الفصل التاسع: "الرتابة"
كان النهار مشرقًا في المملكة، لكن داخل الغرفة الواسعة المزينة برفوف الكتب والأثاث الفخم، بدا العالم قاتمًا ومملاً بالنسبة لنيفاليس. الغرفة، التي عادةً ما تبهر زوارها بصفوف الكتب القديمة التي تلامس سقفها، كانت بالنسبة له سجنًا يفتقر إلى الإثارة.
جلس نيفاليس على كرسي كبير محاط بمكتب مصنوع من خشب الأبنوس الفاخر، يقرأ أحد الكتب التي اختارها عشوائيًا من الرفوف. فجأة، أغلق الكتاب بقوة، فصدر صوت ارتطام عالٍ تردد في أنحاء الغرفة. ألقى الكتاب جانبًا وتنهد بعمق، ثم قال بصوت مفعم بالضجر:
"أشعر أنني سأختنق من هذه الرتابة... كل شيء هنا لا معنى له."
وقف وبدأ يتجول في الغرفة الواسعة بخطوات بطيئة، صوت حذائه الجلدي يقطع الصمت الثقيل. كان يرتدي ثيابًا أنيقة كالعادة، عاكسة لهيبة عائلته العريقة. شعره الأبيض الطويل يتمايل مع كل خطوة، وعيناه الزرقاوان الباردتان تلمعان بخليط من السأم والتفكير.
توقف أمام نافذة كبيرة تطل على حدائق القصر الخلفية، التي كانت مليئة بالزهور المزهرة والمنحوتات الحجرية. بدت الحديقة كلوحة فنية رائعة، لكنها لم تفلح يومًا في جذب انتباه نيفاليس. قال بصوت خافت وكأنه يخاطب نفسه:
"حفلات، حكايات، وتملق لا ينتهي... أهذا هو معنى الحياة؟"
نظر إلى رفوف الكتب المصفوفة بإحكام على الجدران، والتي قرأها كلها بالفعل. لم تكن هذه الغرفة مجرد مكتبة شخصية، بل كانت واحدة من أوسع المكتبات الخاصة في المملكة. ومع ذلك، لم تجد فيها روحه المرهقة ما تبحث عنه. بل إنه تجاوز هذا الحد، حيث طلب كتبًا من جميع أنحاء المملكة. قرأها جميعًا، من كتب السياسة إلى خطط الحروب، وحتى المؤلفات الفلسفية التي تغوص في أسرار الحياة والموت.
لكن هناك نوعًا واحدًا من الكتب كان مختلفًا عن غيره. تلك الكتب التي تحدثت عن النبلاء القدماء، عن حياتهم الملحمية وإنجازاتهم التي صنعت تاريخ المملكة. تلك الكتب كانت تثير إعجاب نيفاليس وتحيي في داخله شعورًا بالحماس. أحب عظمة هؤلاء الرجال والنساء، أسلوبهم في الحكم، وشجاعتهم التي لا تعرف الخوف.
لكن هذا الشغف بتلك الكتب كان دائمًا مصدر جدال بينه وبين والده. الكونت، بحكمته الباردة، لم يكن يرى في تلك الكتب سوى خطر على عقل وريثه. كلما رآه يقرأ أحد تلك الكتب، كان يقول له بلهجة صارمة:
"لا تتعلق بالماضي، نيفاليس. نبلاء الماضي مختلفون عن الحاضر. ما كان ينفعهم لن ينفعنا الآن."
في كل مرة كان نيفاليس يسمع تلك الكلمات، كان يشعر بحيرة عميقة. لم يكن يفهم ما الذي يعنيه والده حقًا بـ"الاختلاف". بالنسبة له، بدا الفرق الوحيد بين نبلاء الماضي والحاضر هو أن نبلاء الحاضر أقل هيبة وأقل إنجازات وأقل نبلاً بكثير.
عاد الآن إلى طاولته، وجلس على الكرسي الكبير مجددًا، يحاول أن يخرج من دوامة الأفكار التي حاصرته. نظر إلى كومة الكتب التي تراكمت فوق بعضها البعض. بعضها كان قد قرأه عشرات المرات، لكن الآن أصبح كل شيء يبدو باهتًا وعديم القيمة. قال ببرود، وكأنه يلقي بحكم على حياته:
"أريد شيئًا مختلفًا. شيئًا حقيقيًا، بعيدًا عن هذه الحياة الرتيبة والمكررة التي يعيشها النبلاء."
ترددت فكرة في ذهنه للحظة: هل يذهب إلى إدوارد؟ لقد كان إدوارد، الساحر والخادم الرئيسي للعائلة، معلمه منذ دخولة هذا القصر كلما شعر نيفاليس بالملل، كان يلجأ إليه ليتعلم شيئًا جديدًا. لكن سرعان ما استبعد الفكرة، فقد أخبره إدوارد قبل أيام فقط أن تعليمه الأساسي قد اكتمل، وأنه لم يبقَ له شيء آخر ليتعلمه في الوقت الحالي.
خطرت بباله ثلاث شخصيات أخرى كان سيسعد برؤيتهم بلا شك…
امرأة ذات شعر ذهبي، مهيبة الحضور، تحمل في ملامحها وقارًا ونبلًا لم يجده في أي من نساء القصور. بالنسبة لنيفاليس، كانت تجسيدًا حيًا لما يجب أن يكون عليه النبل الحقيقي، لا زخرفًا ولا ألقابًا، بل هيبة منبعها الصدق والقلب النقي.
ثم الفتاة الصغيرة، التي كانت على الرغم من طفولتها، هي من علمته الكثير. كانت شغوفة بمشاركة ما تعرفه، وعلى الرغم من سنها الصغيرة، كانت دائمًا تسعى لتحفيز فضوله وتعليمه كل ما تعلمته. كل كلمة منها كانت تحمل شغفًا بالغًا، وكل درس كان في نظره بمثابة اكتشاف جديد.
أما الثالث، فكان فارسًا صارمًا في مظهره، لكنه طيب القلب. كان يعامله بلطف وحب، مما جعله يشعر بالراحة والأمان في وجوده.
هؤلاء الثلاثة، بجانب إدوارد، كانوا الأشخاص الوحيدين الذين يهتم لهم نيفاليس في السبع سنوات الماضية من حياته.
وبينما استسلم لأفكاره، تسلل سؤال إلى ذهنه.
سبع سنوات؟
ما الذي كان قبلهن؟
لم يتذكر. لم يرَ وجهًا، ولم يسمع صوتًا من ما قبل تلك السبع سنوات.
لكنه لم يهتم بذلك كثيرًا.
لطالما كانت لدي قدرة غريبة منذ أن فتحت عينيّ في هذا العالم، قدرة على التمييز. التمييز بين الحقيقة والخداع، بين الصدق والكذب.
كان من الغريب والمرعب أن أدرك أنني من ضمن عشرات الأشخاص الذين قابلتهم، أن أربعة فقط منهم كانوا صادقين في تعاملهم معي. كان هذا الإدراك مرعبًا حقًا... أن تكون محاطًا بكل هؤلاء الذين يخادعونك، بينما قليلون فقط من يستحقون ثقتك.
"آه..." تنهد نيفاليس وعاد للجلوس على الكرسي بتعب وملل. وضع يده تحت ذقنه وأسند رأسه بينما
عادت عيناه تتجولان في الغرفة المألوفة جدًا.
بينما كان غارقًا في أفكاره، قُطع صمته بطرق خفيف على الباب. رفع رأسه ببطء وقال بفتور:
"ادخل."
دخل الخادم الشاب حاملًا رسالة مختومة بختم عائلة ملكية صغيرة. انحنى الخادم وقال:
"سيدي نيفاليس، لقد وصلت هذه الدعوة للتو."
أخذ نيفاليس الرسالة ونظر إليها بملل، لكنه فتحها ببطء. كانت دعوة لحضور حفل جديد في قصر البارون روزارك، أحد أبرز النبلاء في المملكة.
"حفلة أخرى..." تمتم بلهجة ساخرة. نظر إلى الخادم وقال:
"أخبرهم أنني سأفكر في الأمر."
انحنى الخادم مرة أخرى وغادر بهدوء.
عاد نيفاليس إلى النافذة، ينظر إلى العالم الخارجي بعينين مليئتين بالشكوك. الحدائق كانت تزداد جمالًا تحت أشعة الشمس، لكن بالنسبة له، كانت مجرد منظر يتكرر كل يوم.
"لا يمكن أن تكون حياتي محصورة في هذا الروتين. هناك شيء ما خلف كل هذا... شيء يستحق أن أسعى إليه. لكن ما هو؟"
كان في داخله صراع، بين شاب يشعر بعبء عائلته ومكانتها، وبين شخص يبحث عن هدف حقيقي بعيدًا عن كل هذه القوانين.
عاد إلى طاولته، أخذ كتابًا جديدًا من الطاولة، لكنه لم يفتحه. بدلاً من ذلك، جلس هناك يفكر في خطوته القادمة. فكرة الهروب من الرتابة بدأت تتسلل إلى قلبه، لكنه لم يكن يعرف كيف يمكنه كسر تلك القيود التي فرضها عليه مجده العائلي.
لحظات الصمت طالت، ولم يكن هناك سوى نيفاليس وصوت أنفاسه الهادئة، بينما ظلت عينيه الزرقاوان مثبتتين على السقف. شعور غامض، بين القلق والتوقع، بدأ يتسلل إلى داخله. هل التغيير الذي يبحث عنه أقرب مما يتصور؟ أم أن هذا مجرد وهم آخر يحاول عقله التعلق به؟
وبينما كانت تلك الأفكار تتصارع في ذهنه، كان نيفاليس يدرك شيئًا واحدًا فقط... أن الرتابة لم تكن مجرد حالة مؤقتة، بل كانت عدوًا يخنقه يومًا بعد يوم.
ربما كان التغيير أقرب مما يظن... وربما كان في طريقه إليه، دون أن يدرك أنه حين يُكسر السكون، لا يعود شيء كما كان.