الفصل ٣٥: مَعَارِف
"لقد ظهرت..."
بِمُجَرَّدِ أن نُطِقَت تِلكَ الكَلِمَة، انتفضَ جميعُ مَن في الغرفةِ مِن مَقاعِدِهِم.
ركضت لينا نحو الخارجِ بسرعة، وتَبِعَها أعضاءُ الفرقةِ بلا تَردُّد.
ركض نِيفَالِيس معهم، لكنه التفت نحو فليكس وهو يهتفُ:
"هل يقصد بـ 'ظهرت'...؟"
صمتَ فليكس لوهلة، ثم أجابَ بهدوء:
"سَنَكتشفُ ذلك عما قريب."
استمرَّ الجميعُ في الركضِ خلفَ لينا باتجاهِ مبنى اتحاد المرتزقة، لكن نِيفَالِيس فجأةً تباطأ، ثم توقّف.
التفت فليكس إليه مستغربًا:
"ما الأمر؟ لِمَاذا توقفت؟"
"لا شيء... تابعِ المضي، سألحقُ بكم عما قريب."
عبس فليكس قليلًا، لكنه لم يُطِل الحديث:
"حسنًا، لكن أسرع."
ثم انطلقَ من جديد، بينما استدار نِيفَالِيس بهدوءٍ وركضَ في اتجاهٍ مختلف.
ركض باتجاه أطرافِ المدينة، حتى توقّف أمامَ أحد الأزقّةِ القديمة.
الغريبُ أن المكانَ كان خاليًا تمامًا من المارّة، كأنَّ الجميعَ اختفوا فجأة.
تقدّم نِيفَالِيس بخطواتٍ سريعة، وابتسامةٌ دافئة ترتسمُ على وجهه.
همس بشوق:
"مُعلّمي... لقد مرّ وقتٌ طويل، هل—"
لكنه لم يُكمل جملته.
فقد تقدّمت نحوه فتاةٌ بسرعة، وألقت نفسها في حضنه.
كانت ذاتَ شعرٍ ذهبيٍّ وعيونٍ لامعة بلون الذهب، تشعّ براءةً وحنينًا.
"لَارَا؟!" صاح نِيفَالِيس بدهشة.
وقبل أن ينبسَ أحدهم بكلمة، جاء صوتٌ صارمٌ من مدخلِ الزقاق:
"عذرًا على المقاطعة... لكن عليكما الانتباه لمكانكما الحالي."
ظهر فارسٌ طويلُ القامة، يرتدي درعًا أسودَ يحملُ شعارَ الإمبراطورية.
وعلى خاصرته كان يتدلّى سيفٌ أبيضُ جميل.
ابتعدت لارا عنه بسرعة، ووجهُها قد احمرّ من الحرج.
"مُعلّمي..." قالت بصوتٍ خافت.
ابتسم نِيفَالِيس، ثم تقدّم بخطوةٍ وأدّى التحية العسكرية للفارس.
"ما الذي تفعلونه هنا؟" سأل بنبرةٍ هادئة.
قالت لارا بلهجةٍ عاتبة:
"بالطبع جئنا لأخذك... هل تعلم كم كانت أمي وكنتُ أنا قَلِقَتَين عليكَ منذ سمعنا الأخبار؟"
أضاف إيردين بنبرةٍ جديّة:
"منذ سقوطِ عائلة أوليفير وفشلِ الخطة، كان من المفترض أن نأخذك فورًا. لكنك اختفيت فجأةً قبلها."
أومأ نِيفَالِيس بصمت.
"الخطة كما تعلم، كانت تنصّ على أن تستولي على اسمِ عائلة أوليفير بصفتك ابنهم المتبنّى، ومن ثم تتلقى دعمًا مباشرًا مني ومن الإمبراطورة لإسقاط واحدة من عائلات الدوقات الأربعة."
صمت لوهلة، ثم أكمل:
"كان الهدف هو هدمُ منظومةِ الدوقاتِ الفاسدة، وبدء إصلاحٍ حقيقيٍّ في المملكة... خصوصًا أن الإمبراطور أعلن حيادَه، ما داموا خارج العاصمة."
"لكن..." أكمل نِيفَالِيس بصوتٍ خافت، "الخطة فشلت... بسقوط العائلة."
"تمامًا. بعد ذلك اختفيت، ثم وجدناك لاحقًا بعد أشهر... عضوًا في اتحاد المرتزقة، بل في ثالثِ أقوى فرقةٍ فيه أيضًا."
تنهّد إيردين، ثم قال:
"أردتُ إعادتك، لكن الإمبراطورة قالت: دعه يفعل ما يشاء، ما دام قد اختار هذا الطريق. لكن الآن، الأمور تغيّرت... وأمرتني بإعادتك."
رفع نِيفَالِيس حاجبَه باستغراب، ولاحظ شيئًا ما في صوت معلمه حين قال: "تغيّر الوضع."
"وما الذي تغيّر بالضبط؟" سأله.
"الأمرُ ليس مؤكدًا بعد... لكن يبدو أننا على مشارفِ حرب."
"ماذا؟! حرب؟ حربٌ ضد من؟!"
"الشمال."
تجمّد نِيفَالِيس في مكانه.
"لكن... حربُ الوحوش لا يفصلنا عنها سوى أقل من عامين... إذا اشتعلت حربٌ الآن، فستكونُ القارةُ بأكملها مهددةً بالفناء!"
"نعلم ذلك... لكن التحركاتِ في الشمال غريبة، وهناك تجهيزات، رغم أننا لا نملك دليلًا مباشرًا على نيتهم الهجوم."
"إن كانوا يستعدون لحرب الوحوش، فربما هذا يبرّر… ولكن إن كانوا يجهزون للحرب ضدنا… فهذا كارثي.
أومأ إيردين بثقل:
"كل شيءٍ قد ينهار، خططُ الأمير، وخططُ الإمبراطور... كل شيء."
قال نِيفَالِيس بتوتر:
"لحظة، مُعلّمي... في ماذا يفكرُ الشمال بالضبط؟ من المُفترض أنهم أعقلُ من هذا، وأيضًا لأيِّ سببٍ سيهاجموننا؟ وحربُ الوحوش ستمتدّ إليهم أيضًا! إشعالهم لحربٍ الآن ما هو إلا حُكمٌ بالفناء علينا جميعًا..."
"لقد كان هذا... غباءً محضًا."
"آه..." تنهد إيردين، "لا يهم التفكير في أيٍّ من هذا الآن... هَيّا بنا إلى القصر."
"لا."
"ماذا؟!" صاحت لارا.
"أخبِر الأم أنني سأجد طريقًا للنجاة من كل هذا... في الحرب، عائلاتُ الدوقات سيُجبَرون أن يكونوا في الطليعة، بسبب مراكزهم. خاصةً دوقيّة برانديل، فهي مواجهةٌ مباشرة مع الشمال."
"هذا سيكون وقتًا جيدًا لإضعافِ الدوقات... وإسقاطهم."
نظر إيردين في عيني نِيفَالِيس قليلًا، ثم تنهد:
"حسنًا... سأُخبِر الإمبراطورة."
"ماذا، إيردين؟ هل حقًا ستوافق على هذا؟ جرّ هذا الوغد متحجر الرأس معنا؟!" قالت لارا بغضب.
"لَارَا، لا تكوني هكذا... أعدك أن آتي إلى القصر بعد كلّ هذا."
ربت نِيفَالِيس على رأسِ لارا بلطف.
"لا يعني لا! هذه حرب، نِيفَالِيس... هذا خطيرٌ جدًا!" قالت لارا بعصبيّة.
"لارا..." ناداها نِيفَالِيس ونظرَ في عينيها مباشرة.
ربت على رأسها مرّةً أخرى، وقال مبتسمًا:
"أعدك أن أعود... قبل كلّ شيء."
ثم أضاف ضاحكًا:
"جهّزي لي إحدى قِصَصِكِ المدهشة... لأستمعَ إليها حين أعود."
احمرّ وجهُ لارا، ولم تستطع الرد سوى بهزّةٍ خفيفة برأسها.
"والآن... عليّ أن أذهب، لقد تأخر الوقت، وأعضاءُ فريقي بانتظاري..."
استدار نِيفَالِيس، وأدّى التحية لإيردين، ولوّح مودّعًا للارا، ثم انطلقَ نحو وسط المدينة.
...
أسرع نيفاليس نحو اتحاد المرتزقة وهو يفكر.
هل يمكن أن يكون ما ظهر... هو نفس الأطلال التي اختفى فيها السيد نوح؟
تسارعت خطواته، وشعور غامض بالقلق بدأ يزحف إلى صدره.
اقترب من مقر القاعدة، مدّ يده ليفتح الباب، وما إن فتحه حتى...
سقط.