تزيد من تفاقم الوضع.

دارت عينا ألبرت الباردتين نحوه ببطء، وكأن الرجل العجوز كان يزن كل كلمة قبل أن ينطق بها. “لا يتدخل أحد. انشروا الدرع الثالث لحماية المدينة.”

الارتباك كان جليًا في ملامح الرجل الأصغر سنًا. “ولكن… سيدي!”، رفع صوته، محاولًا إيصال خطورة الموقف، لكن ألبرت لم يتحرك قيد أنملة.

“قلت اصمت.”، صوته كان كالسيف القاطع، لا مجال للنقاش.

“هذا أمر من القيادات العليا.” كانت تلك الكلمات كافية لتحطيم كل شكوك الرجل، وكأن ذكر القيادات العليا هو كلمة السر التي تنهي كل احتجاج. وجهه تحول إلى شاحب كما لو أنه رأى الموت بعينيه.

“ح- حاضر، سيدي!”، قال بصوت مرتجف، ثم استدار وخرج بخطوات متعثرة، كأنه يهرب من مكان لا يُحتمل البقاء فيه.

ألبرت استدار مرة أخرى نحو النافذة، لكن عيناه لم تكن تريان المدينة. كان يرى شيئًا آخر، شيئًا أعمق وأشد ظلامًا. رفع يده إلى جبينه، وضغط بإصبعه كأنه يحاول تهدئة دوامة الأفكار التي تدور في رأسه.

تنهد…

كان يعلم أن هذه اللحظة ستكون بداية الكارثة.

ألبرت لم يكن مجرد رجل عجوز عادي، بل كان أسطورة في ذاته. جسده الضخم وعضلاته المشدودة تحت ملابسه الرسمية أعطت انطباعًا بأنه محارب سابق. بدلة رسمية بنية داكنة، مع ربطة عنق سوداء، ومعطف واسع طويل ذو لون أسود يكاد يغطي جسمه بالكامل. الندوب التي تكسو وجهه لم تكن مجرد علامات حرب، بل كانت قصصًا محفورة على جلده، قصصًا مليئة بالمعاناة والانتصارات التي دفع ثمنها غاليًا.

لكن هذا الرجل العجوز، ألبرت، رئيس فرسان الهيكل، والمدير المسؤول عن المدينة الثانية… لقد كذب للتو.

لم يكن هذا أمرًا من القيادات العليا.

الحقيقة كانت أسوأ بكثير. الكلمات التي قالها قبل لحظات كانت مجرد غطاء هش يخفي خلفه الحقيقة المرعبة.

تذكر تلك الليلة الماضية جيدًا.

في قلب الظلام، زارته لافير، حاكمة الموت. لم يشعر بها أحد وهي تدخل مكتبه كظل ينسل بين الأروقة. كان حضورها مرعبًا كعادتها، لكن ما قالته كان أشد رعبًا من أي شيء آخر.

“تذكر، ألبرت…”، قالت بنبرة هادئة تخفي خلفها تهديدًا واضحًا. “لا يتدخل أحد في قتالنا. إن فعلت ما أمرتك به، فلن يمس المدينة الثانية أي ضرر.”

كان يعلم جيدًا أن الامتثال لأمرها ليس خيارًا، بل ضرورة للبقاء.

أخذ نفسًا عميقًا، مستشعرًا الثقل الذي لا يزال يخنق صدره.

لقد كذب.

إن علمت القيادات العليا بذلك، فإن حياته ستكون في خطر شديد. ولكن ذلك لم يكن كل شيء.

أطاع كائنًا من العرق الآخر. كائنًا لا يتبع أي قواعد أو قوانين بشرية.

النتائج كانت معلقة على خيط رفيع.

إذا ارتكب أي خطأ، فإن الكثيرين سيموتون، والمدينة الثانية قد تكون على وشك الانهيار.

إذا اكتشفت القيادات العليا هذا السر، فسيُعتبر خائنًا، وإعدامه سيكون مسألة وقت فقط.

ثالثًا، تداخل ملكة مصاصي الدماء في مجال ليس مجالها أحدث فوضى هائلة على نطاق واسع. إذا تسربت تلك الأخبار إلى البشرية، فقد تندلع حرب ضخمة بين العرقين، تُهدد بدمار شامل إذا لم تُبرم معاهدة صلح تنقذ ما يمكن إنقاذه. ولذلك، كان أمر ألبرت واضحًا: لا يتدخل أحد في القتال، ليس فقط بسبب تهديد لافير، ولكن أيضًا للحفاظ على هوية الكائنين المتصارعين طي الكتمان. كشف أي شيء عن هويتهما يمكن أن يتسبب في عواقب غير متوقعة، قد تخلّف وراءها خرابًا لا يُسترجع.

كانت الوضعية حرجة ومعقدة بشكل غير عادي.

لكن السؤال الذي كان يقض مضاجع ألبرت هو: من هو ذلك الكائن القوي الذي يستطيع أن يتعادل مع حاكمة الموت؟ لافير، التي تعتبر رمزًا للدمار وقوة لا تُقهر، جاءت بنفسها إلى المدينة الثانية لتخوض هذا القتال. لا شك في أنها لم تختَر هذه المعركة عبثًا، ولا شك أن خصمها ليس كائنًا يمكن الاستهانة به. هل كان هذا الكائن القوي يعيش بينهم طوال الوقت، مخفيًا قوته وسلطته؟ أو ربما كان يعيش في صمت، غير معروف للعيان؟

لماذا اضطرت لافير للحضور شخصيًا؟ كل هذه الأسئلة تلاحقت في ذهن ألبرت، ولكن في الوقت الحالي، يعرف شيئًا واحدًا فقط: لا يجب أن يتدخل أحد في هذه المعركة، وإلا ستصبح رقاب الجميع تحت المقصلة، بما في ذلك رقبته. تساؤلات متعددة تملأ ذهنه، لكنه يعلم أنه يجب أن يلتزم بالقرارات المتخذة وأن يحافظ على هدوءه ويدير الأمور بحذر.

“تنهد”

“أنا حقًا في وضع لا يُحسد عليه.”

بعد الانفجار…

تراجع آرون ولافير إلى الوراء للحظة، وكأن الأرض تحت أقدامهما ارتجت من شدة الصدمة. نظراتهم كانت متجمدة، مليئة بالبرود والعزم، وكأن كل واحد منهما كان يتأهب للمرحلة التالية من المعركة، التي من المتوقع أن تكون أكثر عنفًا.

كالسد الذي تم فتحه فجأة، انطلقت هالات ضخمة تحيط بجسديهما، وكأنهما تجسيدان لقوى كونية تتصادم. هالة آرون كانت سوداء حالكة، تتسرب منها ظلال تُشير إلى الهاوية، بينما هالة لافير كانت ذهبية تلمع بجلال ملكي، تُحاكي سطوة لا تقهر.

بدأت الهالات تتصادم بشراسة، كأنهما قوتان تتصارعان على السيادة على الكون بأسره.

“وشششش-!”

تسبب تصادم الهالات في حدوث انفجارات قوى غير مسبوقة، مما جعل الصخور والأشجار في المنطقة تتسارع في الهواء، وكأنها رفضت البقاء على الأرض. الجبال نفسها، التي كانت شاهقة ومهيبة، تفككت إلى قطع، وأصبحت تلك القطع تطفو في الفضاء، كأنما الجاذبية قد فقدت سلطانها.

في تلك اللحظة، اختفت الجاذبية في المنطقة بأكملها، وكأنها تلاشت من مركز التصادم الذي كان يربط بين آرون ولافير.

أجسادهما بدأت تطفو في الهواء، كما لو كانا يتحدىان قوانين الطبيعة.

ثم فجأة، اختفيا من أماكنهما.

وفي لحظة هائلة، التقيا في السماء. أسلحتهما التقتا بقوة عنيفة، وكأنهما تجسيد لبرق هادر يتحدى كل ما حوله.

“بوففففف!”

الصوت الذي أعقب تصادم أسلحتهما كان كفجوة من الدمار، حيث انتشرت موجات صدمة هائلة دمرت كل ما في طريقها. الأرض تحتهم تلاشت، الأشجار اقتلعت من جذورها، والسماء نفسها بدت وكأنها ترتجف من قوة الصدمة. كل شيء كان يتشوه ويتفكك، كأن الكون نفسه كان يذوب في مواجهة هذه القوة الهائلة.

في الحقيقة هذا السرد اعجبني:

“بوفففف-!!

“بوفففف-!!

“بوفففففف-!!

في لمح البصر، تبادل آرون ولافير آلاف الضربات، كأنهما عملاقان يواجهان بعضهما في معركة قد تُقرر مصير العالم. كانت كل ضربة تُطلق صرخات انفجار هائلة، تعلو الأصوات كالأمواج المتلاطمة، وتسبب اهتزازات مدمرة في الأرض.

الجروح تملأ أجسادهم، لكن قدراتهم الشفائية تستمر في العمل بشكل مذهل، تاركة خلفها ندوبًا تُشعرك بأن هذا القتال هو صراع أسطوري. كل ضربة وكأنها صدى لشتاءٍ طويل، تعكس عزمهم وإصرارهم على البقاء.

أخذ آرون خطوة للخلف، وظهرت خلفه سحب كثيفة من الكرات المظلمة، التي تجمعّت في سماء المعركة، مكونة دوامة من الظلام المشع. كان تأثيرها يكاد يغير طبيعة المكان، حيث اختفى ضوء الشمس وتبدل إلى ظلال مظلمة، وكأن الليل حلّ فجأة.

وفي المقابل، ظهرت خلف لافير مئات الآلاف من سيوف الدماء، تتراقص في الهواء كأنها تنين متوحش يتهيأ للانقضاض. كل سيف كان ينبض بالقوة، مكوّنًا مشهدًا من البريق الدموي، كأنه يشكل حائطًا من السيوف القاتلة.

لم ينتظر أي منهما الآخر، فالتقت القوى في تصادم هائل، كأنما انفجرت قنابل هائلة في الهواء. الصخور والرماد ارتفعت في السماء، بينما تحطمت الأشجار وكأنها أوراق شجر جافة، مما أدى إلى تغيير معالم الأرض بالكامل.

“بوففففف-!!

“بوففف-!!

“وششششش-!!!

كان المشهد أشبه بجحيم حيّ، حيث تحولت المنطقة من طبيعية إلى فوهة براكين متفجرة، يتصاعد منها دخان كثيف ونيران لاهبة، تهدد كل شيء في طريقها. الحمم البركانية كانت تتدفق كأنهار من النار، مما زاد من جحيم المعركة.

في السماء، كان آرون ولافير يتصارعان كجناحين عملاقين يحلقان في العواصف. ركز آرون طاقته في حافة سيفه، ووجه ضربة مدمرة نحو رقبة لافير. كان السيف يلمع بقوة مظلمة، تاركًا خلفه أثرًا من الطاقة الغاضبة.

سحبت لافير رقبتها لليمين في آخر لحظة، وتجنبت السيف بمقدار شعرة، تاركة خلفها نسمة من الظلام. لم ينتظر آرون لسحب سيفه، واستغلت لافير الفرصة، مهاجمة إياه بمنجلها في معدته.

علم آرون أنه لن يستطيع تجنب المنجل، لذا عزز يده بالمانا، ورفع كفه لتلقي الضربة. “اختراق-”

“وششش-!”

اخترق المنجل كف آرون، وواصل تقدمه، لكنه توقف قبل أن يصل إلى عمق قاتل. حاولت لافير سحب المنجل، لكنَّه لم يتحرك حتى سنتميتر واحد. ضيق آرون عينيه، وترك سيفه، ووجه ضربة قوية إلى وجه لافير، مما جعلها تسقط من السماء، كأنها نيزك ملتهب، وصولاً إلى الأرض.

توقف آرون على قمة أحد الجبال الطائرة، وشاهد المنجل في يده، مستعرضًا كفه الذي رفض أن يتجدد، محاطًا بالغبار والدم. رمى المنجل بعيدًا، ثم طار في الهواء، متجهاً نحو لافير.

بسرعة تتجاوز حدود السرعة ذاتها ، ركل لافير في معدتها بقوة هائلة، مما جعل جسدها ينطلق في الهواء كقذيفة. لم يتوقف عند هذا الحد؛ بل سبق جسد لافير الطائر، ووقف فوقها، مستخدمًا ركلة الفأس ليوجه ضربة قاصمة إلى وجهها.

استقبلت لافير الركلة، لكنها أمسكته بقوة. حاولت عض قدمه بشدة، حتى شعر آرون بالألم. ”!!أوتش” عض آرون شفتيه، بينما كانت لافير تحاول مقاومته بكل قوتها. استمر آرون بركل وجهها بقوة، لدرجة أن ملامح لافير بدأت تختفي تدريجيًا تحت ضرباته المتتالية.

بينما اختفت لافير من مكانها للحظة، نظر آرون إلى جانبه ليجد أظافرًا طويلة تظهر فجأة أمام عينه، تنبض بريقًا قاتمًا. حرك رأسه لليمين، لكن الأظافر طعنت كتفه. تراجع بسرعة، وركل الأرض بقوة، مما سبب زلزالًا هائلًا، دمر كل شيء حوله في نصف قطر عشرة كيلومترات، كأن الأرض نفسها تعوي من شدة الصراع.

بتصميم وعزم، قرر آرون في تلك اللحظة، “يجب أن أنهي كل شيء بسرعة!!” كان صوته ملؤه الإصرار، وكأن العاصفة التي تجري في داخله تقترب من ذروتها، مستعدًا لإنهاء هذا الصراع الدموي مهما كلف الثمن.

~~~

اعذروني على الأخطاء…⬇️

2024/09/07 · 51 مشاهدة · 1602 كلمة
TroX
نادي الروايات - 2024