الفصل العاشر: "بداية الكابوس"
دم...
دم...
دم...
همس...
اقتـــل...
اقتـــل...
اقتـــل...
اهجــــم...
دمّــــر...
اطغِــــ...
الكثيـــــر من الدم...
الكثيـــــر من الجثث...
أطرافٌ ممزقة...
رؤوسٌ تتدحرج...
سماءٌ حمـــــراء...
وصمتٌ... يــــصرخ...
افتح عينيــــك...
الجحيـــــم... ينتظـــــرك...
---
"آاااااااااااااااااه!!"
صرخةٌ طويلة، من أعماق الروح، مزّقت سكون غرفة الكتب.
نهض نيفاليس دفعةً واحدة من الكرسي، كمن لدغته نيران الواقع.
صدره يعلو ويهبط، أنفاسه متقطعة، وأنينه أشبه بعويل جريح يحتضر.
"لا... لا... لااااااا!"
ضرب رأسه بيديه، كأنّه يريد طرد الصور، طرد الدم، طرد الجحيم من عقله.
"ما هذا؟!"
قالها بفزع، ووجهه شاحب كأن الدم انسحب منه.
"بحق الجحيم... ما هذا الكابوس؟!"
جسده كله يرتجف، كأن الهواء حوله صار ثقيلاً، كأن الظلام يضغط على صدره.
"أغغغغ..."
أطبق على أذنيه بكلتا يديه، لكنه لم يمنع الصوت.
اقتــــل...
"تباااااااااا!!! اصمت!!"
صرخ، ثم هوى على الأرض، ظهره يرتطم بالخشب البارد، ورأسه يضرب الأرضية من دون أن يشعر.
بدأ يلهث، يلهث وكأنّه خرج للتو من قبر ضيّق.
عقله يرفض النسيان.
كل صورة، كل دم، كل جثة... ما زالت تومض خلف عينيه.
مرت لحظات... أو ربما سنوات داخلها...
كان يتلوى، يحتضن نفسه وكأنه يبحث عن دفء مفقود، عن أمان مستحيل.
أسنانه تصطك، وجسده لا يكف عن الارتعاش.
تارة يئن، وتارة يصمت.
لكن عيناه... ظلّت مفتوحتين، تنظران إلى السقف، دون رمش.
نصف ساعة كاملة...
ثم، ببطء، تحرّك.
جلس على الأرض، متكئًا بظهره إلى الكرسي.
مدّ يده المرتجفة، وتشبث بحافة الكرسي كالغريق.
وأخيرًا... جلس عليه من جديد.
أسند مرفقيه إلى ركبتيه، ودفن رأسه بين يديه.
صوت تنفّسه كان ثقيلًا... مرهقًا... محطمًا.
---
دوي خطواتٍ مسرعة يقترب.
اندفع باب الغرفة فجأة، ودخل الخدم بفزع.
"سيدي!!"
توقفوا، وتجمّدوا في أماكنهم حين رأوه...
جالسًا هناك، لا يرفع رأسه، جسده يرتجف، وتنهيداته متقطعة وكأنّه يحتضر.
أحدهم شهق، والآخر نظر للثالث بعينين مرتعبتين.
"سيدي؟!"
اقترب أحدهم بحذر، كأن الاقتراب منه قد يحطمه.
كان نيفاليس لا يزال على حاله، رأسه مدفون بين يديه، جسده يرتعش، وصمت رهيب يخيّم على المكان.
لم يجب.
أشار أحد الخدم للآخرين، ثم قال بصوت خافت:
"انقلوا السيد نيفاليس إلى غرفته فورًا... واحضروا المعالج."
---
داخل غرفة نيفاليس
كان ممددًا على سريره، ينظر إلى السقف بعينين زجاجيتين، وكأنه ما زال غارقًا في الكابوس.
كان جسده مرتخيًا، ويده ترتعش بشكل غير ملحوظ. الهواء في الغرفة كان خانقًا، ولا شيء سوى الصمت الثقيل الذي يملأ المكان.
سمع خطوات الخدم وهم يقتربون من الباب، ثم همسات بين البعض منهم:
"هل أبلغتم الكونت؟"
"نعم... ولكنه قال إنه مشغول."
صمت تلا تلك الكلمات، وكأنها غلفت المكان بثقل غير مرئي.
---
بعد بضعة دقائق، طرق أحدهم الباب بلطف.
ابتسم نيفاليس حين رأى القادم.
انفتح الباب برفق، وأطل منه إدوارد، الخادم الرئيس لمنزل الكونت، واليد اليسرى للكونت وساحر القصر الرسمي.
إدوارد، الساحر الرسمي، كان يملك ملامح تنم عن قوة وحكمة اكتسبها من سنوات حياته الطويلة.
كان طويل القامة، مشدود القوام، يرتدي معطفًا داكنًا امتد إلى ركبتيه، تتخلله خيوط ذهبية خفية بالكاد تُرى، لكنها تكشف ذوقًا أرستقراطيًا لا يتكلف، وتضيف لمسة من الفخامة تظهر بلمسات سحرية عندما يتحرك.
شعره الأسود الفاحم بدا وكأنه تمرد على النظام، خصلاته المتموجة انسدلت على جبينه بطريقةٍ فوضوية أنيقة. بشرته شاحبة بلون الثلج، تزيد من حدة ملامحه، ومن خلف نظاراته الرفيعة اللامعة، برقَ وميضٌ عابر في عينية، الحادتين بلون أسود عميق.
بعد أن دخل إدوارد الغرفة، نظر إلى نيفاليس برفق وسأله:
"كيف حالك الآن؟"
ابتسم نيفاليس ابتسامة خفيفة، وقال بصوت هادئ:
"بخير، لقد كان مجرد كابوس."
لحظة سماع الجملة، تغيرت تعبيرات وجه إدوارد قليلاً، فقد ظهرت عليه علامات الحذر والقلق لفترة قصيرة، كأن شيئًا ما قد أثار داخله، لكنه سرعان ما أخفى ذلك التغير وعاد إلى هدوئه المعتاد.
نظر إلى نيفاليس للحظة صامتًا، ثم قال بهدوء:
"هل ترغب في الخروج قليلًا؟"
أخذ نيفاليس لحظة لينظر إلى السقف، ثم أجاب بصوت منخفض.
"نعم، أريد الخروج من هنا."
---
بعد قليل، صعد نيفاليس وإدوارد إلى العربة السحرية المخصصة للنبلاء. كانت عربة فاخرة بلون داكن، تحيط بها زخارف فضية متوهجة بشكل خافت، تنبع من تعاويذ قديمة محفورة على أطرافها. ما إن جلس نيفاليس في الداخل، حتى أطلقت العربة همسة سحرية خفيفة، وبدأت تطفو بهدوء عن سطح الأرض.
انطلقت العربة بسلاسة، تحلق على ارتفاع منخفض فوق الطريق الحجري، تشق الضباب بهدوء، وكأنها تسير فوق سحابة صامتة. الرياح كانت تعصف من حولها، وصوت عجلاتها السحرية كان ينزلق على الهواء كما لو أنه لحن خافت يغني للوحدة.
في الداخل، ساد الصمت. كان نيفاليس يحدق من النافذة، وعيناه تتابعان الغابات الكثيفة والمباني القديمة التي بدأت تبتعد شيئًا فشيئًا خلفهم. رغم ابتعاده عن القصر، لم يكن قلبه مرتاحًا. كان لا يزال يحمل داخله صدى الكابوس، وصدى الدماء التي غمرت أحلامه.
بعد بضع دقائق، قطع نيفاليس الصمت وقال دون أن يلتفت:
"بالمناسبة، إدوارد… إلى أين نحن ذاهبون؟"
نظر إليه إدوارد، وعيناه تلك الوهلة امتلأتا بنظرة غريبة... كانت مزيجًا من الحنان العميق، والألم المكبوت، وكأنه كان يتأمل وجهًا عزيزًا يوشك أن يرحل. لكن سرعان ما تغيرت ملامحه، وتبدلت إلى حزم وهدوء معتاد.
ابتسم إدوارد ابتسامة خفيفة، وفي عينيه بريق غامض. ثم قال بنبرة عاطفية: "آسف لما سيحدث الآن، سيدي الشاب، لكن هذا لمصلحتك."
وفي اللحظة التي أنهى فيها كلماته، لم يتمكن نيفاليس من ملاحظة الحركة السريعة ليد إدوارد، التي استقرت على رقبته في ضربة قاضية، وسقط مغشيًا عليه فورًا.
وقفت العربة فجأة، ورفع إدوارد جسده الضعيف بين ذراعيه، ثم حمله برفق بعيدًا عن العربة. كانت خطواته ثقيلة، كأن ثقل ما يفعله يرهقه، وكان هنالك شيء غامض في نظراته، كما لو أن الأحداث التالية كانت مكتوبة في مكان ما، وأنه مجرد منفذ لها.
كانت خطواته ثقيلة، وكأن ثقل ما يفعله يرهقه. ألقى نظرة حزينة على نيفاليس، وقال بنبرة خافتة ومليئة بالألم: "يجب عليك أن تتخطي هذه العقبة بمفردك، بني، فهذه ليست سوى البداية."