# الفصل الثامن والثلاثون:
كانت الأكاديمية قد تحولت إلى غابة من المرايا المحطمة، كل شظية تعكس جزءًا مشوهًا من حقيقتي، أو من الحقائق التي أراد الآخرون رؤيتها فيّ. صوت القلادة البارد كان يتردد في ذهني كصدى دائم، يمتزج بأصوات الماضي التي بدأت تطفو على السطح بشكل متزايد، ليس فقط كذكريات مؤلمة، بل كأشباح حية تتراقص في زوايا وعيي.
الصراع الداخلي الذي كنت أحاول قمعه بقوة بدأ يجد شقوقًا ليتسرب منها. لم يعد الأمر مجرد همس خافت من "أليكس القديم"، بل أصبح أشبه بمواجهات داخلية عنيفة. في بعض الأحيان، عندما أكون وحدي، كنت أرى انعكاسي في نافذة مظلمة أو سطح مصقول، ولم أكن أتعرف على الشخص الذي يحدق بي. كانت عيناه باردتين كالثلج، وملامحه قاسية كالصخر، لكن خلف هذا القناع، كنت ألمح وميضًا من اليأس، من الحنين إلى شيء مفقود.
"من أنت؟" كنت أسأل هذا الانعكاس أحيانًا، وصوتي يخرج أجشًا وغريبًا. "هل أنت أنا حقًا؟ أم أنك مجرد وحش خلقته القلادة؟"
القلادة كانت ترد دائمًا بنفس البرود: "أنا قوتك. أنا حقيقتك. الماضي مجرد وهم، والضعف هو الخطيئة الوحيدة".
لكن أصوات الماضي لم تكن مجرد وهم. بدأت أرى وجوهًا من حياتي السابقة في أحلامي، وفي لحظات اليقظة أيضًا. وجوه أولئك الذين كانو يضحكون علي، أولئك الذين تسببوا في معاناتي. لكن أيضًا، وبشكل مفاجئ ومقلق، بدأت أرى وجوهًا أخرى. وجوه أشخاص ربما أهملتهم، أو أسأت فهمهم. وجوه بدت وكأنها تحمل حزنًا أو خيبة أمل بسببي.
كان هذا الجزء الأخير هو الأكثر إزعاجًا. لم أكن أريد أن أشعر بالذنب أو الندم. كانت هذه مشاعر ضعف، مشاعر كان عليّ التخلص منها. لكنها كانت تلتصق بي كظلال عنيدة.
في خضم هذا الاضطراب الداخلي، ظهرت شخصية جديدة في حياتي، أو بالأحرى، شخصية كانت موجودة على الهامش بدأت تفرض نفسها. كانت طالبة هادئة ومنعزلة تدعى لونا. لم تكن من بين البطلات المهووسات بي بشكل علني، ولم تكن تتمتع بجمال إيلارا أو قوة سيلينا أو غموض ليليث. كانت بسيطة، ذات شعر بني باهت وعينين رماديتين كبيرتين تحملان نظرة حزينة وفهمًا غريبًا.
كنت أراها أحيانًا في المكتبة، أو في زوايا منعزلة من الأكاديمية، دائمًا وحدها، ودائمًا تحمل كتابًا أو دفتر رسم. لم تحاول الاقتراب مني أو التحدث إليّ، لكنني لاحظت أنها تراقبني أحيانًا، ليس بنظرات الهوس أو الخوف التي اعتدت عليها، بل بنظرات فضول هادئ، وكأنها تحاول فهم شيء ما فيّ.
في إحدى المرات، كنت جالسًا تحت شجرة قديمة في حديقة الأكاديمية، أحاول تهدئة العاصفة التي كانت تدور في رأسي. اقتربت مني لونا ببطء، وجلست على مسافة ليست بعيدة. لم تقل شيئًا لعدة دقائق، واكتفت بالنظر إلى السماء. ثم، بصوت هادئ وخافت، قالت: "الأصوات عالية جدًا اليوم، أليس كذلك؟"
نظرت إليها ببرود، متوقعًا نوعًا من المحاولة الساذجة للتعاطف أو التقرب. "لا أعرف ما الذي تتحدثين عنه".
ابتسمت ابتسامة باهتة. "أنا أتحدث عن الأصوات التي لا يسمعها الآخرون. أصوات الماضي، أصوات الظلال، أصوات القلوب المحطمة". نظرت إليّ مباشرة، وعيناها الرماديتان تحملان عمقًا مفاجئًا. "أنا أسمعها أيضًا".
كانت هذه مفاجأة. لم يتحدث معي أحد بهذه الطريقة من قبل. لم يدّع أحد أنه يفهم هذا الجزء مني، هذا الجزء الذي كنت أحاول إخفاءه حتى عن نفسي.
"وماذا تقول لكِ هذه الأصوات؟" سألت، والفضول يتغلب على برودي المعتاد.
"تقول لي إن العالم مكان معقد، وإن كل شخص يحمل ندوبه الخاصة"، قالت لونا. "وتقول لي إن المرايا التي نراها أحيانًا تكون محطمة، وتعكس صورًا مشوهة لأنفسنا وللآخرين".
كانت كلماتها كأنها تصف بالضبط ما كنت أشعر به. "مرايا محطمة". هذا هو بالضبط ما كان عليه عالمي الداخلي.
"هل أنتِ ساحرة أيضًا؟" سألت، على الرغم من أنني لم أشعر بأي هالة سحرية قوية تنبعث منها.
هزت رأسها. "لا بالمعنى التقليدي. أنا فقط... أرى وأسمع أشياء لا يراها ولا يسمعها الآخرون. إنها هبة، أو ربما لعنة. لا أعرف".
لم تكن لونا تحاول إثارة إعجابي . لم تكن تطلب مني شيئًا. كانت فقط... تتحدث. وبطريقة ما، كان حديثها الهادئ والصادق يخترق دفاعاتي أكثر من أي محاولة أخرى.
القلادة كانت صامتة بشكل غريب أثناء حديثي مع لونا. لم تكن تهمس بموافقتها أو اعتراضها. كان هذا مقلقًا ومريحًا في نفس الوقت.
في هذه الأثناء، كان هوس البطلات الأخريات يصل إلى مستويات جديدة من الخطورة. سيلينا، مدفوعة بالغيرة واليأس، بدأت تستهدف ليليث بشكل مباشر. لم تعد مجرد مشاحنات كلامية أو نظرات حادة. في إحدى الليالي، تعرضت ليليث لهجوم غامض في أحد الممرات المظلمة. تمكنت من الدفاع عن نفسها، لكنها أصيبت بجروح طفيفة. لم يكن هناك دليل مباشر على أن سيلينا هي المسؤولة، لكن الشكوك كانت تحوم حولها.
عندما واجهت سيلينا بشأن هذا الأمر، نفت بشدة، لكن عينيها كانتا تحملان وميضًا من التحدي والرضا المريض. "ليليث تستحق كل ما يحدث لها"، قالت بحدة. "إنها تحاول سرقتك مني. لن أسمح لها بذلك".
"أنا لست ملكًا لأحد، سيلينا"، قلت ببرود. "وإذا اكتشفت أنكِ وراء هذا الهجوم، فستكون العواقب وخيمة. ابتعدي عنها، وابتعدي عني".
لكن كلماتي لم تعد لها نفس التأثير. هوسها كان قد تجاوز مرحلة الخوف من غضبي. أصبح قوة دافعة خاصة به، قوة مظلمة ومدمرة.
إيلارا، من ناحية أخرى، كانت تزداد ضعفًا وهشاشة. هوسها بي كان يدمرها من الداخل. بدأت تهمل دراستها، صحتها، وكل شيء آخر في حياتها. كل ما كانت تفكر فيه هو أنا، وكيف يمكنها "إنقاذي" أو على الأقل كسب لمحة من اهتمامي. رأيتها عدة مرات تبكي بصمت في زوايا منعزلة، وكان هذا يثير فيّ مزيجًا من الاشمئزاز والشفقة الخافتة التي كنت أكرهها.
الفصيل السري من السحرة المظلمين، الذين كنت قد اكتشفت وجودهم، بدأوا يتحركون بشكل أكثر جرأة. لم يعودوا يكتفون بالمراقبة من بعيد. في إحدى الليالي، بينما كنت عائدًا إلى غرفتي، تعرضت لكمين. ثلاثة سحرة ملثمين، يرتدون أردية سوداء، هاجموني باستخدام سحر مظلم وقوي. كانوا يريدون القلادة، وكانوا مستعدين لقتلي من أجلها.
كانت معركة شرسة. قوتي الجديدة، المعززة بالقلادة، كانت هائلة، لكنهم كانوا ثلاثة، وكانوا ماهرين ومنسقين. استخدمت الظلال كسلاح ودرع، وهاجمتهم بتعويذات مظلمة لم أكن أعرف حتى أنني أتقنها. شعرت بالقلادة تنبض بقوة، تتدفق عبري، تمنحني قوة وسرعة لا تصدق.
في خضم المعركة، رأيت رؤية أخرى. لم تكن من الماضي أو المستقبل، بل كانت رؤية للروح القديمة التي تسكن القلادة. رأيتها ككائن من الظل والنور، قوي ومهيب، يخوض معركة مماثلة منذ زمن بعيد. وشعرت بأن قوتها أصبحت قوتي، وأن إرادتها أصبحت إرادتي.
تمكنت من هزيمة المهاجمين، لكنني أصبت بجروح. وعندما تلاشى آخرهم في الظلال، وهو يتوعد بالعودة، شعرت بإرهاق شديد، وبطعم مر في فمي. لم تكن هذه مجرد معركة من أجل القلادة؛ كانت معركة من أجل روحي.
عدت إلى غرفتي، متجاهلاً الدماء التي كانت تسيل من جروحي. عندما نظرت في المرآة، رأيت نفس الشخص البارد والقاسي. لكن هذه المرة، كان هناك شيء آخر في عينيه. شيء يشبه الوحشية، وشيء يشبه اليأس.
"هل هذا ما أصبحت عليه؟" همست. "قاتل؟ وحش؟"
القلادة ردت بصوتها المعتاد: "أنت ناجٍ. أنت قوي. وهذا كل ما يهم".
لكنني لم أعد متأكدًا. أصوات الماضي، وكلمات لونا الهادئة، بدأت تترك أثرًا. المرايا المحطمة في روحي كانت تعكس صورًا متضاربة، ولم أعد أعرف أيها هو الحقيقي.
في اليوم التالي، رأيت لونا مرة أخرى. كانت تجلس في نفس المكان الهادئ في الحديقة. اقتربت منها، وجلست بجانبها. لم أقل شيئًا، وهي لم تقل شيئًا. بقينا هناك لبعض الوقت، نستمع إلى الأصوات التي لا يسمعها الآخرون.
ثم، وبدون سابق إنذار، مدت يدها الصغيرة ولمست يدي برفق. كانت لمستها باردة وخفيفة، لكنها أرسلت قشعريرة غريبة عبر جسدي. لم تكن لمسة هوس أو تملك، بل كانت لمسة فهم هادئ، لمسة تعاطف صامت.
"الندوب ليست دائمًا مرئية"، قالت بصوت خافت. "لكن هذا لا يعني أنها ليست موجودة".
نظرت إليها، ولأول مرة منذ وقت طويل، شعرت بشيء يشبه الارتباك. من كانت هذه الفتاة الغريبة التي بدت وكأنها ترى من خلالي، من خلال كل الأقنعة التي ارتديتها؟ ومن كنت أنا، حقًا، خلف كل هذه المرايا المحطمة؟
لم يكن لدي إجابات. لكنني شعرت بأن رحلتي أصبحت أكثر تعقيدًا، وأن الصراع الحقيقي لم يكن فقط ضد العالم الخارجي، بل كان أيضًا، وربما بشكل أكبر، ضد نفسي.
القلادة كانت لا تزال تهمس بوعود القوة والمجد. لكن الآن، كان هناك صوت آخر، صوت أهدأ وأكثر ترددًا، يسألني إذا كان هذا هو كل ما أريده حقًا.
وكانت هذه بداية جديدة، بداية صراع أعمق وأكثر خطورة. صراع من أجل روحي، في عالم من المرايا المحطمة وأصوات الماضي التي لا تهدأ.