الفصل الواحد والثلاثون "نذيري الدمار"
مدينة إلثرين: جوهرة الشمال المقدسة
وسط الشمال الجليدي، حيث تمتد السهول البيضاء بلا نهاية، تقف مدينة إلثرين كتحفة معمارية تلامس حدود الأسطورة. إنها العاصمة الروحية لدولة إيسفيلدا، وأعظم مدن الشمال، حيث يجتمع الجمال بالرهبة، والإيمان بالقوة.
عند دخول إلثرين، يشعر الزائر وكأنه عبر بوابة إلى عالم آخر. الشوارع مرصوفة بأحجار بيضاء ناعمة تعكس نور الشمس نهارًا، وتتلألأ تحت ضوء القمر ليلًا، مانحة المدينة إشراقًا سماويًا دائمًا. الأشجار المورقة تصطف على جانبي الطرق، بأوراقها الخضراء الداكنة التي تتراقص مع نسمات الشمال الباردة، بينما تمتد الحدائق الفسيحة، مغطاة بأزهار نادرة تفوح منها روائح زكية، وكأنها أنفاس الآلهة نفسها.
لنافورات تتناثر في كل زاوية، مياهها الصافية تتدفق برشاقة، عاكسة أضواء المشاعل التي تزين شرفات المباني المزخرفة. في السماء، تحلق الطيور المقدسة فوق أبراج المدينة العالية، بينما تملأ التماثيل الرخامية الساحات العامة، تجسد قصص العظماء الذين كرسوا حياتهم لحماية هذا المكان المقدس.
في قلب المدينة، يرتفع المعبد الأعظم، درة التاج في إلثرين، وأقدس معابد الشمال. تحيط به أسوار شاهقة من الرخام الأبيض المنحوت، تحمل نقوشًا مقدسة قديمة، بينما تقف بواباته الضخمة، المصنوعة من الذهب والفضة، كحارس صامت أمام الداخلين، تعكس نور الشمس في وهج مهيب.
سقفه الشاهق مدعوم بأعمدة ضخمة، محفورة عليها كتابات مقدسة، وتعلوه قبة عظيمة مرصعة بأحجار كريستالية زرقاء، يُقال إنها تعكس ضوء النجوم كل ليلة، فتغمر المدينة بهالة سماوية. داخل المعبد، تمتد قاعات واسعة، تزين سقوفها جداريات تحكي تاريخ المعبد وعظمائه، بينما تنساب الأضواء الخافتة من الشموع التي تحترق في حوامل ذهبية ضخمة، تبعث في النفوس خشوعًا لا يوصف.
في المذبح المركزي، وقف الكهنة، مرتدين ملابس بيضاء ناصعة، مطرزة بخيوط فضية تحمل شعار المعبد، رمز النقاء والإيمان. يتحركون في صمت تام، ترافقهم تراتيلهم الهادئة التي تتردد في أرجاء المكان، وكأنها صدى للصلوات التي رفعت هنا على مدى قرون.
..........
في إحدى أبهى قاعات المعبد، حيث لا يُسمح بدخول سوى الصفوة من الكهنة والحكام، جلس رجل عجوز على طاولة بيضاء مهيبة، سطحها ناعم كالرخام، ونُقشت على أطرافها رموز دينية دقيقة تعكس تاريخ المعبد العريق. رغم تقدمه في السن، إلا أن وجوده وحده كان كافيًا ليملأ المكان رهبةً وهيبة.
إنه المطران الأبيض كاليستوس إيثيرن، السلطة العليا ليس فقط في المعبد، بل في الشمال بأسره. كان يرتدي رداءً أبيض طويلًا، بسيط التصميم لكنه يعكس مكانته، تتخلله تطريزات فضية دقيقة على الأطراف، ترمز إلى النقاء والحكمة. حول عنقه، عُلق قلادة مقدسة تحمل رمز الشمس، مصنوعة من الفضة النقية، متدلية بهدوء على صدره.
عيناه الرماديتان العميقتان، اللتان أحاطت بهما تجاعيد الزمن، راقبتا باب القاعة المغلق بصبر، كما لو كان يعلم مسبقًا بما سيحدث.
وبعد بضع دقائق، انفتح الباب بهدوء، ودخل أربعة رجال دفعة واحدة. كانوا يرتدون دروعًا بيضاء تحمل شعار المعبد، تتحرك أجسادهم بانضباط صارم، لكن ما إن وقعت أعينهم على العجوز الجالس أمامهم، حتى
ركعوا على الفور، واضعين أيديهم على صدورهم في تحية مقدسة، وقالوا بصوت واحد:
"نعتذر على التأخير، ونحيي أعلى سلطة في الشمال."
جلس الأربعة على الفور، كل واحد منهم شغل مقعده في صمت، متوترين تحت نظرات المطران التي تحمل من الثقل ما يجعل الهواء نفسه يزداد كثافة في الغرفة. لم يكن هؤلاء سوى حكام مدن الشمال، أقوى رجال إيسفيلدا بعد المطران نفسه.
تحدث كاليستوس بهدوء، لكن صوته حمل يقينًا لا يقبل الجدل:
"أتوقع أنكم تعرفون سبب اجتماعنا اليوم."
تبادل الحكام النظرات، قبل أن يقطع الصمت رجل في الأربعينيات من عمره، يشبه المطران في ملامحه لكن بعينين أكثر حدة، كان هو الأخ الأصغر لكاليستوس وحاكم مدينة إلثرين، ألكسندر إيثيرن .
"هل هو بسبب اقتراب موعد ‘نبوءة مولود الرماد‘؟"
أومأ المطران ببطء، قبل أن يجيب بصوت هادئ لكنه مشحون بثقل المسؤولية:
"أجل، الموعد يقترب بسرعة، وعلينا الاستعداد لمواجهته قبل أن يتحقق. حجم الكارثة لن يقتصر على الشمال فقط… بل قد يجتاح القارة بأكملها."
سادت لحظة من الصمت قبل أن يوجه كاليستوس نظره نحو أحد الجالسين، كان رجلاً صارم الملامح، نظرته تعكس خبرة السنين الطويلة في الحكم والسياسة.
"إسحاق، تواصل مع الجنوب. أخبرهم أني بحاجة للقاء حاكمهم في أسرع وقت ممكن."
"مفهوم." أجاب إسحاق على الفور، صوته لا يحمل أي تردد.
ثم التفت المطران نحو أخيه ألكسندر، الذي كان يجلس مستقيمًا، مستعدًا لتلقي الأوامر.
"ألكسندر، تأكد أن تجهيزاتنا في الشمال جاهزة للانطلاق في أي لحظة."
"سيتم الأمر، المطران."
تحركت عيون المطران بين الجالسين، ثم قال بصوت أكثر صرامة:
"استمعوا إلي جيدًا… وفقًا للنبوءة، هناك نذيرا دمار، ووفقًا لنفس النبوءة، أحدهما سيظهر في جبال نيهاريف، والآخر قادم من المملكة."
زمجر أحد الحكام، ضرب بقبضته على الطاولة، الغضب واضح في نبرته:
"تبا! كما توقعت، لن يأتي خير من هؤلاء النبلاء الفاسدين في المملكة!"
تنهد المطران، وكأن ثقل العصور قد استقر على كتفيه. نظر إلى الطاولة أمامه للحظة، قبل أن يتحدث بصوت خافت لكنه محمل بالندم:
"أنا بالفعل نادم… نادم على عدم موافقتي على مهاجمة المملكة منذ موت الإمبراطور الاول وانتشار الفساد فيها. وها أنا ذا، أواجه عاقبة قراري."
سادت لحظة من الصمت، قبل أن يشد قبضته على الطاولة، ثم رفع رأسه بعزم واضح، نبرته لم تعد تحمل الندم فقط، بل الإصرار على تحمل المسؤولية.
"هذه الكارثة ستخلف بحارًا من الدم وآلاف القتلى الأبرياء. لن أقول أن هذا هو الأفضل، ولن أبرره كضرورة لتحقيق هدف سامٍ… ولكن لا مفر من المواجهة. ستكون هناك أخطاء، وسأحاسب عليها، ولن أتهرب منها."
رفع رأسه لينظر إليهم جميعًا، ثم قال بصوت قاطع:
"قدري أن أحمل هذا العبء، وقدركم أن تحملوه معي. إن كنا سنخطئ، فلنخطئ بشجاعة. إن كنا سننتصر، فلننتصر بكرامة. وإن كان مقدرًا لنا أن نسقط… فسنفعل ذلك كرجال حافظوا على شرفهم حتى النهاية."
كانت كلماته بمثابة إعلان قاطع… إعلان بأن الشمال لن يقف مكتوف الأيدي أمام ما هو قادم.