الفصل الخامس عشر: "في الشمال"

بعد أن استراح نيفاليس قليلاً، نهض متجدد العزم ودخل إلى الطبقة الثانية من المجتمع، طبقة العمال والفلاحين، أو كما يسميها النبلاء: طبقة الخدم. كان حريصًا على إخفاء وجهه تحت قنسوان ردائه، متجنبًا لفت الانتباه. اقترب من أحد الباعة الجائلين على جانب الطريق، عازمًا على معرفة موقعه الحالي.

قبل أن يتمكن نيفاليس من النطق، هتف البائع بحماس: "تفاح لذيذ هنا! ثلاث فضيات فقط، أؤكد لك أنه طازج!" فوجئ نيفاليس بهذا الترحيب، وبالرغم من شعوره بالجوع، إلا أن منظر التفاح الرديء أفقده شهيته. تجاهل العرض وسأل البائع: "هل تعلم في أي مقاطعة نحن؟"

تفاجأ البائع بالسؤال، ولوّح بيده بازدراء قائلاً: "إذا لم تكن ستشتري شيئًا، فاغرب عن وجهي!" شعر نيفاليس بالغضب يتصاعد داخله، وكاد أن يوبخ الرجل على جرأته، لكنه تمالك نفسه في اللحظة الأخيرة. لاحظ البائع تعابير الغضب على وجه نيفاليس، فاستعد للمواجهة، مشمرًا عن ساعديه: "ما بك؟ هل تريد الشجار؟"

استجمع نيفاليس كل ما لديه من ضبط للنفس، وحاول التحدث بهدوء: "سأشتري منك، لكن أريد أن تخبرني أين نحن.

" على الفور، تبدل موقف البائع العدائي إلى ترحيب: "بالطبع، تفضل. كم تفاحة تريد؟ وسأخبرك بما تريد معرفته.

تفاجأ نيفاليس بهذا التغير السريع في سلوك الرجل، لكنه تجاهل الأمر وقال:

"سآخذ ثلاث تفاحات."

رد البائع: "تسع فضيات."

أخرج نيفاليس المبلغ المطلوب وسلمه للبائع، الذي بدأ يتحدث قائلاً: "نحن على أطراف مدينة ميراس." ثم ناوله التفاحات الثلاث وصمت، كأنه يقول: "أخذت ما تريد، ارحل الآن."

تنهد نيفاليس مكتملاً غضبه واستدار مبتعدًا. مرّ بأطفال يلعبون في الشارع، فأعطاهم التفاح، ثم واصل مسيره وهو يفكر:

"مدينة ميراس... إنها تقع في الشمال، تحت سلطة عائلة البارون ريدمور. وبالطبع، فإن مناطق الشمال ومدنه تخضع لعائلة الدوق برانديل.

" تساءل في نفسه:

"لماذا الشمال؟

كانت عائلة أوليفيير في الجنوب، فلماذا أنا هنا؟ بل الأغرب، لماذا أحضرني إدوارد كل هذه المسافة إلى الشمال، إلى الجهة الأخرى من المملكة؟ فبعد كل شيء، هناك أحياء فقيرة في الجنوب، في كل مناطق المملكة.

إذاً، لماذا الشمال؟"

لم يجد نيفاليس إجابة منطقية سوى واحدة: "لأن العائلة التي قضت علي عائلة أوليفير كانت في الجنوب."

.....

تمتم نيفاليس لنفسه: "لا توجد قوة في الجنوب قادرة على إبادة عائلة أوليفيير سوى واحدة... عائلة الدوق فيرنستون. يبقى السؤال هنا: لماذا أبادوها؟ وكيف؟"

إذا أراد إجابة بديهية بلغة النبلاء، فستكون: لأنها شيء عادي. عائلات النبلاء تقضي على بعضها البعض للتوسع والسيطرة على الموارد. ولكن هذا كان يحدث بين العائلات التي بينها خلاف.

ثانيًا، وهذا هو الأهم، الفجوة بين السلطة والقوة بين العائلات. فإذا أرادت عائلة كونت الاستيلاء على عائلة بارون، لن يكون هناك مشكلة، لأن فرق القوة والسلطة بينهما يسمح بذلك. ولكن عائله أوليفير عائلة كونت قوية، تقترب من عائلات الدوقيات الأربع في القوة والسلطة. لم يكن من السهل على دوقية فيرنستون أن تسقطها؛ ففرق القوة والمكانة لم يكن بذلك الكبر.

وثانيًا، لماذا تسقطها أصلًا؟ فلم يكن هناك أي خلاف بين عائلته وأي من الدوقات الأربع.

كان هناك شيء يبرز في تفكير نيفاليس، لطالما تساءل عنه واستغرب منه: لماذا كانت عائلته هي عائلة الكونت الوحيدة في المملكة؟

ببطء، بدأت الصورة تتضح لنيفاليس، وخبايا السياسة الخبيثة تكشف نفسها أمامه ببطء.

.....

بعد أن طرد نيفاليس الأفكار المتشابكة من عقله، أدرك أن محاولات فهم ما حدث لن يفيده في الوقت الحالي. كان عليه التركيز على خطوته التالية: هل يدخل مدينة ميراس، أم يبقى في منطقة العوام حيث الأمان النسبي؟ فهو لا يعلم ما إذا كانت عائلة واحدة مسؤولة عن سقوط عائلته أم أكثر، وكان من الحكمة الابتعاد عن مناطق النبلاء لفترة.

في النهاية قرر البحث عن مكان للإقامة. بعد بحث مطول واستفسارات، وجد نزلًا قريبًا من المدينة، يبدو أنه مخصص للزوار الذين لا يملكون المال الكافي للإقامة داخل المدينة ولكن لديهم أعمال هناك.

في طريقه إلى النزل، سمع ضوضاء قادمة من مكان قريب. رأى شابًا يتوسل إلى تاجر: "أرجوك يا سيدي، أعطني ذهبية واحدة وسأعيدها لك في نهاية الشهر." لكن التاجر ضربه وطرده قائلاً: "هل تراني مجنونًا لأعطيك عملة ذهبية؟ اغرب عن وجهي!"

كان نيفاليس يعتزم تجاهل الموقف، لكن الفتى، بعدما لمحه، ركض نحوه وقال: "أرجوك يا سيدي، أعطني ذهبية واحدة، فجدي مريض ويحتاج إلى دواء عاجل." كان نيفاليس يرتدي غطاءً يخفي وجهه، فلم يعرف الفتى عمره. تنهد نيفاليس بغضب وتمتم: "هؤلاء العوام القذرون." ومع ذلك، أخرج عملة ذهبية ورماها إلى الفتى قائلاً: "اغرب عن وجهي."

بمجرد أن أخذ الفتى العملة، بدا مصدومًا قليلاً، ثم أسرع بشكر نيفاليس. لكن نيفاليس كان قد ابتعد بالفعل. لم يعطِ نيفاليس تلك الذهبية لأنه صدق قصة الطفل، بل لأنه أراد ذلك.

بعد أن ترك نيفاليس الفتي تذكر نيفاليس كتابًا كان يطالعه سرًا، رغم اعتراض والده الذي كان يفضل تركيزه على كتب السياسة والحروب والسحر. هذا الكتاب، الذي اعتبره النبلاء مضيعة للوقت، تحدث عن شخصيات كرست حياتها للعطاء والحماية. استحضر نيفاليس مقولة من ذلك الكتاب: "العطاء هو السحر الذي يحول القلوب، والحماية هي الدرع الذي يصون الإنسانية."

تنهد نيفاليس بصوت مسموع وأكمل طريقه الي النزل.

عندما وصل إلى النزل الذي وصفه له أحد المارة، توقف فجأة أمام بوابته الخشبية المتهالكة.صُعق بما رأى. وقف في مكانه للحظات وهو يحدق في المبنى أمامه. بدا النزل وكأنه خرج لتوه من كابوس.

كان النزل يبدو قديمًا وبائسًا؛ جدرانه متصدعة ومغطاة بطبقات من الطلاء المتقشر، وسقفه يقطر بسبب الأمطار الأخيرة. الأرضية الخشبية تصدر أصواتًا صاخبة مع كل خطوة، ورائحة الرطوبة تغلف المكان وكأنها تحذير صامت من الإقامة فيه. رغم ذلك، لم يكن أمام نيفاليس أي خيار آخر.

نظر إلى النزل بتنهد ثقيل، وقال في نفسه: "إدوارد كان سيحتقر هذا المكان لو رأى أني مجبر على النوم فيه."

"هل هذا... هو النزل؟" تمتم نيفاليس لنفسه، وعيناه تدرس المكان بدهشة وازدراء. شعر بالانزعاج يتصاعد داخله، لكن مع كل هذا لم يكن لديه أي خيار آخر. "لا يمكن أن يكون هذا أسوأ من النوم في العراء... أو ربما هو كذلك." زفر بتنهيدة طويلة ودفع الباب بحذر.

عندما دخل إلى الداخل، تفاجأ أكثر. الرائحة الكريهة كانت أول ما استقبله، مزيج من الرطوبة، العفن، ممزوجة برائحة دخان خفيف نابع من موقد صغير في الزاوية. على الجدران، كانت هناك شموع قديمة تحترق بخفوت، تلقي ظلالًا طويلة ومرعبة على الجدران المتشققة.

الجدران الداخلية كانت أسوأ حالًا من الخارجية، مطلية بطبقة باهتة تكاد تختفي تحت البقع الداكنة. الأرضية الخشبية كانت تصدر أصوات صرير مع كل خطوة، وكأنها تشكو من الاستخدام المفرط.

المكتب الأمامي كان عبارة عن طاولة خشبية مائلة قليلًا، يقف خلفها رجل كبير في السن، وجهه مليء بالتجاعيد، ويداه مغطاتان بالبقع الداكنة. رفع الرجل نظره إلى نيفاليس بابتسامة باهتة تكشف عن أسنان صفراء متآكلة.

"غرفة؟" سأل الرجل بصوت أجش.

"للأسف، نعم... إلا إذا كنت تعرف مكانًا أقل بؤسًا من هذا."

2025/04/19 · 5 مشاهدة · 1030 كلمة
Xx_Adam_xx
نادي الروايات - 2025