الفصل السادس عشر:"عائلة"
توجه نيفاليس إلى النزل واستأجر غرفة لمدة شهر. تفاجأ صاحب النزل من هذه المدة الطويلة، إذ لم يكن معتادًا على مثل هذه الطلبات. بعد إنهاء المعاملة، صعد نيفاليس إلى غرفته بخطوات بطيئة وثقيلة، وكأنه يحمل أعباء العالم على كتفيه.
عند فتح الباب، صُدم بما رآه. تمتم بغضب: "بحق الجحيم، ما هذا القرف!"
كانت الغرفة صغيرة جدًا، بالكاد تتسع لشخص واحد. جدرانها باهتة اللون، مغطاة بطبقة من التشققات التي تحكي عن تاريخ هذا المكان البائس. السقف منخفض، تتدلى منه مصباح قديم يبعث ضوءًا خافتًا بالكاد يكفي لتبديد الظلام.
في إحدى الزوايا، وقف سرير خشبي ضيق، مفروش بغطاء خشن ومهترئ لكنه نظيف، وإلى جانبه طاولة صغيرة عليها شمعة ذائبة وكأس زجاجي متشقق. الأرضية، المصنوعة من ألواح خشبية، كانت مليئة بالخدوش وتصدر أصواتًا مكتومة عند السير عليها.
نافذة صغيرة تطل على زقاق ضيق كانت المصدر الوحيد للهواء، لكن ستائرها الباهتة لم تحجب ضوضاء الخارج تمامًا. على الجانب الآخر، خزانة خشبية قديمة، مائلة قليلًا، تكاد أبوابها لا تغلق بشكل كامل.
كانت الغرفة تحمل شعورًا بالبساطة والتواضع، أو ربما البؤس، مثالية لمن يبحث عن مكان يقضي فيه ليلة دون توقع الكثير.
لكن بالنسبة لنيفاليس، كانت كارثية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. دخل الغرفة بوجه يحمل بعض النفور، لكنه سرعان ما هدأ نفسه بأن هذا كان ضروريًا. تنهد وأغلق الباب خلفه، متوجهًا إلى السرير. بعد لحظة تردد، جلس عليه وبدأ يرتب أفكاره.
بعد مرور ساعة من التفكير، وضع نيفاليس خطة واضحة. قرر أنه سيبقى في هذا المكان لمدة ستة أشهر يتدرب خلالها، وبعدها سيتوجه إلى مدينة ميراس متخفيًا للتقدم كجندي في جيش عائلة البارون ريدمور. رأى في هذه الخطة فرصة للوصول إلى المدينة الداخلية بعيدًا عن هذا العالم البائس، وليبدأ في بناء مستقبله من جديد.
---
في صباح اليوم التالي، استيقظ نيفاليس على صوت طرق مزعج على الباب. فتح عينيه ببطء، متأففًا من المقاطعة. نهض من سريره وفتح الباب بعنف، ليجد الصبي الذي أنقذه البارحة يقف أمامه.
قال الصبي بلهجة مترددة: "جدي يريد أن يشكرك على الذهبية، ويدعوك لتناول الطعام معنا."
حدق نيفاليس بالصبي للحظة قبل أن يقول بلهجة ساخرة: "طعام؟ ألا تخشون أن تنفقوا كل ما لديكم من مؤونة في وليمة الشكر هذه؟"
احمر وجه الصبي خجلًا لكنه قال: "أرجوك، وافق. لو لم تأتِ معي، سيضربني أخي الأكبر لأنني لم أحضر الشخص الذي بفضله تحسّن الجد."
نظر نيفاليس إلى الصبي بعينين ضيقتين، متسائلًا عن جدية الموقف. كان على وشك الرفض، لكن الصبي بدا صادقًا للغاية. ذكره توسل الطفل بشيء من ماضيه... بطفولته التي كانت مزيجًا من الضعف والحاجة.
بعد لحظة من التردد، قال نيفاليس: "حسنًا، سأذهب معك. لكن لا تتوقع مني أي مجاملات."
---
في الطريق إلى منزل الصبي، سار الاثنان في صمت لبعض الوقت، إلى أن كسر نيفاليس الصمت قائلًا:
"أخبرني عن جدك وأخيك الأكبر."
توقف الصبي قليلًا، وكأنه يفكر في كيفية الإجابة، ثم قال بصوت مليء بالدفء: "جدي... هو أعظم شخص أعرفه. هو من جمعني وإخوتي تحت سقف واحد. نحن لسنا عائلة حقيقية، لكنه جعلنا نشعر بأننا كذلك. دائمًا كان هناك ليطعمنا عندما كنا جائعين، وليواسينا عندما كنا نشعر بالخوف. لا أعلم ماذا كنا سنفعل بدونه."
توقف للحظة وأكمل بنبرة ممتنة: "لقد رباني على الحب، حتى عندما كنت أرتكب الأخطاء. لم أشعر يومًا أنه يلومني، بل كان دائمًا يعاملني وكأنني أهم شيء في حياته."
شعر نيفاليس بصدى كلمات الصبي داخل قلبه. هذه المشاعر الصادقة كانت نادرة في العالم الذي يعرفه.
ثم رفع الصبي عينيه، وقد بدا عليه الحماس وهو يتحدث عن أخيه الأكبر:
"أما أخي الأكبر... فهو قدوتي. إنه قوي، شجاع، ويعرف كيف يتصرف في كل موقف. عندما تقع في مشكلة، تجده هناك قبل أن تطلب مساعدته. يحمينا وكأنه أب ثانٍ، وأحيانًا أشعر أنه يفهمنا دون أن نتحدث. لا أذكر يومًا أنني شعرت بالخوف طالما هو بجانبي."
ظهرت على وجه الصبي ابتسامة صغيرة، مليئة بالفخر:
"أخي ليس فقط من يعتني بنا، لكنه يجعلنا نؤمن بأننا نستطيع مواجهة أي شيء، مهما كان صعبًا. حتى عندما يغضب منا، لا أشعر أن غضبه نابع من قسوة، بل من خوف علينا."
نظر الصبي إلى نيفاليس للحظة، ثم أضاف بصوت خافت:
"لا أعرف كيف يعطينا كل هذا الحب، لكنه يفعل... وأنا أريد أن أكون مثله يومًا ما."
كانت كلمات الصبي مليئة بمشاعر عميقة، حب واحترام لجد وأخ ليسا فقط جزءًا من حياته، بل عمودان
أساسيان في عالمه الصغير، الذي رغم صعوباته، يبدو مليئًا بالدفء بسبب وجودهما.
لم يمر الكثير من الوقت حتى وصلوا إلى المنزل. كان مبنى قديمًا متواضعًا مكون من طابقين يطل بواجهته على طريق ترابي ضيق. وقف نيفاليس للحظة على عتبة الباب، ينظر إلى المبنى المتواضع أمامه. كان يبدو وكأنه أحد بيوت الماضي التي أُهملت مع مرور الوقت، ويظهر عليه آثار ترميمات متكررة بيدٍ تحاول إبقاءه صامدًا أمام الزمن.
الجدران الخارجية كانت مطلية بطلاء باهت يشير إلى أنه قديم للغاية، وبعض الأماكن قد بدأت تظهر فيها شقوق صغيرة. كان واضحًا أن الطلاء قد جُدد حديثًا، على الرغم من أن الطبقة التي غطت الجدران كانت رقيقة إلى حد ما، وقد تركت بعض العيوب التي كانت تلوح فيها. لكنه مع ذلك، كان يبدو أن العناية تم بذلها من قبل من يسكنه.
السقف كان مصنوعًا من ألواح خشبية قديمة مائلة، وبدت عليها آثار الزمن والضغط. لكن في زوايا معينة، كان هناك دعم خشبي إضافي، يظهر جهدًا واضحًا لإبقائه في مكانه. ربما كانت العائلة قد أنفقت وقتًا طويلاً في ترميمه والمحافظة عليه من أجل ألا ينهار فوق رؤوسهم.
الأبواب والنوافذ كانت مصنوعة من خشب قوي، لكنها تحمل أثار الزمن: الأبواب كان بعضها مائلًا، بينما كان البعض الآخر قد تجنب الاهتراء بفضل طبقات من الطلاء المتجدد. لكن النوافذ كانت هي العنصر الأوضح في المنزل؛ زجاجها كان قديمًا ومتسخًا، لكن كل نافذة كانت قد عُولجت بالستائر القديمة التي كانت تُغلق بإحكام لتمنع الرياح الباردة من التسلل.
ما جعل المنزل مختلفًا، رغم هذا التآكل الواضح، هو الشعور بالجهد المستمر والمحاولات الحثيثة للحفاظ عليه. كانت كل العناصر التي تظهر في هذا البيت تحمل أثر العمل الجاد والإصلاح المتواصل. هنا لم يكن الأمر متعلقًا بالكمال، بل بالبقاء.
"لقد بذلوا الكثير من الجهد للحفاظ على هذا المكان." تمتم نيفاليس في نفسه، وهو يلاحظ الجهود التي بُذلت في كل زاوية. وعلى الرغم من قسوة ظروف الحياة، كانت هذه العائلة تمسك بجميع خيوط الأمل الممكنة لإبقائها معًا.
ابتسم الصبي وهو يرى نظرات نيفاليس المتفحصة وقال: "نحن نعمل معًا على إصلاحه. كل شيء هنا له قيمة، حتى لو لم يكن بأفضل حال. هو منزلنا."
أومأ نيفاليس برأسه في صمت، يقدر الجهد الذي بذل في بناء هذا المنزل الصغير، الذي بالرغم من بساطته، كان يحمل طابعًا من الإصرار على الاستمرار، بغض النظر عن جميع الصعوبات التي قد تواجهه.
قدر نيفاليس ذلك الجهد، وأعجب به كثيراً
لم يكن هذا مجرد منزل قديم، بل شهادة على صمود وإصرار عائلة، تقاوم الزمن بكل ما أوتيت من قوة.