الفصل التاسع عشر:"نبيل حقيقي"
بعد أن انتهى العجوز إلياس من حديثه، جلس نيفاليس في صمت غارقًا في أفكاره. لسببٍ ما، لم يقاطعه العجوز وتركه لما يدور في ذهنه، ولكن بعد فترة، أدرك نيفاليس أنه غاص عميقًا في تفكيره الداخلي لدرجة أنه نسي تمامًا أين هو. لم يكن يشبه نفسه في تلك اللحظة، فقد أصبح عقلُه غارقًا في تساؤلات وحيرة لم يواجهها من قبل.
اعتذر للعجوز على تشتته وغادر مسرعًا، إذ كان عقله منشغلًا بأشياء كثيرة تتصارع في داخله. كانت تلك اللحظات قد فجرت في داخله العديد من الأسئلة التي لم يجد لها إجابة. كيف يمكن لأولئك النبلاء الذين بدوا في البداية وكأنهم قدوة للشرف والعدالة أن يتحولوا إلى مجرد أدوات للفساد؟
بمجرد وصوله إلى النزل، توجه نيفاليس مباشرة إلى غرفته. أغلق الباب خلفه، ثم ألقى بجسده على كرسي خشبي قديم، دون أن يكترث بنظافته أو حالته. كان عقله في مكان آخر تمامًا، غارقًا في دوامة من الأفكار المتشابكة. فها هو الآن يتساءل عن كل شيء: عن النبلاء، عن المسؤولية التي طالما ظن أنها جوهر النبلاء، عن مفاهيم الشرف التي قرأ عنها. هل كانت هذه الأفكار خادعة طوال الوقت؟
"هل كانت مجرد كلمات في كتب..؟"
"ماذا أفعل الآن؟" تمتم لنفسه بصوت خافت، بينما تتسلل الحيرة إلى نبرته. كانت هذه الكلمات صدى لمشاعر الخيبة التي غمرته.
كانت الخطة واضحة في ذهنه حتى وقت قريب: التدريب لعدة أشهر، ثم التوجه لاختبار الفرسان في إحدى العائلات النبيلة، والترقي في المناصب لاحقًا. ولكن بعد ما حدث اليوم، وبعد الكلمات التي سمعها من العجوز، باتت خطته تتلاشى كأنها غبار في مهب الريح. لم يعد واثقًا مما إذا كان يرغب في أن يرتبط مجددًا بهؤلاء "النبلاء".
لا، لم يكن يستحقون أن يُطلق عليهم نبلاء أصلاً.
ضغط نيفاليس على أسنانه بغيظ، ولعن تحت أنفاسه: "أولئك الأوغاد... من يظنون أنفسهم؟ لقد لوّثوا لقب النبيل!" كانت كلماته مليئة بالاحتقار والاشمئزاز. كل كلمة كانت كالطعن في قلبه، لأنه كان يعتقد أن النبلاء هم من يحملون راية الشرف والمسؤولية في العالم.
لكن هؤلاء، كما رأى، لم يكونوا سوى حيوانات تتنكر في عباءة النبلاء.
كانت نبرته مليئة بالغضب، وكان قلبه يضخ نبضات متسارعة من الشعور بالخيانة. كيف يمكن لأولئك الذين يتفاخرون بلقب النبلاء أن يلوثوا هذا المفهوم؟ كانوا يتحدثون عن المال والسلطة كأنها جوهر الحياة، يسيطرون على كل شيء حولهم دون النظر إلى المعايير التي كان يعتقد أنها الأسمى في الوجود.
"لقد لوثوا صورة النبيل في ذهني!" هتف نيفاليس وهو يضرب سطح المكتب بقبضته، وعيناه تشتعلان بالغضب. "هؤلاء الذين يظنون أن المال والسلطة هي كل شيء! أين المسؤولية؟ أين الشرف؟ أين ذلك النبل الذي قرأت عنه في الكتب؟"
كانت خيبة أمله تتضاعف مع كل لحظة يفكر فيها فيهم. لم يعد يرى فيهم أي شيء يستحق الاحترام. بالنسبة له، النبلاء كانوا دائمًا رمزًا للمسؤولية، والعدالة، والشرف. أما الآن، فقد تحولوا إلى أدوات للفساد، ومنبع للظلم في هذا العالم المريض. كانت صورهم تتشكل في ذهنه مثل كوابيس متسلسلة لا تنتهي.
ورغم تلك الصدمة العميقة، رفع رأسه ببطء، وعلى وجهه بدأت تظهر ملامح التصميم والإصرار. "لكنني لن أتخلى عن لقبي... لن أكون مثلهم أبدًا. أنا سأكون نبيلًا حقيقيًا! أنبل من كل النبلاء الذين مروا في هذا العالم!" كانت هذه الكلمات بمثابة إعلان داخلي له، أنه لن يسمح لهذا الفساد أن يغيره أو يعرقل أهدافه. لم يكن ليرتضي أن يكون جزءًا من هذا التلوث.
وقف نيفاليس فجأة من على الكرسي، وبتصميم مشوب بالهدوء، سحب الكرسي ووجهه نحو المكتب. أخرج من خاتمه بعض الأوراق والأقلام التي كان يحتفظ بها بفضل إدوارد. لم يستطع منع ابتسامة خافتة من الظهور على شفتيه. كان هذا الخاتم يحمل بداخله كل ما يحتاجه في تلك اللحظات من أدوات لتسجيل أفكاره وخططه.
"ذلك العجوز... لقد فكر في كل شيء." همس لنفسه وهو يبدأ في رسم الخطوط العريضة لخطة جديدة في ذهنه.
داخل الخاتم، كان هناك كل ما قد يحتاجه؛ من أسلحة، إلى أقلام وأوراق، وحتى درع معركة والأهم المال الكثير منه.
جلس نيفاليس على الكرسي، وأمسك بالقلم، ثم بدأ يخطط للمستقبل.
بعد ساعة، انتهى نيفاليس من كتابة خططه المستقبلية. كان عقله ما زال مشغولًا بكل ما كتب، لكنه شعر بشيء من الراحة بعد أن وضع أفكاره على الورق. كانت هذه الخطوات بمثابة خريطة جديدة له، خريطة ستقوده إلى مستقبله كـ "نبيل حقيقي" بكل ما تعنيه الكلمة.
بمجرد أن انتهى، نزل إلى المطعم في النزل، الذي كان أشبه بمساحة صغيرة بسيطة ومتواضعة. كانت الجدران قديمة، والطاولات خشبية غير مصقولة، وبعضها كان يظهر عليه آثار الاستخدام المستمر. كان الضوء خافتًا، يعكس جوًا هادئًا وبسيطًا. بدا المكان مختلفًا تمامًا عن الأماكن الفاخرة التي اعتاد عليها في القصور الفاخرة، لكنه أصبح يراه الآن أكثر صدقًا في تقديم الحياة كما هي.
طلب نيفاليس من النادل قائلاً: "أحضر لي أفضل الأطباق لديك." لم يعد يهمه الطعام كثيرًا؛ فما كان يهمه الآن هو أن يتناول شيئًا يملأ معدته ويمنحه بعض الوقت للتفكير.
عاد النادل بعد قليل، حاملاً طبقًا بسيطًا. كان يتكون من شوربة خضار دافئة مع قطع من البطاطس والجزر، تم تحضيرها بطريقة تقليدية باستخدام المكونات المتوفرة في المنطقة. بجانبها، كان هناك خبز قروي محمص يُقدم بشكل بسيط، جاف بعض الشيء ولكنه كان كافيًا ليشبع الجوع. لا شيء مميز أو فخم، ولكن المذاق كان مناسبًا، والمكونات كانت طازجة بما يكفي.
شعر نيفاليس بأن الطعام لم يكن سيئًا، بل كان مناسبًا لهذه المنطقة الفقيرة. لم يكن ما اعتاد عليه في قصره من أطباق غنية بالبهارات واللحوم، لكنه كان كافيًا لإرضاء جوعه. انتهى من طعامه بسرعة، ثم نظر إلى النادل الذي عاد بعد أن انتهي من طعامه. نظر إليه لعدة ثوانٍ، مستغربًا من سبب قدومه. نسي لحظة أنه عليه دفع ثمن الطعام، وبعد أن تذكر أنه يجب أن يدفع، دفع ثمن الطعام، الذي كان بضع فضيات فقط. فوجئ نيفاليس، فالثمن كان منخفضًا جدًا مقارنة بجودة الطعام، ولكنه كان يتفهم أنه في هذه المنطقة، الحياة أقل رفاهية مما كان يعرفه.
خرج نيفاليس من النزل، وكانت وجهته التالية هي بيت العجوز إلياس. فبعد كل شيء، من هناك ستبدأ أولى خططه.