44 - نبوءة مولود الرماد

الفصل الرابع والأربعون "نبوءة مولود الرماد"

واقفًا أمام ذاك الحطام، نظرتُ حولي مجددًا... لا شيء سوى الخراب.

الشمال... المعبد الأعظم... وكأن العالم كله اتفق على تحطيمي في تلك اللحظة.

ضربني إدراك مرعب كصفعة باردة:

الحرب... قد قامت.

لم أقوَ على دعم نفسي أكثر، فسقطتُ على ركبتيّ.

الشمال قد سقط.

لكن هذا لم يكن ما يهم الآن.

ماذا عن المملكة؟

ما مدى الضرر؟

هل كان انتصارًا من جانب واحد؟

مستحيل...

الشمال يملك المطران الأبيض... رجل في قمة المرتبة الخامسة، بل وحش قديم، عاش منذ حرب الدم والمصير.

هو وحده كفيل بجعل المملكة تتردد ألف مرة قبل أن تقدم على شيء كهذا.

وإلى جانبه، كهنة النور الأربعة... كل واحد منهم يقف عند بداية المرتبة الخامسة.

مستحيل أن يسقط الشمال دون ثمن.

مستحيل أن يبقى الجنوب متفرجًا.

لا بد أن أعود.

أسرعتُ بالوقوف، مستجمعًا بقايا قوتي.

لكن، ما إن استدرتُ... حتى تسمرتُ مكاني.

كان هناك شيء.

نداء خافت، لم يكن صوتًا... بل شعورًا زاحفًا، يمسك بقلبي بقبضة خفية.

شعور ينبعث من أعماق المعبد.

لم أستطع أن أخطو خطوة واحدة إلى الأمام.

..

لم أستطع أن أخطو إنشًا واحدًا إلى الأمام.

تبا لهذا...!

جززت على أسناني، وأطبقت قبضتي بقوة، مستندًا بجسدي المرتجف محاولًا السيطرة على انهياري.

بقيت واقفًا في مكاني، كأن الأرض قيدتني بسلاسل غير مرئية.

مرت دقائق عديدة... لا أعرف ماذا أفعل.

لم يكن لدي خيار أصلًا.

أعدت تقييم حالتي مجددًا، ويا ليتني لم أفعل.

قدماي لا تزالان ترتجفان، ترفضان حملي.

روحي كانت تئن بمرارة، تتمزق بين الرغبة في الهروب وبين واجب المواجهة.

كل عضلة في جسدي تحترق وكأن نيرانًا خفية تلتهمني من الداخل.

أنفاسي ثقيلة، متقطعة، كأن الهواء ذاته صار عدوًا لي.

تنهدت بمرارة.

لا أملك خيارًا آخر.

استدرت ببطء، وجررت قدميّ المثقلتين إلى الأمام، متجهًا إلى داخل حطام المعبد.

عبرت البوابة المحطمة بصعوبة؛ كان المكان مجرد ركام مبعثر.

واصلت التقدم وسط الأنقاض، وكل خطوة كانت معاناة بحد ذاتها.

وللمفارقة، بعد نصف ساعة من العذاب، وجدت ممرًا...

كان من الغريب حقًا أن يبقى ممر كهذا سالمًا وسط ذلك الدمار.

صحيح أن الممر كان متهدمًا جزئيًا، لكنه كان أفضل بكثير من البقاء في الخارج.

سرت فيه لما يقارب عشر دقائق أخرى... حتى وصلت إلى نهايته.

وهناك، ذهلت بشدة مما رأيت.

كانت الغرفة على هيئة قبة بيضاء، نقية، وكأنها قطعة مقتطعة من عالم آخر.

لا غبار هنا، لا شقوق، لا أثر للدمار...

فقط النقاء الصامت ينساب فوق الجدران المنحنية بلطف نحو القبة.

وفي وسط الغرفة، كان هناك تمثال.

تمثال أبيض، يشع بهالة من النور النقي.

اقتربتُ منه ببطء، أشعر بثقل خطواتي وسط هذا الصمت المقدس.

كان التمثال لامرأة.

جميلة؟ لا... كلمة "جميلة" تبدو باهتة ومبتذلة أمامها.

كانت مهيبة، ساحرة بطريقة تخطف الأنفاس، كأنها لحن صامت يعزف مباشرة على أوتار الروح.

وقفت هناك، فاغرًا فمي، أحدق إلى الأعلى نحو ملامحها، غير مصدق أن شيئًا من حجر يمكن أن يبعث كل هذا الإعجاب في قلبي.

لم أظن يومًا أنني سأقف، مسلوب الإرادة، أمام تمثال... وأشعر أنني لا أستحق حتى النظر إليه.

..

استفقت من ذهولي بعد بضع دقائق.

نظرت حولي مجددًا، ولا زالت الدهشة تسيطر عليّ.

ما شدّ انتباهي أكثر، خلف التمثال، كانت ثلاث لوحات حجرية منحوتة على الجدار خلفه.

وفوقها، بخط واضح وجميل، كُتبت جملة واحدة كبيرة:

"نبوءة مولود الرماد"

قرأت العبارة وأنا أقطب حاجبي...

واو... يا لها من جملة قاتمة ومتشائمة بجدارة.

وفوق ذلك... إنها نبوءة.

زفرت ببطء، وتقدمت أكثر ناحية أول لوح على اليمين...

وبدأت أقرأ الكلمات المنحوتة عليه.

في سالف العصور، حين تصدّعت أركان العالم واهتزّت أُسُسه، اندلعت حربٌ لا تُشبِهها حرب، بين ملوك العالم العظام و الفراغ. كان العالم آنذاك يموج بالفوضى، والسماوات تعجّ بصيحات المعركة، حتى تحوّلت القارة إلى ساحةٍ تُروى عنها الأساطير، حيث تواجه إمبراطور السحر الأعظم وأحد قادة الفراغ في صراعٍ هزّ الوجود ذاته.

"وعلى أرضٍ كُتب عليها أن تكون مذبحة للأقوياء، تقابل الاثنان… الحاكم المتوّج بالسحر الأعظم، والظل الذي لا اسم له، قائد الخراب الذي لا بداية له ولا نهاية."

"تزلزلت الأرض بما رحُبت، وتشققت السماوات كأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة، تصرخ رعودًا تُمزق صمت الأبد. الجبال انحنت، والبحار فاضت بغضبٍ أسود، بينما تداعت النجوم في الأعالي، تراقب ما لا يجب أن يُرى."

"وفي النهاية… حين اختلطت الأنفاس بالدخان، وسقطت الأجساد دون أن تترك ظلالًا، رفع الإمبراطور الأعظم يده، حاملاً في راحته إرث الأزمان الغابرة، ليُغلق الباب على الفراغ إلى الأبد."

"لكن حين سُدّت البوابة… لم يُسمع صوت النصر، بل خيّم الصمت. الإمبراطور، رغم جراحه التي أرهقته، كان لا يزال واقفًا. قوته لم تتلاشَ بعد، وكان بإمكانه أن يشفى… لكنه لم يفعل."

"لأنه حين رفع عينيه إلى العالم، لم يجد عالمه."

"كانت يداه قد حافظتا على وجود هذا العالم، لكنهما فشلتا في إنقاذ الشيء الوحيد الذي منح لهذا الوجود معنى. وقف بين الركام، ينظر بلا عينين، يسمع بلا أذن، يتنفس بلا حياة. وفي لحظة خافتة، استسلم، لا لضعفه، بل لما لم يعد له وجود."

"فأغمض عينيه، وترك جسده يسقط."

"وهكذا… فقد العالم أحد ملوكه… ولم يبقَ منه سوى أثرٌ لا يراه إلا من وُلد من رماد الحريق الأخير."

؟؟؟

2025/04/27 · 6 مشاهدة · 781 كلمة
Xx_Adam_xx
نادي الروايات - 2025