الفصل السابع عشر: "العجوز إلياس"

بمجرد دخول نيفاليس إلى المنزل، وجد في وسط الغرفة رجلًا عجوزًا يبدو عليه أثر السنين ومعاناة الحياة. كان يجلس على كرسي خشبي بسيط في منتصف الغرفة، بينما التف حوله عدد من الأطفال الذين يتحدثون معه بحماس وحب واضحين.

كان المنزل من الداخل بسيطًا للغاية، لكنه ينبض بالحياة والدفء. الجدران كانت مغطاة بطبقة من الخشب القديم، وبعض الألواح التي يبدو أنها أُصلحت حديثًا. على أحد الجدران، كانت هناك رفوف خشبية تحمل أوعية صغيرة وكتبًا متهالكة، إلى جانب صور باهتة تشير إلى ماضٍ بعيد. في الزاوية، كان هناك موقد حجري صغير تنبعث منه حرارة خافتة، وفوقه إناء كبير تفوح منه رائحة بسيطة لكنها لطيفة. بجانب الموقد، وُضعت أكواب خشبية، وعُلق فوقه حبل يحمل أدوات قديمة.

الأرضية كانت من الخشب العتيق، لكنها نظيفة بشكل لافت، مما يعكس جهدًا كبيرًا في الحفاظ على المنزل برغم بساطته. قرب إحدى النوافذ الصغيرة التي تسلل منها ضوء شاحب، وُضعت طاولة خشبية طويلة، يحيط بها عدد قليل من الكراسي المتباينة في الشكل والحجم.

الأطفال الذين التفوا حول العجوز كانوا يتحركون بحيوية؛ أحدهم كان يمسك بطرف عباءته بإصرار، وآخر كان يحاول تسلق كرسيه للوصول إلى كتفه. أما البقية، فكانوا يلعبون بقطع خشبية صغيرة صنعوها بأنفسهم، وضحكاتهم الطفولية ملأت المكان بفرح خافت.

عندما دخل نيفاليس، التفت العجوز نحوه بابتسامة دافئة، رغم علامات التعب التي تزين وجهه. كانت تجاعيده العميقة كأنها خريطة زمنية تحكي عن سنوات من الكفاح، وعيناه، رغم شحوب لونهما، لم تفقدا بريق الحنان الذي ينبعث منهما. قال العجوز بصوت يحمل دفء العائلة ونبرة تقدير واضحة:

"إذن، أنت الشخص الذي ساعد حفيدي؟ لقد أخبرني عنك. شكراً لك، لقد قدمت لنا أكثر مما يمكنك تخيله."

تردد نيفاليس للحظة، غير معتاد على كلمات الشكر الموجهة له، ثم قال بصوت خافت:

"لم أفعل شيئًا يستحق الشكر. أردت فقط مساعدته."

تدخل فتى شاب من بين الأطفال، بدا أنه الأكبر سنًا بينهم، قائلاً بنبرة أكثر نضجًا:

"لقد كنت كريمًا معنا، وهذا ليس بشيء عادي. شكراً لك."

كان الفتى يبدو أكبر من عمره بسبب ملامحه الحادة ونظرته الجادة. بشرته السمراء وشعره الأسود غير المرتب أعطياه مظهرًا يوحي بأنه معتاد على العمل الشاق. كان يرتدي ملابس بسيطة للغاية، لكنها نظيفة، تحمل آثار رقع تدل على إصلاح مستمر.

بمجرد أن انتهى الفتى من كلامه، بدأ الأطفال الآخرون يتقدمون نحو نيفاليس، يشكرونه بكلمات صادقة وعفوية. شعر نيفاليس بشيء من الإحراج من الموقف، لكنه أبقى على هدوئه المعتاد، مراقبًا الأجواء من حوله بصمت. لاحظ العجوز توتره، فتدخل ليغير الأجواء قائلاً:

"هيا، دعونا نأكل. لينا، أحضري الطعام."

أرشد الفتى الذي تقدم سابقًا نيفاليس إلى الطاولة. كانت الطاولة كبيرة، لكنها متهالكة بعض الشيء، وتحيط بها بعض الكراسي البسيطة. جلس نيفاليس على أحد الكراسي بعد أن تأكد من أنه سيستطيع تحمله، ثم انتظر.

تقدمت فتاة صغيرة ذات شعر بني مربوط بإحكام نحو المطبخ الصغير، وأحضرت وعاءً كبيرًا يحتوي على شوربة ساخنة، وضعته على الطاولة الطويلة. تبعها أطفال أصغر سنًا، يحملون أطباقًا خشبية وأكوابًا. جلس الجميع حول الطاولة، وبدأت لينا تصب الشوربة في الأطباق بعناية.

بعد أن انتهت من صب الطعام، تحدث العجوز قائلاً: "من فضلك، تعامل كما لو كنت في بيتك. قد لا يكون الطعام بالمستوى المطلوب، لكنه أفضل ما يمكننا توفيره."

لاحظ نيفاليس نظرات الأطفال المتلهفة على الطعام. كان البعض منهم يريد أن يبدأ في الأكل فورًا، لكن الفتى الأكبر سناً نظر إليهم بحدة، وقال: "هل تأكلون قبل الضيف؟ تحلوا ببعض اللباقة."

نظر الأطفال إلى نيفاليس في انتظار أن يبدأ الأكل، لكنه كان لا يزال يرتدي قنصوته، وينظر إلى الطعام. بدأ نيفاليس في التأمل في الشوربة التي كانت تحتوي على قطع مستديرة لم يتعرف عليها. ومع ذلك، شعر وكأن عيون الأطفال المتلهفة تهمس له: "أسرع، ابدأ الأكل."

تنهد نيفاليس وأخذ ملعقة خشبية. خلع قنسوانه ردائة ورفع الملعقة إلى فمه. توقع أن تكون الشوربة سيئة، لكنه تفاجأ بأنها ليست بذلك السوء الذي تخيله. بالطبع، لم تكن بمستوى الطعام الذي تقدمه الخدم في القصر، ولا مجال للمقارنة، لكنها كانت قابلة للأكل.

رفع نيفاليس وجهه ليرى الأطفال، ظنًا منهم أنهم بدأوا في الأكل، لكن المفاجأة كانت أن الجميع لا يزال ينظر إليه بدهشة. بعضهم فتح فمه قليلاً، وبعضهم اتسعت عيناه كأن عينيه ستخرج من مكانهما. وحتى الذين كانوا يقفون، كانوا كأنهم تجمدوا في مكانهم من شدة الذهول. حتى الجد كان يبدو مصدومًا.

سأل نيفاليس مستغربًا: "ما الأمر؟"

أجاب أحد الأطفال، وهو فتى صغير: "أنت... أنت جميل جدًا! تبدو كالنبلاء!"

كانت المفاجأة واضحة على وجوه الأطفال، إذ بدا نيفاليس مختلفًا عنهم تمامًا بعينيه السوداوين اللامعتين وشعره الأسود الناعم. رغم أنه كان يبذل جهدًا ليبدو كالعامة، إلا أنه ظل بعيدًا عن مظهرهم. كان يبدو كجوهره في الظلام.

فور قول الطفل ذلك، قطع صوته الحماسي صرخة غاضبة من الفتى الأكبر سناً، إيفان:

"ريان! لا تذكر هؤلاء الحثالة هنا مجددًا. لا تعكر صفو الجو!"

انكمش ريان بخوف واضح، وانخفض صوته ليقول بتردد:

"أنا آسف... لم أقصد أي شيء سيئ."

تدخل العجوز سريعًا، محاولًا تهدئة الوضع بنبرة حازمة لكنها هادئة:

"اهدأ يا إيفان. ريان لم يقصد أي إساءة. إنه مجرد طفل."

لكن نظرات الغضب في عيني إيفان لم تهدأ. بدا أن ذكر النبلاء أثار شيئًا عميقًا داخله. أما نيفاليس، فقد بقي يراقب الموقف بصمت، لكن استغرابه كان واضحًا في ملامحه. تساءل في داخله عن سبب ردة الفعل العنيفة هذه على مجرد ذكر كلمة "النبلاء".

قطع العجوز الصمت الذي خيم على الغرفة، وقال بنبرة تحمل الاعتذار:

"أنا آسف يا بني. معظمنا هنا يحمل ندوبًا عميقة نتيجة تصرفات النبلاء. بل إن بعضنا فقد كل شيء بسببهم."

عقد نيفاليس حاجبيه عند سماعه هذه الكلمات. لم يستطع كتم ما جال في خاطره، فرد بصوت هادئ لكن يحمل نبرة غضب مكبوت:

"وما دخل النبلاء فيكم؟ لا تعلقوا فشلكم في الحياة على الآخرين."

توقف الجميع عن الحركة، كأن الزمن تجمد للحظة. حتى الأطفال، الذين كانوا يهمسون لبعضهم، صمتوا فجأة.

نهض إيفان من مكانه بعنف، ووجه نظرات حادة لنيفاليس، ثم صاح بصوت مليء بالغضب:

"فشلنا؟ تقول إننا فاشلون؟! ماذا تعرف أنت عن ظلم النبلاء وطغيانهم؟ هل تعرف ما الذي عانيته أنا أو أي أحد هنا؟!"

رغم نبرة الغضب، كان في صوته شيء أعمق، خليط من الألم والخذلان. تابع إيفان، رافعًا صوته أكثر، وكأن الكلمات تتدفق منه بلا توقف:

"هل سبق لك أن عوملت كأنك أقل من كلب في الشارع؟ هل تعرضت للضرب حتى كدت أن تموت؟ هل رأيت أحبائك... يُنتهكون أمامك وأنت لا تستطيع أن تفعل أي شيء؟!"

كانت كلماته الأخيرة مليئة بالمعاناة، وحزنه العميق كان ظاهرًا في صوته.

أراد نيفاليس أن يسأل: "ما علاقه معاناتك الشخصيه بالنبلاء؟"

لكن إيفان توقف لوهلة، يأخذ أنفاسًا سريعة، لكنه لم يمنح نيفاليس فرصة للرد. كانت كلماته الأخيرة تخرج كطعنة لكل من في المكان:

"كل هذا بسبب النبلاء اللعينين! بسبب جشعهم وطغيانهم، نحن هنا الآن! نحن لسنا فاشلين، بل أجبرنا على الفشل لأنهم سرقوا منا كل شيء!"

كلماته كانت كالسياط، تضرب المكان بصدى من الألم والمرارة. لم يكن يتحدث عن معاناة عادية، بل عن جروح عميقة لا تزال تنزف داخله.

حاول العجوز التدخل مجددًا، هذه المرة بنبرة أكثر صرامة:

"إيفان! كفاك! هذا ليس وقت الحديث عن الماضي. اهدأ الآن!"

لكن إيفان لم يستمع. كان الغضب يسيطر عليه تمامًا. ألقى نظرة أخيرة على نيفاليس، نظرة كانت خليطًا من الكره والتحدي، ثم استدار بعنف وخرج من الغرفة، مغلقًا الباب خلفه بقوة.

ساد الصمت في الغرفة. الجميع شعر بثقل اللحظة، حتى الأطفال الذين بدت عليهم الحيرة والخوف من المشهد الذي حدث أمامهم.

نظر نيفاليس إلى العجوز بصمت، محاولًا استيعاب ما قاله إيفان.

تنهد العجوز، ثم قال بصوت يحمل أسفًا عميقًا:

"لا تأخذ كلامه على محمل شخصي يا بني. إيفان مر بالكثير... أكثر مما يمكنك تخيله."

2025/04/19 · 3 مشاهدة · 1177 كلمة
Xx_Adam_xx
نادي الروايات - 2025