الفصل الثامن عشر: "طغيان الفساد"
جلس نيفاليس في المكان نفسه، حيث كان الجو هادئًا، لكن حديث العجوز إلياس كان ثقيلًا في الأجواء.
نظر إليه العجوز، وبدأ يتحدث بصوت ضعيف، يكاد لا يسمع من شدة الألم:
"أرجو أن تسامح إيفان، فهو قد عانى أكثر من أي شخص آخر على يد النبلاء."
سأل نيفاليس، وهو يشعر بقلق طفيف:
"ماذا حدث؟"
صمت العجوز لحظة، وكأن الكلمات كانت ثقيلة على لسانه، ثم بدأ يتحدث بصوت كئيب وحزين، كما لو كان يسترجع ذكريات مريرة.
"إيفان... إيفان من طبقة العمال، أو كما تسمونها، طبقة العوام."
لم يعلق نيفاليس على أن الجد قد شمله مع النبلاء في حديثه، وكأنه كان يعلم أنه جزء من هذا النظام، فأصغى بصمت. بينما تأكد العجوز إلياس من ذلك، وعرف أن نيفاليس نبيل، إلا أنه تابع حديثه، على الرغم من الألم الذي كان يعتصر قلبه.
قال العجوز، بينما تغيرت ملامحه قليلاً، وكأن الذكريات أذابت عظامه:
"كان لإيفان أخت أكبر منه، اسمها ليرا. كانت فتاة بشوشة، رغم صعوبات الحياة في منطقتنا. كانت دائمًا مبتسمة، وكانت تحب وتحمي إيفان. لكن، في يوم من الأيام، حدثت الفاجعة الكبرى..."
أغمق وجه العجوز إلياس قليلاً، وهو يتنهد بشدة. بدا أن بعض الأطفال يعرفون القصة، بينما كانت عيون البعض الآخر مليئة بالدهشة، ربما لأول مرة يسمعون هذا الحديث.
أكمل العجوز بصوت ثقيل، وكأن الكلمات كانت تخرج بصعوبة:
"في أحد الأيام، كان إيفان يتجول على حدود المدينة، باحثًا عن أي عمل ليقوم به. ولحسن حظه، أو ربما لسوء حظه في ذلك اليوم، كان ابن البارون ريدمور يتجول في تلك المنطقة. حاول إيفان الابتعاد عن الطريق بسرعة، محاولًا تجنب العربة، لكن ابن البارون رآه... ورآه كشيء بشع، شيء غير لائق للعين. فأمر جنوده بتقييده وضربه حتى أوشك على الموت من شدة الضرب."
صمت العجوز قليلاً، وقد بدت على وجهه معالم الحزن العميق. أكمل بنبرة ثقيلة، وهو يبتلع الألم الذي كان يملأ صدره:
"ولكن... لسوء الحظ، كانت ليرا تبحث عن إيفان في تلك اللحظة. وعندما شاهدت المشهد، سارعت للدفاع عن أخيها. وعندما رآها ابن البارون، قرر أن يأخذها كخادمة. لكن إيفان، رغم حالته، عرف تمامًا ما سيحدث إذا أخذها ذلك الوغد. فحاول سحب أخته، ورفض بشدة. هذا أغضب ابن البارون، لكنه ابتسم كأنه وجد لعبة جديدة ليلعب بها."
هنا توقف العجوز قليلاً، وأغمض عينيه كأن الذكريات كانت تجره إلى مكان مظلم. تنهد بعمق، ثم قال، بصعوبة:
"لقد أمر ذلك الوغد القذر بشيء... أمر جنوده بتثبيت إيفان على الأرض، ورفعوا وجهه، وفتحوا عينيه. وعينيه كانت مليئة بالدموع، لكن... لكنهم فعلوا ما فعلوه."
ثم رفع العجوز إلياس رأسه، ونظر في وجه نيفاليس، وعينيه تدمع. كان صوته يحمل الألم:
نظر الي نيفاليس وسأله "ماذا تتوقع، يا بني، أن ذلك الوغد فعل؟"
ارتفع صوت العجوز فجأة، وكأن الغضب والحزن قد تجمّعا في قلبه، ليخرج بشكل مفاجئ:
"لقد اغتصب ذلك الحقير ليرا أمام عيني إيفان مباشرة! وتلذذ ذلك المختل، وهو يستمع لصراخ كلا من الأخوين!"
توقف العجوز، وهو يجهش بالبكاء. أضاف بصوت مرتفع، مليء بالغضب:
"أوتظن أنه انتهى عند هذا الحد؟ لا... لقد أمر رجاله باغتصابها هم أيضًا! اغتصبوها حتى ماتت... ماتت أمام أخيها، الذي كان يشهد كل شيء، ولم يستطع أن يفعل شيئًا!"
ارتجف صوت العجوز، بينما كانت عيونه مليئة بالدموع، وهو يحاول أن يكمل حديثه:
"هل تدرك مدى الألم الذي كان يشعر به إيفان في تلك اللحظة؟ هل تستطيع أن تتخيل ماذا كان يعانيه وقتها؟"
كان الأطفال في الغرفة في حالة صدمة تامة. بعضهم كان يبكي بمرارة، والبعض الآخر كان غير قادر على تصديق ما سمعوه. أخوخم الأكبر إيفان، الذي كان دائمًا يبتسم لهم ويهتم بهم، كان له ماضٍ مروّع هكذا.
كان الحزن والألم يعصران قلبهم وهم يسمعون هذه القصة المؤلمة.
جلس نيفاليس في مكانه، مصعوقًا تمامًا. كانت الكلمات ثقيلة على قلبه، ولم يكن يستطيع أن يجد أي رد على ما سمعه. كان يشعر وكأن الأرض اهتزت تحت قدميه، وعقله لا يستطيع استيعاب ما قيل. كانت صدمته كبيرة، كما لو أن جزءًا من روحه قد سُلب.
تحدث العجوز إلياس بصوت محمّل بالحزن، وأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يقول:
"كل الأطفال في هذه الغرفة... لقد ذاقوا نصيبهم من طغيان النبلاء. كل واحد منهم مر بتجربة مريرة، كلها بسبب هذا النظام الفاسد."
في تلك اللحظة، شعر نيفاليس بشيء جديد لم يشعر به من قبل، شعور غريب، شعور بالقذارة. لأول مرة في حياته، شعر بالقذارة من لقبه. كان يحمل نفس لقب ذلك المختل، نفس لقب ذلك الذي جلب العار والدمار لأناس أبرياء. شَعَرَ كأن تلك الكلمة "نبيل" قد تحولت إلى وسام من العار، وكان يشعر كما لو أن الأرض تحت قدميه قد تلوثت.
"أعلم أنك ترى فينا فاشلين استسلموا للظروف، ولكن الحقيقة أكثر تعقيدًا مما تبدو. لم نختر هذا المصير، بل فُرض علينا."
تأمل نيفاليس في كلمات إلياس، محاولًا فهم ما وراءها.
"كيف يمكن أن يُفرض عليكم الفشل؟ أليس لكل فرد القدرة على تغيير واقعه بالجهد والمثابرة؟"
ابتسم إلياس ابتسامة حزينة، وأجاب:
"في عالم مثالي، نعم. ولكن عندما تكون محاطًا بنظام فاسد، حيث يُستغل الضعفاء وتُسلب حقوقهم، يصبح الجهد وحده غير كافٍ. لقد عانينا من ظلم النبلاء، الذين يرون فينا مجرد أدوات لخدمتهم، بلا حقوق أو كرامة."
"النبلاء يستخدمون الجيش كأداةٍ لقمع أي محاولةٍ للتمرد أو المطالبة بالحقوق. نعيش في خوفٍ دائم من البطش والتنكيل. الفساد مستشرٍ في كل زاوية، والتحالفات والخيانة بين النبلاء تزيد الوضع سوءًا. نحن، العوام، نعاني من الفقر والجهل، ولا نملك سوى الصبر والانتظار.
"لقد رأيت بعيني كيف يُعامل الناس كأدواتٍ بلا قيمة. أُسرٌ تُفكك، وأطفالٌ يُحرمون من التعليم، ونساءٌ يُستغللن بلا رحمة. كل ذلك يحدث تحت سمع وبصر النبلاء، بل وبمباركتهم أحيانًا.
"النظام الطبقي لا يرحم. الفقراء يزدادون فقرًا، والأغنياء يزدادون ثراءً. لا توجد فرص للتعليم أو العمل اللائق للعوام. حتى الأطفال يُجبرون على العمل.
جلس نيفاليس بصمت، محاولًا استيعاب ما سمعه من العجوز إلياس. تدفقت الأفكار في ذهنه كأمواج عاتية، وبدأت صورة المملكة التي كان يفتخر بها تتلاشى، لتحل محلها حقيقة مُرَّة لم يكن يتخيلها. شعر بثقل الكلمات التي سمعها، وكأنها أحجار تسقط على صدره، تعيق تنفسه وتثقل روحه. تمتم لنفسه بصوت خافت، بالكاد يُسمع: "هذه... فوضى."
نظر إلى يديه، التي طالما اعتبرها رمزًا للنبل والسلطة، ولكنه الآن لم يرَ فيهما سوى أدوات لظلم الآخرين. تسلل شعور بالعار إلى قلبه، كأنه سم زعاف ينتشر في عروقه. أصبح لقب "نبيل" الذي كان يفتخر به عبئًا يثقل كاهله، وشعر بأن هذا اللقب لم يعد يستحقه. تمنى لو يستطيع نزع هذا اللقب عن نفسه، كما ينزع المرء ثوبًا متسخًا ملطخًا بالخزي.
"أدرك نيفاليس أن نبلاء المملكة لم يشوهوا لقب النبيل فحسب، بل أفسدوه تمامًا، وحولوه إلى أداة طغيان متجذر، لا يمت للنبل بصلة."