الفصل الثامن والعشرون: "الاقوي في المملكة"
بمجرد أن وصل نيفاليس إلى بوابة نقابة المغامرين، لم يجد حراسًا أو حتى مغامرين واقفين للحراسة. كان المكان هادئًا من الخارج، لكنه بدأ يسمع ضجيجًا قادمًا من الداخل قبل حتى أن يفتح الباب. أصوات ضحكات، وصيحات، وحديث سريع بين عدد من المغامرين.
تمتم في نفسه وهو يرفع حاجبًا:
"أو... يبدوا الجو حيوي جدًا في الداخل."
ثم دفع الباب بيده، لينفتح على مصراعيه، ويكشف عن عالم مختلف تمامًا.
القاعة الرئيسية كانت مليئة بالحركة، والأصوات التي امتلأت المكان جاءت من العديد من المغامرين الذين يتجمعون هنا وهناك، يتناولون الطعام، يتناقشون، أو يروون قصصًا عن مغامراتهم. كانت الأضواء السحرية تومض بألوان مختلفة، مما أضاف للمكان طابعًا ساحرًا وغامضًا في ذات الوقت.
نظر نيفاليس إلى المشهد أمامه وتمتم بابتسامة خفيفة:
"حيوي جدًا؟ بل أشبه بسوق حرب."
المشهد الأول الذي لفت انتباهه كان القاعة الرئيسية، وهي قاعة واسعة ذات سقف عالٍ مدعّم بأعمدة حجرية ضخمة منحوتة بعناية. المشاعل السحرية المعلقة على الجدران تنير المكان بضوء أزرق باهت، مما يضفي جوًا من الغموض والقوة. في وسط القاعة، توجد طاولات خشبية طويلة تتوزع عليها مجموعات من المغامرين، بعضهم يحتسي الشراب، وآخرون يتناقشون بصخب، بينما هناك من يتفاخر بإنجازاته بأسلوب مبالغ فيه.
على الجدران، علّقت لوحات كبيرة مليئة بالمهمات المختلفة، مقسمة حسب المستوى: مهمات صيد الوحوش، حماية القوافل، استكشاف الأطلال، وحتى بعض المهمات الخطيرة التي تتطلب فرقًا كاملة. خلف هذه اللوحات، كان هناك شباك زجاجي ضخم حيث تجلس موظفات النقابة، وهن يدونّ الطلبات ويتعاملن مع المغامرين القادمين.
في نهاية القاعة، يوجد درج عريض مزخرف يؤدي إلى الطوابق العليا، حيث يتمركز كبار المغامرين وقادة الفرق. خلف الدرج، كان هناك بابان ضخمان يؤديان إلى ساحة تدريب داخلية، حيث يمكن للمغامرين اختبار مهاراتهم أو التنافس فيما بينهم. ومن بعيد، كان يمكن سماع صوت اصطدام المعادن والصيحات الحماسية القادمة من هناك.
أما أكثر ما لفت نظر نيفاليس، فهو تمثال عملاق في منتصف القاعة، يمثل سيافًا مجهول الهوية يمسك بسيفين، أحدهما مشتعلاً بالنيران، والآخر مغطى بالجليد. التمثال منحوت بدقة مذهلة، وكأن صاحبه كان أسطورة في الماضي. هذا وحده كان كافيًا ليشعل فضوله.
اقترب نيفاليس من التمثال الضخم، وقد خمن هويته بالفعل. لم يكن بحاجة إلى قراءة النقش الذهبي المنحوت أسفله، لكنه فعل ذلك على أي حال:
"مؤسس نقابة المغامرين، أحد أبطال حرب الدم والمصير، سيد الجليد والنار، سياف الإبادة – ألكسندر فاليريوس راينهارت."
تمتم نيفاليس بابتسامة خفيفة:
"أوه... كما توقعت. إنه أحد أبطال الحرب الكبرى منذ 230 عامًا."
كان التمثال مهيبًا بحق، يليق برجل قاتل من أجل بقاء البشرية. مجرد التفكير في أنه كان موجودًا بالفعل على هذه الأرض ذات يوم جعل نيفاليس يشعر بالإثارة. لطالما فُتن بتلك الشخصيات الأسطورية التي تركت بصمتها في التاريخ.
بينما كان ينظر إلى التمثال، سمع صوت خطوات تقترب منه. التفت قليلًا ليرى فتاة ترتدي زي موظفات النقابة تقترب منه بابتسامة لطيفة.
"يبدو أن تمثال مؤسس النقابة قد جذب انتباهك."
أجاب نيفاليس دون أن يبعد عينيه عن التمثال:
"أوه، نعم. أنا مهتم بالشخصيات البطولية."
ضحكت الفتاة وقالت:
"ههههه، كل من يأتي إلى هنا ينجذب لهذا التمثال. إنه رمز النقابة بعد كل شيء."
ثم نظرت إليه باستفسار:
"إذن، فيما أستطيع مساعدتك؟"
قال نيفاليس مباشرة:
"أريد أن أنضم إلى فريق كمتدرب."
"أوه، إذن اتبعني، نحتاج إلى ملء بعض الأوراق."
قادته الفتاة إلى أحد الشبابيك حيث جلست وأحضرت بضع أوراق وبدأت في تسجيل بياناته.
"هل لي أن أعرف اسمك؟"
أجاب نيفاليس دون تردد:
"فيكتور."
بالطبع، فلم يكن من الحكمة استخدام اسمه الحقيقي.
"هل خضعت لاختبار الهالة أو السحر من قبل؟"
تظاهر نيفاليس بالتردد قليلًا قبل أن يقول:
"أه... في الواقع، أعرف القليل عن استخدام السيف."
"جيد جدًا، والآن..."
قبل أن تكمل حديثها، قاطعها نيفاليس قائلًا بلهجة هادئة:
"وأستطيع أيضًا استخدام السحر."
توقفت الفتاة عن الكتابة فجأة. نظرت إليه مرة أخرى، كما لو أنها تحاول التأكد مما سمعته. حدقت فيه بتركيز، لكنه لم يكن يبدو سوى شاب جميل في الخامسة عشرة من عمره، كان شكل نيفاليس طويلًا بالنسبة لسنه، ذو شعر أسود قصير مربوط للخلف، وعينين سوداويتين لامعتين، وبشرة غامقة قليلًا، وكل ذلك بفضل السوار الذي يرتديه على معصمه الأيسر، والذي غير مظهره بالكامل. كان يحمل سيفًا معلقًا على خصره بواسطة حزام، مما منحه مظهرًا يوحي بالقوة والانضباط.
"هل أنت واثق أنك تستطيع استخدام السحر؟ سيكون هناك عقوبات إن كنت تكذب."
لم يُجب نيفاليس بالكلام، بل رفع يده بهدوء، وأطلق تيارًا لطيفًا من الرياح مرّ على وجه الفتاة، مما جعل شعرها يتطاير قليلًا.
اتسعت عيناها بدهشة قبل أن تهمس:
"سحر الرياح..."
ثم نظرت إليه بذهول قبل أن تبتسم بحماس:
"مذهل! تستطيع استخدام السحر في مثل هذا السن؟ هذا رائع! سأحرص على تعيينك في فريق ممتاز!"
بدأت تكتب بسرعة في الأوراق، ولكن نيفاليس قاطعها مرة أخرى بصوت هادئ:
"عذرًا، ولكن... أستطيع أيضًا استخدام سحر النار."
توقفت يدها عن الكتابة، ثم انتفضت من كرسيها مرة أخرى، ونظرت إليه وكأنها رأت شبحًا.
"ساحر مزدوج...؟!"
لم تمنحه فرصة للرد، بل أسرعت بالابتعاد قائلة:
"عذرًا، انتظرني هنا قليلًا!"
ثم اختفت خلف أحد الأبواب بسرعة.
توقع نيفاليس هذا. كان بإمكانه إظهار سحر الرياح فقط، ومع أساسياته في استخدام السيف، كان سيتم تعيينه في أحد أفضل الفرق المتاحة. لكنه لم يكن يريد مكانًا جيدًا فقط، بل كان يريد الوصول إلى هدفه بأسرع طريقة ممكنة.
بعد دقائق، عادت الفتاة راكضة، وعلامات التوتر والإثارة على وجهها.
"أرجو منك أن تتبعني، سيد نقابة المغامرين الحالي يريد مقابلتك."
رفع نيفاليس حاجبيه قليلًا. كان يعتقد أنه على الأكثر سيقابل نائب النقابة، لكن يبدو أن الحظ إلى جانبه اليوم.
ابتسم بخفّة وتمتم:
"ممتاز."
......
أخذت الفتاة نيفاليس إلى الطابق الثاني، حيث وصلا أمام باب غرفة كبيرة ذات تصميم فخم ولكن بسيط، يوحي بالقوة أكثر من الترف.
دقت الباب وانتظرت الرد بصمت.
بعد بضع ثوانٍ، جاء صوت عميق من الداخل:
"ادخل."
فتحت الفتاة الباب وأومأت لنيفاليس بالدخول قبل أن تغلقه خلفه بهدوء.
بمجرد أن دخل نيفاليس، وقعت عيناه على الغرفة الواسعة. على الجدران، عُلِّقت خرائط قديمة وحديثة للمملكة والمناطق المحيطة بها، بعضها يحمل علامات وخطوط تدل على تحركات القوات أو خطط للمعارك.
على الجانب الأيمن، وُضعت رفوف خشبية ممتلئة بكتب ضخمة، فيما تراكمت لفائف ورقية بجانبها، وكأنها لم تُفتح منذ سنوات. كان هناك أيضًا حامل سلاح ضخم، يستند إليه رمح عظيم ذو نصل قاتم بدا كأنه قد شرب من دماء لا تُحصى، وهالة خفيفة من القهر تحيط به.
في منتصف الغرفة، كان هناك مكتب خشبي ضخم، يجلس خلفه رجل ذو جسد هائل يبعث على الرهبة، كتفاه العريضتان جعلت الكرسي يبدو أصغر مما هو عليه. ملامحه قاسية، بشرته تحمل آثار ندوب قديمة، وعيناه كجمرتين تلمعان بثقة لا تتزعزع. كان هذا آدم راينهارت، ملك المرتزقة الحالي.
رفع آدم رأسه قليلًا ونظر إلى نيفاليس بتفحص، ثم قال بصوت هادئ لكنه ثقيل:
"أوه... لم أتوقع أن تكون بهذا الصغر."
أومأ نيفاليس باحترام وقال: "اسمي فيكتور."
لم يعر آدم الاسم اهتمامًا، بل أشار له بالجلوس وهو يقول: "اجلس."
ما إن جلس نيفاليس حتى تغير الجو فجأة. ارتفعت هالة خانقة في الغرفة، كأن الجدران باتت تضيق عليه، وكأن وزنه ازداد فجأة عشرة أضعاف. كانت هالة ملك المرتزقة، الطاغية والرهيبة، تملأ المكان بالكامل، مما جعل من الصعب حتى التنفس.
هالة تليق بملك المرتزقة الحالي، طاغية ومهيبة، كأنها جبل من الهيبة والسلطة سقط على المكان.
تذكر نيفاليس سؤالًا قد طرحه ذات مرة على إدوارد، مجرد فضول عابر لم يكن يتوقع حتى أن يحصل على إجابة واضحة عليه.
"من هم أقوى ثلاثة أشخاص في المملكة؟"
كان من ضمن الثلاثة الرجل القابع أمامه الآن، ثاني أقوي شخص في المملكه أدم رينهارد ، ملك المرتزقة الحالي.
لم تكن هذه المعلومة شيئًا متوقعًا بالنسبة لنيفاليس. فلو سأل أي شخص آخر في المملكة عن أقوى ثلاثة أشخاص، لكان الجميع سيضع في المرتبة الأولى دون شك الساحر الأعلى للإمبراطورية، ساحر العائلة الإمبراطورية، وأحد السحرة القلائل من المستوى الخامس.
لكن الحقيقة كانت مختلفة تمامًا.
المفاجأة الحقيقية كانت أن ذلك الساحر لم يكن الأول... بل الثالث.
أما الأول... فهو إدوارد نفسه.
بالطبع، لم يكن هذا التصنيف معلنًا، ولم يكن سوى نيفاليس من يعرف الحقيقة. في منظور المملكة بأكملها، كان الساحر الأعلى للإمبراطورية هو الأقوى بلا منازع، فهو ممثل العائلة الإمبراطورية، وأحد أركان قوتها المطلقة. لكن الحقيقة كانت أن هناك شخصًا يعلوه، شخصًا لم يدخل أبدًا في معركة علنية تكشف قوته الحقيقية.
لم يكن هناك معركة حاسمة تحدد الأقوى في القارة.
نيفاليس لم يهتم كثيرًا كيف علم إدوارد بقوة أدم، أو حتى كيف تمكن من تصنيفه في المرتبة الثانية.
لم يكن إدوارد شخصًا يحب الحديث عن نفسه، ولم يكن يملك رغبة في تقديم أي تفسير، لذلك ببساطة لم يسأل نيفاليس احترامًا له.
لكن الآن... كان عليه أن يواجه الحقيقة بنفسه.
أعاد نيفاليس تفكيره بسرعة إلى اللحظة الحالية. حقيقة أن أدم رينهارد قد أطلق هالته بهذه الطريقة تعني أن كلماته التالية ستكون في غاية الأهمية.