الفصل الثامن "عائلة اوليفير"
في قلب مملكة فاليريان، حيث كانت سطوة النبلاء تحكم كل شيء، وقفت عائلة أوليفيير كواحدة من أكثر العائلات احترامًا ونفوذًا. لم يكن ذلك بسبب ثروتهم فقط، بل بسبب قوتهم العسكرية وسجلهم الطويل في خدمة التاج. واليوم، كان القصر الشاسع الخاص بهم ينبض بالحياة، حيث اجتمع النبلاء للاحتفال ببلوغ نيفاليس أوليفيير، وريث العائلة، سن الثانية عشر.
كانت القاعة الكبرى مضاءة بمئات الشموع المتوهجة، وثريات الكريستال تتلألأ بينما ينعكس نورها على الجدران المزينة بزخارف ذهبية. كانت الأرضية الرخامية العاجية تعكس صورة الحضور كما لو كانت مرآة عملاقة، فيما ملأت الموسيقى الأجواء، تعزفها فرقة ملكية جُلبت خصيصًا لهذه المناسبة.
وسط هذا المشهد الفخم، وقف نيفاليس بملابس رسمية أنيقة، مصنوعة من حرير أزرق داكن مطرز بخيوط ذهبية، تعكس مكانته كنبيل حقيقي. كان شعره الأبيض الناصع يتناقض مع عينيه الزرقاوين العميقتين، اللتين حملتا برودًا ملكيًا لم يكن متوقعًا من طفل في عمره. ورغم هيئته الصغيرة، إلا أن وقفته كانت متزنة، مليئة بالثقة التي جعلت النبلاء الحاضرين ينظرون إليه باحترام، وأحيانًا بحذر خفي.
على مقربة منه، وقف والده الكونت ألفريد أوليفيير، رجل طويل القامة ذو ملامح حادة وعينين بلون العقيق الأحمر. شعره الأسود كان ممشطًا للخلف بدقة، فيما ارتدى معطفًا أسود ثقيلًا مُزينًا بتطريز فضي، وعلى صدره شارة العائلة التي ترمز إلى قوة أوليفيير التي لا تُكسر.
بجانبه، وقفت والدته، الليدي إلينور، المرأة التي لطالما وُصفت بأنها جوهرة المجتمع النبيل. بشعرها الذهبي الطويل المتدلي بانسيابية، وعينيها العسليتين اللتين تعكسان ذكاءً حادًا، كانت تجسد الجمال والرشاقة.
ارتدت فستانًا أزرق ملكيًا بسيطًا في تصميمه، لكنه راقٍ بما يكفي ليُظهر مكانتها. ومع ذلك، كان هناك شيء بارد في نظرتها حين كانت تتوجه نحو نيفاليس، كأنها تنظر إلى شخص غريب، وليس إلى ابنها الوحيد.
بجوار الكونت ألفريد والليدي إلينور، بدا نيفاليس ككائن غريب خرج من قصة أخرى. ملامحه البيضاء الباردة، وشعره الفضي وعيناه الزرقاوان، شكّلت تناقضًا صارخًا مع ملامح والديه، وكأن الدم الذي يجري في عروقه لا ينتمي لهذه السلالة. لقد أظهرت الصورة الثلاثية شيئًا لا يمكن إنكاره... هذا الفتى ليس من نسل أوليفيير.
منذ عامين فقط، اجتاحت شائعات المملكة خبرًا مثيرًا: عائلة الكونت ألفريد أوليفيير تبنّت طفلًا غامضًا، طفلًا عبقريًا يحمل موهبة فريدة لم يُرَ مثلها من قبل. موهبة لم يُسمع عنها سوى في الكتب القديمة، موهبة جعلت اسمه يتردد ليس فقط في أروقة القصر، بل في أنحاء المملكة كلها... بل وفي القارة بأكملها.
توافد النبلاء لتحية العائلة، معظمهم بابتسامات زائفة وكلمات منمقة تحمل نوايا خفية. كان الجميع يدرك أن نيفاليس ليس مجرد وريث نبيل، بل حامل موهبة نادرة. منذ صغره، أظهر قدرة استثنائية على استخدام الهالة والسحر معًا، وهو أمر لم يُسمع به تقريبًا في المملكة. هذه الميزة جعلته مركز اهتمام الجميع، فبعضهم أراد التقرب منه، بينما رآه آخرون تهديدًا محتملاً يجب مراقبته.
وبينما استمر الحفل، لم يكن نيفاليس غافلًا عن النظرات المتبادلة بين الحضور. لقد تعلم، منذ دخوله هذا القصر منذ عامين، أن النبلاء يجيدون إخفاء نواياهم الحقيقية، وأن كل حركة، كل كلمة، وكل نظرة قد تحمل خلفها مئة معنى. ورغم حداثته بين هؤلاء النبلاء، إلا أنه كان مدركًا جيدًا أن حياته لن تكون سهلة، خاصة مع الموهبة التي يحملها.
كان هذا هو العالم في المملكة... عالم يبتسم في وجهك، لكنه يُخفي خنجرًا خلف ظهره.
"يا له من شرف عظيم أن نكون هنا اليوم، سيدي الكونت."
قال أحد النبلاء، منحنياً أمام نيفاليس.
"نيفاليس الصغير يبدو أكثر إشراقًا من النجوم نفسها!"
قال آخر بابتسامة متملقة.
"إنه تجسيد الكمال!"
أضافت نبيلة أخرى، وهي تمسك طرف ثوبها برشاقة.
كان نيفاليس يدرك أن هذه ليست سوى مجاملات جوفاء. ومع ذلك، استمتع – على الأقل – بمكانته كنبيل. لم تكن المسألة غرورًا فحسب، بل نتيجة حتمية لتعاليم صارمة تلقّاها خلال السنتين الماضيتين على يد الكونت ألفريد.
لقد علّمه والده بالتبني أسس نبلاء المملكة، وأكد له مرارًا أن النبلاء هم النخبة الحقيقية، وأن كل طبقة أدنى منهم ليست سوى مجموعة من الفشلة... حثالة المجتمع الذين لم ينجحوا في حياتهم، واستسلموا للضعف والخضوع.
ولكن نيفاليس لم يهتم كثيرًا بهذه "الأسس" أو بتراتبية النبلاء المعقدة. بالنسبة له، لم يكن النبل في الدم ولا في النسب، بل في النجاح والسلطة. وبالطبع، كان يؤمن تمامًا أن أي شخص لم ينجح في حياته هو محض فاشل... لا يستحق حتى أن يُنظر إليه.
كان يؤمن أن النبيل هو من يصنع نفسه، لا من يُولد بلقب.
بينما كان الجميع منشغلين بالمجاملات الزائفة والضحكات المصطنعة، دخل نبيل متأخرًا.
كان الرجل يلهث قليلاً، محاولًا أن يبدو هادئًا رغم تأخره. تقدم لتحية الكونت وأفراد العائلة، وانحنى سريعًا.
"عذرًا على تأخري، سيدي الكونت، حدث أمر غير متوقع في الطريق."
استدار إليه أحد النبلاء الفضوليين وسأله بابتسامة ساخرة:
"وما الذي أخرك عن هذا الحفل العظيم؟"
تنحنح الرجل قليلاً وقال بصوت مستهزئ:
"أوه، كان هناك عامي قذر سقط أمام عربتي. اضطررت للتوقف لإلقاء درس له."
"قمت بجلده حتى يعرف حدوده."
انفجر الحاضرون بالضحك. كان هناك شيء في هذا الحديث جعل الجميع يتواطأون مع الضحك في سخرية.
تلك النظرة التي ترى العوام ككائنات دون أدنى قيمة.
"العوام لا يفهمون مكانتهم في هذا العالم!"
قال أحدهم.
"لماذا هم موجودون أصلًا؟"
أضاف آخر بنبرة تهكمية.
كان نيفاليس يقف بجانب والده بالتبني، يسمع كل كلمة. لم يفهم تمامًا كيف يمكن لهذا النوع من التصرف أن يُعتبر طبيعيًا بين النبلاء.
صحيح أن العامي قد أخطأ، لكن العقوبة بدت له مبالغًا فيها، قاسية، بل... وحقيرة.
لقد احتقر مثل هذه التصرفات التي لا تمت للنبل بصلة.
كان يراهم يُشوهون النبل بأفعالهم، ويجعلونه مجرد غطاء لغرورٍ خالٍ من أي شرف.
....
مرّت ثلاث سنوات منذ ذلك الحفل، وها هو نيفاليس أوليفيير الآن في الخامسة عشرة من عمره.
لقد كبر ليصبح شابًا وسيمًا، أكثر نضجًا وأشد إدراكًا للعالم من حوله. شعره الأبيض ازداد طولًا وانسيابية، وعيناه الزرقاوان أصبحتا أكثر برودًا وثقة، كأنهما تنظران إلى العالم من علٍ.
خلال هذه السنوات، أصبح وعيه بالفجوة بين طبقات المجتمع أكثر حدة. كانت المملكة تطبق مقولة:
"النبلاء وُجدوا ليحكموا، والعوام وُجدوا ليخدموا."
لكن حتى الآن، لم يرَ نيفاليس نبيلًا حقيقيًا… لم يجد أحدًا يُجسد المعنى الذي قرأه في الكتب القديمة. لم يرَ نبلًا نابعًا من القيم… من الروح. فقط أقنعة مزيفة.
في أحد الأيام، كان نيفاليس يتجول في حدائق القصر، محاطًا بالخدم الذين يسعون لتلبية أوامره.
الحدائق بدت كلوحة حيّة، مزينة بأجمل الزهور وأشجار الفاكهة، تعجّ بالنبلاء الزائرين والمرافقين.
وأثناء سيره، تعثر أحد العمال أثناء نقل صندوق ثقيل، ليسقط بقوة، ويتناثر ما بداخله على الأرض.
توقف نيفاليس ونظر إليه بصمت للحظات، قبل أن يزمّ شفتيه بامتعاض قائلاً ببرود:
"أيها الغبي!"
رفع العامل رأسه مرتجفًا، وعقد يديه في اعتذار مذعور:
"أنا آسف، يا سيد نيفاليس! لم أكن أقصد—"
لكن نيفاليس قاطعه بنبرة جليدية:
"لا أصدق أن أمثالك يتنفسون الهواء نفسه الذي أتنفسه."
ارتعد جسد العامل، وبدأ يجمع بقايا الصندوق بسرعة محمومة، يحاول إصلاح ما أفسده، بينما ظلّ نيفاليس يراقبه بنظرة ازدراء.
ثم استدار، تاركًا العامل يلهث خوفًا خلفه، بينما الخدم الآخرون وقفوا بصمت، لا يجرؤون على التدخل.
وفي داخله، ابتسم نيفاليس بهدوء:
"لقد أصبحت ممثلًا رائعًا… تمامًا كما هو متوقّع مني."