الفصل الثالث والأربعون: "اللؤلؤة المحطمة"
كان ممددًا على الثلج، عيناه مفتوحتان بلا رمش، وقد فقدتا نورهما كليًا، تحدقان في اللاشيء بصمتٍ مخيف، كأن روحه قد انتُزعت من جسده وتركته صدفةً خاوية بين أنياب الصقيع.
..
أسودّ العالم مرةً أخرى.
شعرت وكأن جسدي يغرق في هوّة لا قرار لها، حيث لا نور، ولا صوت، ولا حتى ألم.
كل جزءٍ من كياني كان يُبتلع ببطءٍ داخل همسات الفراغ الصامت.
أغوص أعمق... وأعمق...
كأن الظلام نفسه قد أطبق عليّ، يبتلعني بنهم.
لماذا؟
لماذا حدث كل هذا؟
فكرت بشيءٍ من السخرية المرة:
هل كنت أظن نفسي أحد أولئك العظماء الذين قرأت عنهم في الكتب؟
هاه...
محض وهم.
أنا لست إلا فاشلًا.
ضعيفًا.
تافهًا.
لم أذهب إلى القصر كما كان ينبغي.
لم أحذرهم.
لم أفعل شيئًا سوى التحديق في النهاية كأحمقٍ عاجز.
تركتُ نفسي تُسحب أكثر... وأكثر... إلى قاع الظلام.
حتى جاءت تلك الكلمة.
"مخيّب للآمال."
كلمة واحدة...
ممتلئة باحتقارٍ عارم.
كلمة واحدة، انبعثت من اللامكان،
ارتجف لها كياني كله.
اهتز الظلام من حولي، وكأن صدى تلك الإهانة شطره نصفين.
ثم...
اختفى الظلام فجأة.
شهقتُ بعنف، كمن انتُزع من قاع الموت.
لهاثي كان متقطعًا، وعيناي المرتجفتان تائهتان بين بقايا الثلج المحيط بي.
ذكريات رهيبة اجتاحت عقلي كطوفان هائج.
مشاهد متداخلة من موت ثم موت ثم موت... بلا نهاية، بلا أمل.
صرخة مكتومة تصاعدت داخلي، وكادت تمزقني قبل أن تصل إلى شفتيّ.
"أ...نهض..."
همست لنفسي، بصوت بالكاد سمعته:
خرجت الكلمة منّي بصوت أجش، جوفاء، مخيفة…
"عليّ أن... أنهض... عليّ أن أبحث عنهم..."
لم تكن مجرد رغبة، بل نداء يائس… آخر خيط يربطني بما تبقى من وجودهم، ووجودي.
حولت الوقوف، لكن بلا فائدة، جسدي كان كالجبل الراسخ، عاجزًا عن التحرك.
أغغغغغغغ!
ضربني ألمٌ شديد، اجتاح جسدي وروحي.
كل عضلة، كل وتر، كل مفصل.
شعرت أنهم يتمزقون آلاف المرات.
ااااااااااااااااااا!
صرخت صرخة مرعبة.
لم أستطع أن أتحمل الألم، وفقدت وعيي.
...
...
أستيقظت.
ااااااااااااا!
صرخة أخرى خرجت مني.
جسدي ما زال مستمرًا في التمزق.
أغمي على مرة أخرى...
...
...
لا أعرف كم مرة حدث هذا.
أستيقظ، أصرخ، أغشي.
تكررت تلك العملية عشر المرات على الأقل.
لم يكن الألم جسديًا فحسب، بل كان وكأن شيئًا داخلي يُسحق مع كل صرخة.
...
لم أعد أستطيع الصراخ.
حنجرتي قد تضررت كثيرًا.
لم يعد يخرج مني سوى صوتٍ مبحوح، متألم.
---
أستيقظت ببطء.
جسدي ما زال يتألم، لكن ليس كما كان في البداية.
"ع... عَليَّ أ... أن أجدهم..."
سحبتُ جسدي من على الثلج، لكن بلا فائدة، لم يتحرك.
ظللتُ ممددًا على الثلج في مكاني لساعات.
حاولتُ مرة أخرى أن أقوم، وفعلت، حتى وإن كان إلى المنتصف فقط.
جررتُ نفسي عبر الثلج وأنا أتمتم.
"علي العثور عليهم..."
أنكرتُ موتهم.
إذا كنتُ أنا على قيد الحياة، فلماذا لا يكونوا هم كذلك؟
أقنعت نفسي بهذا.
---
رفعت رأسي ببطء.
رأيت شيء في الأفق على مسافة ليست بعيدة عني.
لكن عينيّ لم تسعفاني.
كنت مجهدًا، ولا أملك ذرة مانا. روحي تئن من الألم.
دفعت نفسي نحو الهدف في الأفق.
استغرق الأمر أكثر مما ينبغي لقطع تلك المسافة.
لكن أخيرًا، وصلتُ، وفوجئت.
لقد كان حطامًا.
على ما يبدو، حطام مدينة.
دخلت المدينة المحطمة بعيون تتسع من شدة الارتباك والحيرة.
"...هذه؟"
"إحدى مدن الشمال؟"
وقفتُ وحدي بين الركام، وسط أرض غريبة تحولت إلى مقبرة مفتوحة.
لم أزر الشمال من قبل، لكنني قرأت عنه، سمعت عنه، تخيلته.
الحجارة البيضاء، والثلوج الطاهرة التي تغطي الأرض ككفن سماوي… كانت دائمًا رمزًا لمدن الشمال.
لكن هذا…
هذا كان شيئًا آخر.
المكان لا يشبه شيئًا رأيته في حياتي.
كأن المدينة تنفست موتها الأخير لتوّها.
كل شيء حولي محطم، متشقق، ساكن… كأن الزمن نفسه توقف.
كنت أتنفس بصعوبة، وكل خطوة أخطوها تشعرني كأن جسدي ينزف من الداخل.
روحي تئن…
توسوس لي أن أجلس، أن أرتاح.
لكن شيئًا ما في قلبي كان يرفض.
كان هناك نداء، خافت، لكنه واضح…
كأن شيئًا ما ينتظرني.
واصلت السير.
دقائق تمر ببطء.
صوت الثلج المتهشم تحت قدمي، ونبضي الثقيل، هما اللذان يملآن الصمت.
ثم… رأيته.
بقايا هيكل عظيم ينهض من بين الخراب.
قبة ضخمة، رغم نصفها المتهدم، لا تزال تشي بعلوّها وهيبتها.
أعمدة شاهقة متشققة، بعضها سقط واندفن في الثلوج، وبعضها ما زال واقفًا، متحديًا الريح الباردة والخراب.
بوابة حجرية عملاقة، انحنت بفعل الزمن والكوارث، لكنها رغم ذلك تحمل على سطحها نقوشًا باهتة… رموز قديمة تلوح كبصمة تاريخية لا تُمحى.
على الأرض، كانت شظايا التماثيل المكسورة متناثرة حول الساحة، وكل قطعة منها تنطق بعظمة مَن بنى هذا المكان.
رغم الخراب الشامل، كان هناك شعور ثقيل… رهبة لا تموت. كأن الأنقاض نفسها تحفظ ذكرى أيام المجد.
كان يمكن أن يكون معبدًا مبهرًا…
لولا ما حدث له.
تسمرتُ مكاني، وعيناي تتسعان شيئًا فشيئًا.
"المعبد الأعظم...؟"
تمتمتُ، والصقيع لم يكن سبب الارتجاف الذي اجتاحني.
وفجأة…
أدركت.
هذه المدينة…
ليست مجهولة.
ليست عادية.
إنها إلثرين.
لؤلؤة الشمال المقدسة…
عاصمة الشمال، مدينة الإيمان، الجوهرة التي لا تسقط.
لكنها سقطت.