الفصل الواحد والأربعون : "يأس في قمة الامل"
"ثمة لحظات...
يُخدع فيها وعيُك، لا لأنك ساذج،
بل لأنّ الأمل ذاته...
يتقن فنّ التمويه."
"تظن أنّ النور قد أخيرًا
لامس جفونك،
تلتقط أنفاسك،
تتجرّع الوهم كأنه نَجاة..."
"لكن الحقيقة،
الحقيقة تنكشف كصفعة،
باردة... صامتة... قاتلة."
"فما حسبته خلاصًا،
كان فخًا مُضاء...
فخًا يقودك لا إلى الحياة،
بل إلى قاعٍ جديد،
أعمق... أظلم... وأقسى."
"هكذا تكتشف...
أن الأمل لم يكن ضوءًا،
بل ظلاً خادعًا في طريق الانهيار."
"في أبهى لحظات الفرح...
يُولد اليأس...
ليُحطّمه."
---
واقفًا هناك، وسط مرج الثلوج، في قلب الدائرة السحرية...
لم يكن هناك ضوء.
لم يحدث الانتقال.
لم يخرجوا من ذلك الجحيم.
بل ما زالوا فيه.
محاصرون، بين وهم النجاة… وواقعٍ لا يرحم.
فيكتور... تمالك نفسك!
صرخت لينا وهي تشتبك مع سرب الوحوش الذي بدأ يحيط بهم من كل الجهات.
لكن نيفاليس لم يجب.
ظل واقفًا كالتمثال، لا يتحرك، كأنّه انفصل عن العالم.
طنين مزعج شق رأسه... ثم ازداد، وازداد.
كل شيء أصبح باهتًا. أصوات رفاقه، صرخات لينا، هدير الوحوش...
لم يعد يسمع شيئًا غير ذلك الطنين.
ضغط كفيه على رأسه بقوة، ارتجف جسده، وانحنى على ركبتيه.
ـ عااااااااااه!!
صرخة مكسورة خرجت من أعماقه.
سيموتون... سيموتون جميعًا بسببي.
الفكرة ضربته كطعنة باردة.
هزّت كيانه، شقّت ثقته، زلزلت كل ما بناه داخله.
ـ فيكتور! فيكتوووووووووور!!
صوت لينا وفليكس يحاولان الوصول إليه.
لكن بلا فائدة...
ظلّ جاثيًا على الأرض، يرتعش، ضائعًا في دوامة أفكاره المشوهة، يلوم نفسه بصمت.
... حتى سمع ذلك الصوت.
ـ رشش!
صوت تمزّق، واضح، قوي، بشع.
ثم...
دماء.
رذاذ دم دافئ تناثر على وجهه ويديه.
الأرض الثلجية صبغت بالقرمزي.
رفع رأسه ببطء.
عيناه اتسعتا.
أنكر ما رآه.
رفض تصديقه.
... لكنها كانت هناك.
ميرا.
كانت تقف بجانبه.
والآن... يد وحشية، سوداء، ضخمة، مليئة بالأشواك، قد اخترقت جسدها من الخلف، وخرجت من صدرها.
ميرااااااااا!!!
صرخ الجميع بفزع.
ميرا نظرت إليه — نحو نيفاليس — وعيناها المرتعشتان ما زالتا تنبضان بالحياة، بالحزن، بالخوف... وبشيء آخر.
لم تَـنـطِق. لم تَصرخ.
فقط ارتجف فمها كأنها كانت على وشك قول شيء ما — شيء أخير — قبل أن تُسحب اليد من جسدها بوحشية، فتهاوت كدمية قُطع خيطها.
انهار أرضًا بجانبه، دون حراك.
لم يستطع نيفاليس تحريك إصبعه.
لم يستطع أن يصرخ.
حتى البكاء خذله.
ذلك الطنين توقف أخيرًا... لكن ما حلّ مكانه كان أسوأ.
صمت مطبق، يشبه الهاوية.
"لا..."
همس بصوت مكسور، بالكاد سمعه هو نفسه.
أمام ذلك المشهد...
تجمّد الزمن.
لم يعد هناك برد...
لم يعد هناك ضوء...
لم يعد هناك أمل.
كل شيء ذاب في الدم.
...
هالة دموية وحشية لفت ذاك الوحش،
ثم بقبضة مليئة بالغضب، لكمته لينا.
لا، الأصح… محته.
ركعت بجانب جسد ميرا، والغضب والحزن باينين على وجهها
لكن فات الأوان.
ميرا... ماتت.
قامت لينا ببطء،
أنتشرت منها هالة حمراء دموية، بشكل وحشي،
كانت مليانة بالغضب،
و...
نية القتل.
انطلقت… واهتزت الأرض.
...
أطلقت لينا غضبها على الوحوش،
وبالمثل، فعل فليكس وغرايف وسيليست.
محو الوحوش.
قتلوا،
ثم قتلوا،
ثم قتلوا،
لكن…
بلا فائدة.
مهما قتلوا من الوحوش،
كان الأمر كطوفان لا ينتهي.
استمرت الوحوش بالظهور،
واستمرت المذبحة.
لكن… لا شيء يستمر للأبد.
على الأقل من ناحيتهم.
ـ اغغغغ!
وحش عملاق من الرتبة الرابعة،
مخالبه اخترقت رقبة سيليست.
تجمد الكل،
الوقت توقف لثانية.
سيليست ترنحت، يداها ارتختا، ثم سقطت على وجهها دون صوت.
والدماء نزفت منها بلا توقف.
لتُعلن بذلك سقوطَ الفردِ الثاني هنا، في ذلك المرجِ...
ـ سيليست؟!!
صرخت…
لكن بلا فائدة.
لا سيليست ستعود للحياة،
ولا جحافل الوحوش توقّفت.
استمرت المجزرة.
استمرت دون أن تُبالي بسقوطهم،
كأنّ موتهم لم يكن أكثر من ومضة،
لحظة عابرة في هذا الجحيم الممتد.
نهضت من مكاني…
بساقين مرتعشتين، وجسد بالكاد يطاوعني.
لكني… نهضت.
أردت أن أصرخ فيهم
أن أوقفهم،
أن أحميهم.
أردت أن أقاتل…
أن أُنقذ من تبقّى.
لكن… بلا جدوى.
لم أكن قادرًا على شيء.
مستنزفٌ حتى النخاع.
لا مانا.
لا قوة في جسدي.
سقطت.
أردت القتال
أردت الصمود
لكن…
جسدي خانني.
سحري رفض أن يتجمّع.
وعقلي…
لم يتوقّف عن لومي.
ثم… جاءت من جديد.
صرخة مكتومة.
كنت أعرفها.
صرخة لم أُرد سماعها مرة أخرى.
لكنها عادت…
ومزّقت كياني من الداخل.
فليكس.
رفعت رأسي ببطء،
جسدي يرتعش بشدّة.
ذاك الفتى الضاحك… الهزلي،
كان واقفًا هناك،
وسط تلّة من الوحوش المحترقة.
لكن بدا أن أحدهم…
قد نجا من نيرانه.
فقد النصف الأيمن من جسده.
تهاوى.
ومعه…
تهاوى جزء من روحي.
لكن حتى فليكس…
لم يوقف طوفان الوحوش سوى لثوانٍ.
ثم… عادت المجزرة.
لم يتأخّر دور غرايف.
في مكانه،
لم يكن هناك أحد.
لا… بل كان موجودًا.
واقفًا،
يغطيه عشرات الأفواه المرعبة…
لقد التهموه.
ثم سقط.
لم يتبقّ سوى اثنين…
أنا، ولينا.
لكن حتى جبروت الرتبة الخامسة
لا يصمد أمام فيضٍ لا ينتهي.
مهما صمدت…
مهما قتلت…
لا فائدة.
فكّرت…
تخيلت صورة ذاك الفتى الصغير
الضاحك،
المتشبّث بيديها.
نوح…
لكن العالم لا يُبالي بالذكريات.
لا رحمة للضعفاء هنا.
سحقًا للعالم.
وسحقًا لأفكاره.
عندما اخترق مجسّان بطن لينا
سقطت.
سقطت بسرعة مرعبة.
ثم…
غطّاها سيل الوحوش.
ولم يُسمع لها صوت بعد ذلك.
في ذاك المرج الأبيض…
لم يتبقَّ أحد.
أنا فقط.
بجسدٍ مرتعش،
ودموع منكسرة،
أنتظر لحظتي.
.
.
.
لكن الموت… لم يأتِ.
رفعت رأسي ببطء.
كان هناك.
وحش الرتبة الخامسة.
واقفًا أمامي…
يبتسم.
كأنّه…
يتلذذ بمنظري.
ثم…
أسودّ العالم.