"…إيرين؟"

لكنّه سرعان ما أزاح ذلك الاسم من عقله، مصنفًا إياه كحلمٍ غريب لا أكثر، ودفنه في زاوية منسية من ذاكرته.

---

تمطيتُ بجسدي مطًّا طويلاً.

في تلك الليلة، بعدما تلقيت علاجًا مناسبًا لحروقي في يدي اليمنى في غرفة التمريض، وتم تطهير آخر ما تبقى من سمّ الوحش في دمي، تعافى جسدي بشكل مقبول. عدت إلى مقرّ الفرسان. لعلّ الوقت كان قد تجاوز الثانية صباحًا. يبدو أن أخبار بعثة التصفية لم تصل بعد إلى الجميع. كانت الممرات تغوص في صمتٍ ثقيل.

استحممت لأول مرة منذ زمن، ثم بدّلت ثيابي إلى قميص فضفاض وسروالٍ مريح، وتمددت على السرير.

لكن ما إن أغمضت عيني، حتى بدأت صور ما حدث تتسلّل إلى ذهني واحدة تلو الأخرى. رؤوسٌ مقطوعة تتدحرج على الأرض، وأقدامٌ تدوسها وسط فوضى الجحيم.

لم أشعر بالقرف ذاته الذي اجتاحني وقتها، فقد تجاوزت الخطر، لكنّ النوم أبى أن يزورني.

نهضت في النهاية من السرير. نويتُ أن أتمشى قليلًا على مهل.

حينها، طرقٌ خفيف دوّى على الباب.

"إنه أنا."

كان صوت ولي العهد من خلف الباب. أسرعت أخرج ضمادة جديدة ولففت بها صدري. وبيني وبين نفسي، صفّفت شعري القصير بأصابعي قبل أن أمشي نحو الباب.

فتحته، فوجدته واقفًا أمامي، ينظر إليّ من علٍ.

"هل كنت نائمًا؟"

سألني بنبرة فيها تردّد، وكأنّه ندم على قدومه. أومأت نافيًا.

"أعلم أنّك مرهق، لكن... هل تودّ أن تتمشى معي قليلاً؟"

قالها بتحفظ، كما لو كان يترك لي كامل الحرية في الرفض. كانت ملامحه تبدو مضطربة، كما لو أن شيئًا ما يثقل على صدره.

وإن كان ما مررنا به قد يترك ندوبًا في أي شخص عادي، فولي العهد لا بدّ أنه يعاني مثله أو أكثر. أومأت برأسي موافقة.

في ردهات القصر التي أضاءتها مصابيح باهتة في هذا الليل المتأخر، لم يكن هناك سوى وقع خطواتنا. خرجنا من الباب الأمامي في الطابق الأول، فاستقبلتنا نسائم منعشة.

حدّقنا قليلًا في السماء المتلألئة بالنجوم، قبل أن نتجه نحو حديقة صغيرة مزينة بعناية.

لم نتبادل أي كلمات. لكنّ الصمت لم يكن ثقيلًا.

في الواقع، مجرد وجود شخص آخر قد عايش نفس المذبحة بقربي، كان كافيًا ليشعرني ببعض الطمأنينة.

ترى، هل شعر هو بالمثل؟

نظرت إليه بطرف عيني فرأيته أخف وجهًا ممّا كان عليه حين التقيته على الباب.

"في الماضي..."

كان يتأمل الزهور المزروعة حين نطق فجأة بصوت خافت. ثم نقل نظره إليّ.

"شربت ماءً مسمومًا من بئر، ثم حوصرت في زقاق مسدود وهاجمني عشرات القتلة. كنت واثقًا أنني سأموت."

توقفنا عن السير ونظرنا إلى بعضنا.

"وحدث الأمر ذاته حين انهار نفق تحت الأرض ووجدت نفسي محاصرًا في داخله."

"……"

"لكن أسوأ ما مررت به كان عندما حوصرت في معبد وبدأت الوحوش تتدفق بلا توقف نحوي... لم أرَ بصيص أمل حينها."

استمعتُ إليه بصمت. بدا أنني مررت معه بكثير من هذه المخاطر، رغم أنّ مدة لعبي معه لم تتجاوز الثلاثة أشهر.

"آسف لأن أول تجربة لك في بعثات التصفية كانت هكذا. لكن بفضلك... أنا ما زلت حيًا. أريدك أن تعرف هذا فقط."

مددت يدي لا شعوريًا نحو جيبي أبحث عن دفتري الصغير لأرد عليه، ثم تذكرت أنني لم أجلبه معي.

فوجئت به يمد يده اليمنى نحوي، كأنّه يدعوني للكتابة على كفّه.

كانت يدًا قوية، غليظة الجلد، مثقلة بالندوب، آثار سيوفٍ وتدريب. وضعت يدي على راحته، وقد بدت ضئيلة للغاية أمام كفه.

ثم بدأت أكتب، ببطء، حرفًا بعد حرف:

"أ، ن، ا، ب، خ، ي، ر."

فهم ما كتبته، وابتسم ابتسامة صغيرة.

"...هذا يشبهك تمامًا."

هاه؟

اهتز قلبي بعنف. حاولت إخفاء ارتباكي بركل حجرٍ صغير كان قرب قدمي. طار الحجر في الهواء وسقط بصوت مكتوم.

ولي العهد نظر إلى اتجاه الصوت وقال:

"ما هذا؟ هل انت قاتل مأجور؟!"

أنا! أنا يا رجل! لست قاتل ولا حاجة!

لوّحت بذراعي بعنف ونفيت برأسي، بينما هو ينظر إليّ مستنكرًا.

"...أنتِ؟"

أطرقت رأسي خجلًا.

تصرّفي بهدوء... تذكّري صيحات الموضة الأخيرة، النبلاء يفضلون الرجال الهادئين المنزليين هذه الأيام...!

عاودنا السير معًا. وفي غمرة الارتباك، نسيت تمامًا اضطراب قلبي قبل لحظات. وصلنا إلى النقطة التي بدأنا منها في الحديقة الصغيرة. وعدنا إلى مدخل مقرّ الفرسان.

"هل ما زال هناك شيء يؤلمك؟"

هززت برأسي نافية، لكن حينها فقط تذكرت أنّه كان يعاني من الحمى وقتها.

رفعت يدي دون تفكير ووضعتها على جبهته فوق خصلات شعره السوداء. لم أشعر بوضوح، فوضعت الأخرى على جبهتي للمقارنة.

لم أجد أثرًا للحمى. أنزلت يدي وأنا مرتاحة البال.

لحظة، كأنّه همّ بقول شيء. فتح فمه قليلًا... ثم أغلقه.

"……."

رفعت رأسي ونظرت إليه. بدا أن عينيه تهتزّان قليلًا في ضوء القمر.

"أنتِ..."

لكنّه لم يُكمل.

هل توهمت؟

استدار ومضى مبتعدًا، خطواته تذوب في الليل.

تثاءبت، وأدركت أن النعاس بدأ يتسلل إليّ.

ربما رأيتُ خطأ.

رجعت أنا أيضًا إلى غرفتي.

---

أحدثت حادثة بعثة التصفية ضجة كبيرة في الصحف لعدّة أيام. وبعد أسبوع من عودتنا إلى القصر، عُقد مجلس طارئ موسّع.

فقد كاد ولي العهد يلقى حتفه. والأسوأ أنّها لم تكن المرة الأولى، إذ سبقها حادثة في دورية مدنية منذ أقل من شهر.

على جانبي القاعة، اصطفّ النبلاء المعروفون. وقد وصلت الأخبار الكبرى إلى كل أرجاء البلاد.

لفت انتباهي دوق هايدنبرت. شعره، الذي كان منسدلًا بأناقة، صار أبيض بالكامل، لكنه لا يزال يملك جسدًا قويًا، كما يُشاع عن كونه قاد يومًا إحدى فرق الفرسان.

كان واضحًا أنه المتهم الأول وراء كل ما حدث، ومع ذلك، كان واقفًا بثقة لا توصف.

لا أدلة قاطعة بعد، إذن...

كاد الغضب يخنقني، لكن لم يكن بوسعي شيء. ابتسمت بسخرية.

لم يدخل الإمبراطور بعد. جلس كل من ولي العهد والأمير الأول على المنصة، بينما كنتُ أنا وفارس آخر نقف أسفلهم للحراسة.

"صاحب السمو، متى يحضر جلالته؟"

سؤال فجّ أطلقه دوق هايدنبرت في صمت القاعة. خفض ولي العهد عينيه نحوه بنظرة باردة، فيما رفع الدوق نظره دون أن تتغيّر ملامحه. كان ماكرًا كالثعالب.

"دوق، يبدو أنك بحاجة إلى تعلّم الانتظار بصبر."

قالها ولي العهد بصقيعٍ ظاهر.

"معذرة، رغم تقدّمي في العمر، لم أتعوّد عليه بعد."

"لا بأس... لعلّ لذلك حدث ما حدث."

كان كلامه كسكين مغروسة في قفاز مخملي. على السطح يبدو كتعليق عابر، لكنه في جوهره تلميح ساخر لمحاولتي الاغتيال في وقت قصير.

ومع ذلك، حافظ الدوق على هدوئه.

ثم فُتح الباب.

دخل الإمبراطور والإمبراطورة، يرافقهما حرسٌ فتحوا الأبواب على الجانبين.

في لحظة، انحنى الجميع بخشوع:

"تحيتنا للسماء."

"تحيتنا للسماء!"

وفي خلفية المشهد، رأيت وجهًا مألوفًا.

امرأة، لكنها لم تكن ترتدي فستانًا مثل الإمبراطورة، بل كانت ترتدي زيًّا يشبه البدل الرجالية.

اختيارها للملابس في هذا المجتمع لم يكن جرأة فقط، بل إعلان تحدٍّ... وكانت تلك المرأة هي كيرا.

ما الذي تفعله هنا…؟

اعتلت كيرا المنصة برفقة الخدم، ووقفت إلى جانبي. جلس الإمبراطور في مقعده، ونادى بصوته الجهوري:

"ارفعوا رؤوسكم. شكرًا لاستجابتكم للدعوة الطارئة."

ساد صمتٌ ثقيل.

تابع الإمبراطور:

"كما تعلمون، البعثة التي غادرت مؤخرًا للأسف لم يعد منها أحد سوى ولي العهد والسيدة إيرين. نُحيّي من قضوا دفاعًا عن الإمبراطورية، وسنبني لهم مدفنًا داخل القصر، مع تعويضات كاملة لعائلاتهم."

نظرت إلى كيرا بطرف عيني، متسائلةً بوضوح: "لماذا أنتِ هنا بحق الجحيم؟"

ضحكت بصوتٍ خافت وهمست:

"لو أخبرتك مسبقًا، أين المتعة في ذلك؟"

يالها من…!

عبستُ في وجهها، لكن الإمبراطور تابع حديثه، وصوته يملأ القاعة من جديد.

"لكن، وللأسف الشديد... لم نتمكن من استرجاع جثثهم. إن عملية جمع الرفات تتطلب بقاء معظم الفرسان في القلعة، ولا يمكننا المجازفة بإرسالهم إلى تلك الأراضي البعيدة وترك القلعة خالية، أليس كذلك؟ أن نعجز حتى عن جلب جثامينهم... شعرت بعجزٍ مرير. لذا، قررت هذا العام أن أزيد عدد المجندين من الفرسان بنحو ثلاثين. وإن كان بينكم من يعارض، فليُفصح بحرّية."

كان من المعروف أن النبلاء لا يرحبون بتعاظم سلطة العائلة الإمبراطورية. ولهذا كان من المفترض أن يعارضوا هذه الزيادة بحجة الأعباء الضريبية، لكن طالما أن للقرار مسوّغًا مقبولًا، لم يكن من السهل المجاهرة بالرفض.

وبينما تبادل النبلاء نظراتهم متردّدين، تقدّم الدوق مجددًا وتحدّث:

"قرار حكيم يا جلالتكم."

"كنت أعلم أن دوقنا سيفهم موقفي. إذًا، سأعتبر ذلك موافقة. وقبل أن أخوض في تفاصيل الحادثة، أود أن أتحدث بشأن معاملة اللورد إيرين."

…هاه؟

ما إن نادى باسمي، حتى رفعت رأسي تلقائيًا ونظرت إلى الإمبراطور، الذي ابتسم لي بحنان وأشار بيده لأصعد إليه.

أخفيت اضطرابي بخطوات ثابتة فوق البساط، وصعدت إلى المنصة. لم أكن أعلم ما يجري، لكني ركعت على ركبة واحدة، كما تقتضي الأعراف. عندها، نهض الإمبراطور من مقعده وقال:

"لقد أظهرتَ شجاعةً عظيمة في حماية ولي العهد أثناء حملة المطاردة، وأسهمت بعودة الفرقة سالمين. لذلك، أمنحك لقب فيكونت، وأُهديك أراضي مقاطعة سيلدن الجنوبية. من قلب أبٍ أنقذت ابنه... أشكرك جزيل الشكر."

ثم أمسك بيدي وأقامني، ونظره يفيض دفئًا وامتنانًا.

شعرت بوخز ضمير خفيف، فقد كنت للتو أفكّر: "هل سيصبح اسمي الكامل إيرين سيلدن الآن؟ لا يعجبني هذا الإيقاع أبداً..."

عدت إلى مكاني دون أن أنبس بكلمة.

"...والآن، لندخل في صلب الموضوع. حسب شهادة ولي العهد، وقبل أن يهاجمهم الوحش، سقط عدد من الفرسان أرضًا وهم يتقيؤون دمًا. قيل إن الطعام كان مسمومًا. والأسوأ من ذلك، أن المعالجَين اللذين تولّيا توزيع الطعام انتحرا فورًا في ذات المكان. مما يجعل الأمر محاولة اغتيال واضحة تستهدف أحد أفراد العائلة الإمبراطورية."

سرت همهمة بين النبلاء إثر هذه المعلومات الصادمة، وتسللت من صفوفهم عبارات كاذبة من قبيل: "يا إلهي، أهذا معقول؟!" تنبع من نفس الفئة التي يُشتبه بها.

"لم يمضِ وقت طويل منذ آخر محاولة اغتيال... ورغم أنني ما زلت أودّ أن أصدق أن الجاني ليس من بيننا، فإن هذه المرة، لا بد من التحقق دون تهاون. حتى الأمير الأول، أرمين باالد، يخضع للتحقيق نظرًا لأنه فقد فرصة أن يكون ولي العهد، ما يمنحه –نظريًا– دافعًا كافيًا. لذا، أطلب تعاونكم الكامل، أيها النبلاء."

الأمير الأول الذي أعرفه لم يكن ليقدم على شيء كهذا. بل كان أول من رفض لقب ولي العهد منذ البداية. وهذا أمر تدركه العائلة الإمبراطورية جيدًا، لذا بدا هذا الاتهام وكأنه مجرّد استعراض.

كما لو أن الإمبراطور يقول: "إذا كان حتى الأمير رهن التحقيق، فهل تظنون أنكم في مأمن من ذلك؟"

وتمامًا حين بدأت أتساءل عن سبب وجود كيرا هنا تحديدًا، سُمِع اسمها يُنادى.

"وبالإضافة إلى ولي العهد، فقد قمنا بتعيين قائد مؤقت للتحقيق، شخص من خارج القصر، يُدعى كيرا، وهي زعيمة نقابة الأجنحة. وقد ساهمت كذلك في عودة ولي العهد سالماً، لذا استحقّت هذا التقدير. كنا نعتزم منحها لقبًا أيضًا، لكنها رفضت بشدة."

"لكن، مولاي... كيف نأتمن شخصًا بلا صلة بالعائلة، بل امرأة، على مثل هذا التحقيق؟"

"حين أجد نفسي مضطرًا للارتياب حتى في أفراد دمي، فربما يكون الغريب... هو الشخص الوحيد الذي أستطيع الوثوق به حقًا."

2025/08/13 · 7 مشاهدة · 1619 كلمة
Jojonovesl
نادي الروايات - 2025