الفصل الثالث عشر: " الإحياء الفقيره "

خطا نيفاليس خارج الزقاق، وعيناه السوداوان تتسعان ببطء، لا بسبب الرعب، بل بسبب الصدمة المطلقة مما رآه. امتدت أمامه مشاهد لا يمكن تصديقها، مكان أشبه بكابوس حي، يبتلع كل أمل أو شعاع من الضوء. كانت الرائحة أول ما هاجمه بقوة، خليط خانق من العفن والفضلات والحطام المحترق، مع نكهة كريهة غريبة لم يستطع تحديد مصدرها. شعر بالغثيان يتصاعد من معدته وأمسك أنفه بشدة محاولًا حجب الرائحة، لكن ذلك كان عبثًا؛ الرائحة كانت في كل مكان، وكأن الهواء نفسه ملوث.

بدأ يتقدم ببطء، خطوة بعد خطوة، متفاديًا الحفر الصغيرة المليئة بسائل أسود لزج لم يعرف ما هو. فضّل نيفاليس ألا يعرف. الأرضية تحت قدميه كانت طينية مشبعة بالماء، ممزوجة برماد داكن، وكأن المطر ذاته تآمر مع هذا المكان ليجعل من المشي فيه تجربة مرعبة.

على جانبي الطريق كانت هناك بيوت، أو هياكل بالأحرى. أكواخ مهدمة مصنوعة من الورق المقوى الملطخ بالوحل، وأحيانًا من ألواح خشبية مكسورة ومثبتة بمسامير صدئة. كان بعضها مغطى بقطع من القماش المتعفن التي بالكاد تصمد أمام الرياح. كانت النوافذ مفقودة، والأبواب عبارة عن ألواح مائلة بالكاد تمنع الداخل من رؤية الخارج.

وعلى الرغم من البؤس الذي كان يتفجر من كل زاوية، إلا أن السكان أنفسهم كانوا أسوأ مما تخيله. رأى الناس يسيرون في بطء، أجسادهم نحيلة إلى درجة مرعبة، وكأن العظام نفسها ترفض البقاء تحت الجلد. وجوههم شاحبة، وعيونهم غائرة تعكس فراغًا قاسيًا، فراغًا لا ينتمي إلى عالم الأحياء. كانوا يتحركون بصمت، كأن الحياة غادرتهم ولم تترك لهم سوى أجساد خاوية.

الأطفال كانوا الجزء الأكثر قسوة في المشهد. عراة تقريبًا، يرتدون قطع قماش ممزقة بالكاد تغطيهم. وجوههم متسخة، أجسادهم هزيلة لدرجة تجعل من رؤية أضلاعهم تجربة مؤلمة. كانوا يجلسون في الزوايا، أو يركضون حفاة بين القمامة، أعينهم الكبيرة المليئة بالبؤس تراقب كل شيء دون أن تنطق بشيء.

لكن الأسوأ كان ما يتجمع في بعض الزوايا. أكوام من شيء أسود لامع، تشبه كتلة من القطران أو الفضلات الصناعية. لم يعرف نيفاليس ما هي تلك الأكوام، ولم يرد أن يعرف. الرائحة التي تنبعث منها كانت كريهة بشكل خاص، أقرب إلى تعفن قديم اختلط بالمواد الكيميائية.

أحد المشاهد جذب انتباهه بشكل خاص. امرأة عجوز تجلس على عتبة كوخ متهالك، تمسك بيدها قطعة خبز متعفنة وتتناولها ببطء. كان وجهها يعكس تعب عشرات السنين، وشعرها الأبيض متشابك كشبكة عنكبوت مهملة. خلفها طفل صغير بالكاد يستطيع الوقوف، يمسك بساقها النحيلة وكأنها عموده الوحيد في هذا العالم المدمر.

أدرك نيفاليس منذ رأيته لهذه المشاهد انه كان في "الأحياء الفقيرة "

استمرت قدماه في التحرك، وعيناه تتنقلان بين كل هذه المشاهد المروعة. "هذا هو أحط طبقات المملكة..."، فكر نيفاليس بصمت، متذكرًا كلمات النبلاء التي كانت تُقال بازدراء عن سكان الأحياء الفقيرة. لكن لم يستطع أن يمنع نفسه من التساؤل: كيف يمكن للبشر أن يعيشوا في مكان كهذا؟

..............

لم يستطع نيفاليس أن يخفي اشمئزازه من المشاهد التي تحيط به. كان يحاول بكل قوته أن يسيطر على تعابير وجهه، لكنه فشل. كانت الكراهية الممزوجة بالازدراء واضحة في نظراته، وكأن المكان ذاته كان يهاجمه ويهدد طبيعته الأرستقراطية. لم يكن اشمئزازه نابعًا فقط من الرائحة الكريهة أو الفقر المدقع الذي رآه أمامه، بل من مفهومه الخاص عن هؤلاء الناس.

لقد أمضى اثني عشر عامًا محاطًا بالنبلاء الذين يعتبرون أنفسهم فوق الجميع. كانوا يحتقرون كل الطبقات الأخرى، يصفونها بأنها مجرد عالة على المجتمع، لا تستحق حتى شفقة النبلاء. وعلى الرغم من أن نيفاليس لم يكن يشعر بالارتباط الحقيقي بهؤلاء النبلاء، إلا أن تربيتهم وثقافتهم تركت أثرها عليه.

"مجرد فشلة..."، فكر نيفاليس وهو ينظر إلى رجل نحيل يجلس بجانب كومة قمامة، يتناول شيئًا غير معروف بشراهة وكأنه لم يرَ الطعام منذ أيام.

في أعماقه، لم يرَ نيفاليس هؤلاء الناس سوى بأنهم ضحايا لفشلهم الخاص. "حتى من ولدوا هنا لم يتمكنوا من الخروج من هذا الجحيم؟ لم يستطيعوا فعل أي شيء لتغيير مصيرهم؟" كانت هذه هي الفكرة التي ترسخت في ذهنه. في نظره، كانوا مجرد بؤساء، عالة لا تقدم شيئًا للمجتمع سوى العبء.

لكن مع كل هذه الأفكار، لم يكن بإمكانه إنكار شعور غريب بدأ يتسلل إلى داخله. ربما لم يكن هذا المكان فظيعًا في حد ذاته، بل ربما كان انعكاسًا للفساد الذي يعشش في المملكة، الفساد الذي يسمح لمثل هذه الطبقات بالوجود دون أي محاولة حقيقية لتحسين حياتها.

استمر نيفاليس في المشي بخطوات ثابتة وسط الأحياء الفقيرة، محاولًا التظاهر بأنه واحد منهم، لكنه أدرك بعد فترة قصيرة أن محاولته بائسة. رغم ارتدائه لثوب قديم وباهت، إلا أنه لا يزال فاخرًا مقارنة بما يرتديه هؤلاء الناس. كما أن مظهره الشخصي، حتى مع شعره الأسود وعينيه الداكنتين، كان يلفت الأنظار. جماله وملامحه الأرستقراطية كانت أشبه بمنارة وسط بحر من البؤس.

بدأت العيون تلاحقه. لم يكن الناس يتحدثون، لكن نظراتهم كانت تلاحقه كالصياد الذي يراقب فريسته. شعر بنظراتهم تمزق القناع الذي يحاول ارتداءه، وكأنهم يعرفون أنه لا ينتمي إلى هنا.

تمتم تحت أنفاسه وهو يرفع غطاء القلنسوة فوق رأسه محاولًا إخفاء وجهه: "يجب أن أسرع بالخروج من مكب النفايات هذا."

بدأ يسرع من خطواته، متفاديًا الطرق المزدحمة والأماكن التي قد تجمع فيها الناس. كان يعلم أن بقاءه هنا لفترة طويلة قد يجلب له المتاعب، خاصة وأنه لا يمتلك أي فكرة عن القوانين التي تحكم هذه الأحياء أو طبيعة سكانها.

كلما زاد عدد الخطوات التي يبتعد بها عن قلب الأحياء الفقيرة، شعر بأن الهواء أصبح أقل كثافة، وأن الرائحة النتنة بدأت تتلاشى ببطء. لكن حتى وهو يقترب من الأطراف، لم يستطع نيفاليس تجاهل الشعور الذي تملكه، شعور بالاختلاف الشاسع بين حياته الماضية وما شاهده هنا.

مع كل خطوة يبتعد بها، كان نيفاليس يترك وراءه عالمًا مليئًا بالبؤس واليأس، لكنه كان يعلم أن هذا المكان لن يختفي من ذاكرته بسهولة. فقد كان أول تجربة حقيقية له في مواجهة قسوة الحياة خارج حدود القصور الفاخرة.

2025/04/19 · 6 مشاهدة · 896 كلمة
Xx_Adam_xx
نادي الروايات - 2025