الفصل السابع "حافة الكون"
في مكانٍ لا يمكن للزمان أن يسجّله، ولا للمكان أن يحتويه...
حيث تُكسر القوانين، ويُذبح المنطق عند العتبة الأولى...
في اللامكان حيث الزمان يُحتضر...
في بقعةٍ تم اقتلاعها من خريطة الوجود،
حيث لا فجر يشرق، ولا ظلام يغيب،
هناك...
في صمتٍ أبديّ يخنق الوعي،
يتنفس الفراغ.
ووسط هذا السكون الخانق...
وقفت هناك...قلعة..؟
لا، لم تكن "قلعة".
تلك الكلمة تُهين قداسة ما يقف في ذلك الفراغ.
أما هذا الشيء... فقد كان ثابتًا في العدم، كأنما هو الذي خلق المكان من حوله.
هيكلٌ جاثم في الفراغ، لا أساس له، ولا سقف يغطيه، ومع ذلك... لم يُشَكك أحدٌ في ثباته.
أعمدة لا تُعد، من عظام ميتة بحجم الكواكب، تمتد إلى ما لا نهاية.
مدخلها...
لا يُمكن تسميته "ممرًا"...
بل جرحٌ كوني في جلد الواقع،
شُقَّ بعنف ليمرّ منه الكابوس.
وعلى جانبيه...
وقفوا.
أشكال لا يمكن حصرها تحت تعريف:
عمالقة يشوهون الفضاء من حولهم،
كائنات تتلوى الأبعاد بين أطرافها،
أرواح بلا جسد، وجسد بلا ملامح،
وشياطين تخجل الجحيم من النظر إليها.
كل واحدٍ منهم، لو وُجد في عالمٍ طبيعي، لأباد الكواكب بنَفَسه.
ومع ذلك...
كلهم ركعوا.
وقفوا على جانبي الممر بإجلالٍ لا يُكسر،
كأنهم خُلقوا في هذه الوضعية،
وكأن الركوع أمام القادم جزء من تكوينهم.
كل الكوابيس، كل العمالقة، كل المخلوقات التي تتحدى الفهم...
انحنوا في صمت، صوت ركوعهم هزّ الكون.
زلزال سماوي، أنين لم تصدره حناجر بل قوانين الوجود نفسها.
وفي بداية الممر...
شقّ في الفضاء — لا تشوّه، بل قطع نظيف.
كأن سكينًا تجاوز الوجود، وقَصّ الفضاء على شكل خط عمودي، نقي لا تشوبه شائبة.
ومن ذلك الخط...
امتدت يدٌ سوداء نحيلة،
الأصابع خمسة، لكن كل إصبعٍ ينتهي بعينٍ بدلًا من ظفر.
كل إصبعٍ مزينٌ بخاتمٍ مختلف لا يُشبه الآخر، وكل خاتمٍ منهم يشعّ بهالةٍ تُخيف الزمن ذاته.
ثم...
دخل هو.
كان جسده كأنما شُكّل من رماد الآلهة.
بشرةٌ محفورة برموز لا لغة لها،
وشقٌ ثالث في جبينه ينبض بنظرة أزلية.
عيناه حمراوان كأن فيهما خُزنت نهايات العصور،
وشَعرٌ أسود طويل يسيل كسواد النجوم المنطفئة.
جلس على عرشٍ من عيون،
تلتف حوله أطرافٌ لزجة، مغطاةٌ بالأبصار،
كأن الوجود كله يحدق من خلاله.
ومع ظهوره...
اهتزّت الأكوان.
ركعت الكيانات على جانبي الممر،
وارتجّ الكون بصوتٍ مهيب:
"نحيي الأزلي الثاني..."
...
لم يكن يمشي.
بل كان الواقع ينزلق من تحته، كأن الزمكان يُفرغ له الطريق، يتقلص، ينكمش، يرتعش.
كأن الوجود ذاته يتهرب من لمسته، يخشى أن يُمس، أن يُلاحَظ، أن يُفسَّر.
كل خطوة من خطواته كانت تُحدِث صدى لا في الفضاء، بل في ذاكرة الكون،
وفي لحظة...
كان هناك.
عند نهاية الممر، عند الحافة التي تفصل كل شيء عن اللاشيء.
ذالك الممر الذي كان فجوة شاسعة، تسع عوالم لا كواكب فقط،
اجتازها في لحظة، بلا حركة، بلا صوت، فقط... الوجود أذعن له.
ثم نطق، وصوته كأنه قانون جديد يضاف لأسس الكون:
"سفرال."
وقبل حتى أن يكتمل الاسم،
ظهر بجانبه... كيان لا يقل رعبًا، بل يفيض رهبة وهيبة.
كان طويلًا لدرجة أن سقف اللامكان انحنى من فوقه،
قرون عظيمة، ملتفة كأنها امتداد لدوامة زمنية، تزين رأسه،
عيناه تلمعان بلون الذهب الميت، ذاك الوهج الذي لا يمنح دفئًا، بل يَسحب الحياة.
جسده مكسو بدرع عضوي، وكأن الزمن ذاته تصلب على جلده.
كلماته كانت نادرة، محسوبة، ثقيلة كآلهة منسية.
وضع يده على صدره، وانحنى قليلًا، بخضوع لا يعرفه إلا من هم خارج حدود الفناء.
"أحيي الأزلي الثالث."
سأله الأزلي الثالث، ونبرته خفيفة، لكنها حملت عمقًا لا يُقاس:
"هل أخي ما زال داخل 'الأوروثال'؟"
أجاب سفرال، وعيناه لا تزالان معلقتين في الفراغ:
"أجل، لم يخرج ولو لمرة واحدة منذ أربعين مليون عام."
تنهد الأزلي الثالث، لكن تنهدته لم تكن مجرد هواء...
كانت ارتدادًا هائلًا في نسيج المصير.
"لم أكن أعلم أن إجابتي على سؤال... ستُشعل كل هذا."
ثم استدار، ببطء، كأن حركة جسده تعيد تشكيل ممرات الزمن.
وبنظرة عابرة إلى نقطة لا يراها سواه، قال:
"على كلٍ... سنرى في النهاية."
________
في هذا الكون المتشعب، لا توجد حدود حقيقية.
مئات الأكوان... ملايين المجرات... مليارات العوالم، تتنفس وتنهار في كل لحظة.
لكن الكثرة لا تعني التشابه.
فليست كل الأكوان متماثلة.
ولا كل الكواكب تُولد تحت نفس النجم.
هنا، القمة ليست للجمال أو للعدل... بل للقوة.
هناك عوالم يحكمها قانون.
وأخرى ترفض حتى فكرة النظام.
عوالم وُجدت منذ آلاف السنين...
وأخرى منذ الأزل، لا بداية لها، لا نهاية.
لكن، وسط هذا الفيض من الوجود،
هناك أسماء تُهمس بخشوع، تُكتب بالدم على جدران المعرفة.
عوالم أجمع الكل على هيبتها...
على جبروتها...
بعضها يمكن الوصول إليه، وإن كان الثمن أرواح أمم.
وبعضها الآخر...
مخفي، مطوي بين ثنيات الزمان والمكان،
لا يُعرف له باب، ولا يجرؤ أحد على البحث عن مفتاحه.
كانوا ثلاثة فقط...
سُمّوا بـ"العوالم الثلاثة المخفية".
لم يكن الكون عبثيًا...
فحتى في الفوضى، هناك من يقف على القمة.
الأكوان تُصنف، الكواكب تُرتب، والعوالم... تُخضع أو تُباد.
في الأرشيف الأعظم، حيث تُسجل نبضات الواقع، وُضعت تصنيفات لا تُمحى:
العوالم من الطبقة الخامسة
عوالم هشة، بالكاد تمتلك قوانين ثابتة.
تنهار مع أول اضطراب زمني، يسكنها الضعفاء، ولا يذكرها التاريخ.
غالبًا ما تُترك لتُستهلك أو تُجرب عليها القوى العليا أسلحتها المحرّمة.
الطبقة الرابعة
عوالم مكتملة البنية، لكنها ما زالت خاضعة.
تتبع أنظمة مستقرة، شعوبها تمارس الحياة... لكنهم لا يعلمون أنهم مجرد بُنى تجريبية.
إنها العوالم التي يسكنها "المراقَبون"، من ينتظرون الإشارة للارتقاء... أو الفناء.
الطبقة الثالثة
عوالم لها صدى.
تُولد فيها كائنات خارقة، وتتجلى قوانين جديدة.
صراعاتها تُرصد، وانتصاراتها تُسجل في شجرة الاحتمالات.
هذه العوالم تُراقب، لكنها لم تُمسّ... بعد.
الطبقة الثانية
هنا تبدأ الهيبة.
عوالم صمدت أمام انهيارات زمنية، نجت من اجتياحات من خارج الكون.
الكيانات القديمة تزورها بحذر، وتخرج منها بنذورٍ من الخوف.
الأساطير تولد فيها، وتموت لتُبعث في غيرها.
الطبقة الأولى...
لم يُحدد عددها.
كل ما يُقال عنها أنها "عوالم متفردة".
لا ينطبق عليها قانون، ولا يؤثر فيها الزمن.
بعضها خلق لنفسه قوانينه الخاصة، وبعضها... صار قانونًا بذاته.
مجرد الاقتراب من أحدها يُغير الواقع حولك، والوجود فيها اختبارٌ للعقل والروح.
ثم... هناك ما هو أبعد من الطبقات.
"العوالم الثلاثة المخفية"
عوالم لا تُذكر إلا همسًا، لا تُرى إلا في الأحلام أو في انهيارات الوعي.
عوالم لا يُعرف لها بداية ولا نهاية، خارج كل تصنيف، فوق كل فهم.
الكيانات الكبرى تتحاشى ذكرها، والسجلات العليا أُغلقت أمام الحديث عنها.
"العوالم الثلاثة المخفية"...
رغم غموضها، لم تبقَ آثارها خفية.
فمن خرجوا منها، تركوا ندوبًا في نسيج الواقع، وحفروا أسماءهم في ذاكرة الوجود ذاته.
منهم من تكلم، فاهتزت قوانين الواقع.
ومنهم من صمت، فتوقفت الأكوان لتصغي لسكوتهم.
كل خطوة منهم... كانت ذكرى في ذاكرة الوجود نفسه.
وكل ظهور... كان نذير تحول لا مفر منه.
هم ليسوا جزءًا من هذا العالم... بل العالم جزء من قصتهم.
وإن عاد أحدهم...
فلن يكون الزمن كما كان، ولن يبقى شيء على ما كان عليه.