الفصل الرابع عشر: " بين الطبقات "
بينما كان نيفاليس يسير بخطواته السريعة محاولًا الخروج من الأحياء الفقيرة، لفت نظره تجمع صغير في أحد الأزقة الضيقة. على الرغم من رغبته في الابتعاد عن هذا المكان بأسرع وقت ممكن، إلا أن الفضول تغلب عليه، وجعله يقترب بخطوات حذرة ليرى ما يحدث.
كان المشهد أمامه عبارة عن امرأة نحيلة، بالكاد ترتدي ملابس تستر جسدها، وهي تركع على الأرض وتحتضن طفلًا صغيرًا يبدو عليه المرض الشديد. كان الطفل يبكي بصوت ضعيف، لا يكاد يسمع، وكأنه قد استنفد كل طاقته. كانت المرأة تتوسل لرجل يقف أمامها، بوجهه القاسي وملامحه الجامدة.
"أرجوك، فقط يومًا آخر. سأجمع المال، أعدك!"
رد الرجل بنبرة باردة، دون أن يظهر أي تعاطف:
"لقد نفد وقتكِ. إما أن تدفعي الآن، أو أنك تعرفين العواقب."
توسلت المرأة وهي تبكي بحرقة:
"إنه مجرد طفل! إنه مريض، لن يتحمل أكثر من هذا. أرجوك، سأعمل ضعف ما أعمل الآن، فقط أمهلني وقتًا إضافيًا."
لكن الرجل لم يظهر أي استجابة. أمسك بذراع المرأة وسحبها بقوة، مما جعل الطفل يسقط من حضنها ويبدأ بالبكاء بصوت خافت.
كان نيفاليس يقف على مسافة قصيرة، يشاهد المشهد دون أن يتحرك. شعر بشيء غريب في داخله. مشهد المرأة وهي تبكي من أجل طفلها، صوت توسلاتها، والبرود في وجه الرجل، كل ذلك كان أشبه بطعنة في قلبه.
في داخله، أراد أن يتجاهل كل شيء. "هذا ليس شأني. هذه هي حياتهم. هؤلاء الناس فشلوا لأنهم ضعفاء." لكن كلماته الداخلية لم تكن مقنعة كما كان يعتقد.
فجأة، رأى شيئًا لا يستطيع نسيانه. الطفل، على الرغم من ضعفه الشديد، كان يحاول زحفًا ببطء نحو أمه. مد يده الصغيرة في محاولة للوصول إليها، وكأنه يقول: "لا تتركوني وحدي."
تجمد نيفاليس في مكانه. ذكّرته هذه الحركة بشيء من ماضيه، بشعور الوحدة الذي كان يطارده في القصر. على الرغم من أنه كان محاطًا بالأبهة والثراء، إلا أن الوحدة كانت جزءًا من حياته. كان يعلم شعور أن تمد يدك نحو أحدهم، وأنت تعلم أن أحدًا لن يجيبك.
لأول مرة، اهتزت نظرة نيفاليس المتعجرفة عن الفقراء. لأول مرة، رأى شيئًا مختلفًا في هؤلاء الناس. لم يكن الضعف أو الفشل هو ما ميزهم، بل الظروف القاسية التي وضعوا فيها.
"أليس هذا هو الفرق الوحيد بيني وبينهم؟ أنني وُلدت في القصر وهم وُلدوا هنا؟"
أخذ نفسًا عميقًا، محاولًا تهدئة عقله المشوش. لكنه لم يستطع التوقف عن التفكير في المشهد. الطفل الذي يحاول الوصول إلى أمه بأي ثمن، والمرأة التي تبذل كل ما لديها لإنقاذه، حتى لو كان ذلك يعني التضحية بنفسها.
بالرغم من كل محاولاته لتجاهل ما رآه، عرف نيفاليس أن هذا المشهد سيبقى معه. لقد كان نقطة تحول صغيرة، لكنه كان يعلم أن تأثيرها سيكبر مع مرور الوقت.
استدار نيفاليس وسار بعيدًا، لكن خطواته كانت أبطأ، وأثقل مما كانت عليه من قبل. لأول مرة، بدأ يشك في أفكاره ومبادئه. لأول مرة، بدأ يرى أن العالم أكثر تعقيدًا مما كان يعتقد.
لم يعرف نيفاليس كم من الساعات قضاها وهو يمشي بلا هدف واضح، فقط يحاول الخروج من هذا المكان المقيت. كان يشعر بألم حارق في ساقيه من كثرة المشي، وهو شعور لم يكن مألوفًا له على الإطلاق. طوال حياته، كان دائمًا يركب العربات الفاخرة أينما ذهب، وكان الجلوس على المقاعد المبطنة هو أقرب تجربة للراحة يعرفها. ومع ذلك، لم يستطع أن يتجاهل كلمات إدوارد التي اعتاد أن يرددها في أذنه:
"حتى الساحر يحتاج إلى جسد قوي، لا فرق بينك وبين السياف إذا كنت غير قادر على الوقوف في معركة طويلة."
تنهّد نيفاليس بتعب وهو يتذكر تدريباته تحت إشراف إدوارد. لم يكن يحب تلك التدريبات أبدًا، لكنه الآن أدرك قيمتها. كل خطوة جديدة كانت تثقل ساقيه المتعبتين، وكلما فكر في التوقف للاستراحة، وجد نفسه عاجزًا عن العثور على مكان لائق للجلوس. الشوارع كانت مليئة بالقاذورات، والجدران تهدد بالانهيار في أي لحظة، وحتى الأرض نفسها كانت موحلة وغير صالحة لأي شكل من أشكال الراحة.
كان المشهد الذي رآه قبل ساعات لا يزال يطارده. الطفل الذي حاول الوصول إلى أمه بأي ثمن، نظرة الألم والعجز في عيني المرأة، وبرود الرجل الذي لم يكترث سوى بالمال. حاول نيفاليس مرارًا أن يبعد تلك الصور من ذهنه، لكنه فشل. كلما أغلق عينيه أو أدار رأسه، كانت الذكرى تعود إليه بقوة أكبر، كأنها محفورة في عقله.
"لماذا يطاردني هذا المشهد؟" تمتم لنفسه بنبرة غاضبة، محاولًا إقناع نفسه أن الأمر لا يعنيه. "هؤلاء الناس هم فاشلون. عالة على المجتمع. لا يمكن أن يكون ذلك خطأي."
لكن في أعماقه، كان هناك شعور جديد يتسلل إليه. شعور لم يكن يعرفه أو يعترف به من قبل. ربما كان ذلك مجرد شفقة، أو ربما شيء أعمق، لكنه لم يستطع تحديده بعد.
بعد فترة من المشي، بدأت المشاهد تتغير ببطء أمام نيفاليس. الأحياء القذرة بدأت تخف تدريجيًا، وتحل محلها شوارع تبدو أكثر تنظيمًا، وإن كانت بعيدة كل البعد عن الفخامة التي اعتادها في قصر عائلته. المنازل هنا، رغم تواضعها، كانت تبدو أكثر صلابة وأقل عرضة للانهيار.
الناس، أيضًا، بدوا مختلفين. لم يكونوا نحيلين بشكل مخيف مثل أولئك الذين في الأحياء الفقيرة، ولم يكن الأطفال عراة تمامًا، وإن كانت ملابسهم متواضعة وبسيطة. كان هناك نوع من الحياة في هذه الطبقة، وإن كانت تبدو باهتة بالمقارنة مع العالم الذي جاء منه نيفاليس.
وقف نيفاليس للحظة، يتفحص ما حوله. لاحظ وجود بعض الأسواق الصغيرة على جانب الطريق، حيث كان الباعة يعرضون بضاعتهم القليلة من الخضروات والفواكه بأسعار زهيدة. رأى أيضًا أطفالًا يلعبون في الزقاق، على الرغم من اتساخهم الواضح، وأصوات ضحكاتهم كانت تخترق صخب المكان.
توقف نيفاليس للحظة، محاولًا استيعاب التغير في المشاهد من حوله. كان يعلم أنه قد بدأ بالدخول إلى الطبقة الثانية في مجتمع المملكة، الطبقة التي تضم الحرفيين والعمال وبعض الجنود المنخفضي الرتب. ومع ذلك، لم يكن يشعر بالراحة هنا أيضًا.
"إنهم ليسوا مثل أولئك في الأحياء الفقيرة، ولكنهم ليسوا أفضل كثيرًا. على الأقل، هؤلاء يستطيعون العمل والمحافظة على أنفسهم. ربما هذا هو الفرق الوحيد."
جلس أخيرًا على حافة جدار منخفض بجانب الطريق، محاولًا استعادة أنفاسه. كان يشعر بالإرهاق الشديد، لكن عقله لم يتوقف عن التفكير.
"هل هذه هي الحياة التي يعيشها معظم الناس في المملكة؟ بعيدًا عن رفاهية القصور وحياة النبلاء؟ كيف يمكنهم أن يستمروا في العيش هكذا؟"
كانت تلك الأفكار تدور في ذهنه وهو يجلس هناك، يراقب الناس من حوله. لأول مرة، بدأ يرى أن العالم الذي كان يظنه بسيطًا ومباشرًا، أكثر تعقيدًا بكثير مما كان يعتقد.