الفصل الثاني والثلاثون: "العودة للحضارة"

بعد عامٍ كاملٍ من المهام المتتالية، وجد نيفاليس نفسه أخيرًا عائدًا إلى مدينة هيراس برفقة فرقته. لم يكن هذا العام سهلاً، بل كان مليئًا بالمعارك، المطاردات، والليالي التي قضوها في البراري دون راحة حقيقية. لكن الآن، كانوا أخيرًا يعودون إلى المدينة، إلى مكانٍ يمكنهم أن يسموه "منزلًا"، ولو مؤقتًا.

عند بوابة المدينة، أظهر أعضاء الفرقة هوياتهم للحراس الذين أفسحوا لهم الطريق دون تردد. ما إن وطأت قدماه الأرض داخل أسوار هيراس، حتى توقف نيفاليس للحظة، أغمض عينيه وأخذ نفسًا عميقًا وهو يمد ذراعيه وكأنه يعانق الهواء:

"آه... بعد سنة من المهام المتتالية، أخيرًا أضع قدمي على أرض مدينة حقيقية!"

لم تمضِ سوى لحظة صمتٍ قصيرة، حتى انفجرت الفرقة كلها بالضحك.

"هاهاها! انظروا إليه، كأنه مزارع عاد إلى قريته بعد سنوات من الغربة!"

"لا، بل أشبه بمتشرد وجد أخيرًا مكانًا دافئًا للنوم!"

"أراهن أنه سيحتضن الأرض قريبًا!"

وقف نيفاليس للحظة يحدق فيهم ببرود، قبل أن يدير وجهه ويتجاهلهم تمامًا. ابتسم بخفة وأكمل سيره باتجاه قاعدة المرتزقة، لكن قبل أن يبتعد كثيرًا، سمع صوتًا مألوفًا يناديه من الخلف.

"هاي! إلى أين تذهب أيها الطفل؟ لا تجعلنا نبحث عن طفل ضائع!"

كان المتحدث هو فليكس، الذي ألقى بذراعه على كتف نيفاليس بينما يبتسم بمكر.

توقّف نيفاليس وألقى نظرة جانبية على فليكس، تلك النظرة المعتادة التي تحمل مزيجًا من البرود والتأفف، وكأنه قد اعتاد تمامًا على مضايقاته المستمرة. كان من الواضح أنه لم يعد يتأثر بكلماته كما كان في البداية.

تجاهل سخريته وردّ ببرود:

"إلى الوجهة الطبيعية... قاعدة المرتزقة."

رفع فليكس حاجبًا ونظر إليه وكأنه ينظر إلى شخص غريب الأطوار:

"ومن قال إننا ذاهبون إلى هناك؟"

توقف نيفاليس عن المشي وحدق فيه بحيرة:

"أه؟ إذن، إلى أين سنذهب إن لم يكن إلى القاعدة؟"

ضحك فليكس وربت على رأسه كما لو كان يشرح لطفل صغير:

"بالطبع سنذهب إلى هناك لاحقًا، لكن أولًا سنزور منزل القائدة، فهي لم ترَ طفلها منذ سنة تقريبًا."

قال كلماته الأخيرة ثم استدار ليكمل سيره، تاركًا نيفاليس متجمّدًا في مكانه، وعيناه تلمعان بالدهشة.

"لحظة... القائدة لديها طفل؟! هل هي متزوجة أساسًا؟!"

---

لحق نيفاليس بفليكس بسرعة، يسير بجانبه بينما تنهال الأسئلة من فمه كالسيل:

"منذ متى القائدة متزوجة؟ من هو زوجها؟ لماذا لم تذكروا هذا من قبل؟"

لكن فليكس لم يُجب. بل اكتفى بابتسامة واسعة وهو ينظر للأمام وكأنه لا يسمع شيئًا.

رفع نيفاليس حاجبه متحفزًا: "أنت تتجاهلني، أليس كذلك؟"

اتسعت ابتسامة فليكس أكثر دون أن ينطق بكلمة.

توقف نيفاليس عن المشي وأخذ نفسًا عميقًا، ثم زفره ببطء وهو يتمتم بين أسنانه: "أنا هادئ... أنا هادئ... لن أقتله هنا أمام العامة."

استمر فليكس بالسير دون أن يلتفت إليه، فاضطر نيفاليس للحاق به غاضبًا.

بعد فترة، وصلا إلى السوق المركزي حيث تداخلت أصوات الباعة وروائح الطعام المختلفة، فرفع نيفاليس حاجبه مستغربًا:

"لماذا نحن هنا؟ ألم تقل إننا ذاهبون إلى منزل القائدة؟"

تنهد فليكس وهز رأسه وكأنه سئم من تعليم طفل صغير: "آه، آه، نيفاليس الصغير... إلى متى عليّ أن أعلّمك؟"

قبض نيفاليس يده، متماسكًا بصعوبة: "أيها الوغد، لا تقلّد القائدة! وثانيًا، هي لا تقولها هكذا!"

لكن فليكس تجاهله تمامًا، استدار ليواجه نيفاليس، ثم وضع يده على كتفه وأخذ نبرة حكيمة مصطنعة:

"استمع إليّ يا طفلي، عندما تزور شخصًا لم تره منذ مدة، عليك أن تحضر معه هدية. لا تكن جلياطًا."

لم يتمالك نيفاليس نفسه هذه المرة، أمسك شعر فليكس وسحبه بقوة، وهو يضغط على أسنانه غاضبًا:

"أخرس أيها الوغد! القائدة لا تتحدث بهذه الطريقة، ولن تنعتني بـ‘جلياط’!"

صرخ فليكس وهو يحاول تحرير رأسه: "أوه لا، إنه يحاول قتلي! لقد فقدنا نيفاليس بسبب التشرد الطويل!"

إليك نسخة موسعة وأكثر عاطفية للمحادثة، تسلط الضوء على تأثير الرجل على فليكس ومدى تأثير فقدانه عليه.

أطلق نيفاليس زفرة طويلة وهو يترك شعر فليكس أخيرًا، ثم قال بنبرة محايدة:

"حسنًا... لنعد إلى الموضوع. من هو زوج القائدة؟"

كان فليكس يصلح تسريحة شعره الفوضوية، لكنه توقف في منتصف الحركة، وكأن السؤال قد أصابه بموجة من الذكريات غير المرحب بها. لأول مرة، لم يرد بسخرية، لم يُطلق أي تعليق مستفز، بل بقي صامتًا للحظات.

ثم التفت إلى نيفاليس وعيناه تعكسان ثقلًا غير مألوف، نظرة لم يرها نيفاليس من قبل على وجه رفيقه المرح دائمًا.

"اسمع يا نيفاليس، يجب عليك ألا تطرح هذا السؤال على القائدة."

رفع نيفاليس حاجبه مستغربًا. كان يتوقع من فليكس أن يسخر منه كالعادة، أن يقهقه ويضربه على كتفه، أو على الأقل يراوغه بإجابة ملتوية. لكن هذه المرة، كانت نبرة صوته... مختلفة.

ظن نيفاليس أن فليكس يحاول التلاعب به، فأطلق تأوهًا ساخرًا وقال:

"فليكس، أقسم لك أنه إذا كنت تمزح مرة أخرى فسأشويك هنا وأقدّمك لطفل القائدة كوجبة."

لكن على غير المتوقع، لم يتحرك فليكس، لم يضحك، لم يُظهر حتى ابتسامة مستفزة. بل وقف هناك، مشدود الكتفين، وعيناه تحدقان في الفراغ، كأن روحه قد سُحبت للحظات إلى ماضٍ لا يزال يطارده.

لم يكن هذا فليكس الذي يعرفه نيفاليس.

تلاشت ابتسامته الساخرة تدريجيًا، ليحل محلها شعور بالريبة والقلق. اقترب خطوة وسأل بصوت أقل حدة، مليئًا بالشكوك:

"هل حدث له شيء؟"

تنهد فليكس ببطء، وكأن كلمات نيفاليس أثقلت كاهله أكثر مما ينبغي. للحظة، بدا وكأنه يتردد، كأنه غير

متأكد مما إذا كان عليه التحدث أم لا. لكن في النهاية، خرجت الكلمات منه بصوت منخفض، يكاد يكون همسًا:

"كان زوج القائدة... أقوى وأشجع رجل قابلته في حياتي."

توقف للحظة، وكأن الذكريات اجتاحته دفعة واحدة، ثم تابع بصوت خافت لكنه مليء بالمشاعر المتشابكة:

"كان هو من أحضرني إلى مركز المرتزقة عندما كنت مجرد طفل مشرد، بعد أن فقدت عائلتي... لا، لم أفقدهم، لقد سُلبوا مني، قُتلوا أمام عينيّ، وتركوني وحيدًا في هذا العالم القاسي. كنت مجرد طفل تائه، لا يعرف إلى أين يذهب، لا يعرف كيف ينجو."

ابتسم للحظة، لكن ابتسامته لم تكن سوى ظلّ لشيء كان سعيدًا يومًا ما.

"ثم ظهر هو... وسط كل الفوضى واليأس، مدّ يده إليّ، ولم يسألني من أنا أو ماذا كنت، لم يتردد حتى للحظة. فقط قال لي، 'تعال معي، ستكون بأمان.' لقد كانت تلك الكلمات كالسحر... لأول مرة منذ مدة طويلة، شعرت أن هناك من يهتم."

أغمض عينيه للحظة، وكأن مجرد استعادة الذكرى كافٍ لجعله يغرق فيها مجددًا.

"لم يكن مجرد رجل قوي، لم يكن مجرد مرتزق ماهر... بل كان أكثر من ذلك. كان مثل شمسٍ وسط ظلامي. كان هو من علّمني كيف أحمل سلاحًا، كيف أدافع عن نفسي، كيف أعيش. لكنه لم يكن مجرد معلم... لقد كان العائلة التي لم أملكها أبدًا."

توقفت كلماته للحظة، وكأنه كان بحاجة لوقت كي يبتلع المشاعر التي تجتاحه. لكن عندما تحدث مجددًا، كان صوته أكثر حدة، وأكثر ألمًا:

"لكن الدنيا دائمًا ما تسلب منا أعزّ الأشخاص لدينا، أليس كذلك؟"

خذ نفسًا عميقًا، محاولًا تهدئة ارتجاف طفيف في صوته، لكنه لم ينجح تمامًا.

"في أحد الأيام، حصل على مهمة لاستكشاف حدث غامض ظهر في المملكة. شيء لم يكن طبيعيًا... لقد كان يشعر أن هناك خطبًا ما. لكنه ذهب على أي حال، كما يفعل دائمًا، بكل شجاعة، بكل ثقة."

توقف، ابتلع ريقه بصعوبة، ثم تابع بصوت خافت:

"لكنه لم يعد أبدًا."

ساد الصمت بينهما، لكن لم يكن صمتًا عاديًا، بل كان صمتًا مثقلًا بالحزن، بالذكريات، وبفقدان لم يندمل بعد.

نظر نيفاليس إلى فليكس، وهذه المرة لم يكن يرى ذلك الشاب الساخر الذي يحب إزعاجه، بل كان يرى

شخصًا يحمل في داخله جراحًا قديمة لم تلتئم، وذكرى لرجل كان يومًا ما كل شيء بالنسبة له... واختفى.

2025/04/19 · 3 مشاهدة · 1142 كلمة
Xx_Adam_xx
نادي الروايات - 2025