أُطلق سراح برونو من زنزانته بعد عدة أيام من وقوع الحادثة. خلال فترة احتجازه، أتيحت له فرصة وافرة للتفكير مليًا في كل شيء؛ ليس فقط في ما فعله، بل في الآثار المترتبة على أفعاله على المدى الطويل. بدا له أن ما حدث في تلك القرية الصينية الصغيرة لم يكن مجرد حادثة بسيطة، بل شرارة ستؤدي إلى تغييرات كبيرة تمتد إلى خارج حدود الصين لتؤثر على الأحداث العالمية.

ورغم أن الأحداث التي وقعت في هذه القرية الصينية الصغيرة كانت تبدو وكأنها جزء صغير من الصورة الأكبر، إلا أن برونو كان يعلم أن ما يحدث في مثل هذه اللحظات يمكن أن يكون له تأثيرات غير متوقعة على المستقبل. تذكر برونو نظرية "تأثير الفراشة" كيف أن تصرفًا صغيرًا في مكان ما يمكن أن يؤدي إلى تغييرات هائلة في مكان آخر.

لقد أدرك برونو أن تصرفاته في الصين قد أدت إلى تغييرات كبيرة بالفعل. لم يعد الجيش الألماني يتصرف بنفس الطريقة التي كان يتصرف بها في الحروب السابقة، بل أصبح أكثر انضباطًا وملتزمًا بالقوانين الحربية. حتى الدول الأخرى في التحالف الثماني بدأت تتبع نفس النهج، خوفًا من أن تواجه موقفًا مشابهًا لما حدث بين ألمانيا وروسيا.

وكان برونو يعلم أن هذه التغيرات لن تتوقف هنا. فقد كان يتوقع أن يؤدي ما حدث في الصين إلى تغييرات أكبر على مستوى العالم. على سبيل المثال، كانت هناك حرب متوقعة بين روسيا واليابان خلال السنوات القليلة المقبلة. وفي تاريخه السابق، كانت ألمانيا قد قدمت دعمًا كبيرًا لروسيا في تلك الحرب. لكن مع التوتر الذي تسبب فيه بين الجيشين الألماني والروسي، لم يكن برونو واثقًا من أن ألمانيا ستواصل تقديم هذا الدعم. بل ربما، حسب تخميناته، قد تميل ألمانيا إلى دعم اليابان بدلاً من روسيا.

إذا حدث ذلك، فإن التحالفات العالمية قد تتغير بشكل كبير. قد تنضم اليابان إلى القوى المركزية في الحرب العظمى المقبلة، مما يعني أن المستعمرات الألمانية في المحيط الهادئ وشرق آسيا قد تظل آمنة من الهجمات اليابانية التي كانت جزءًا كبيرًا من استراتيجيات الحرب العالمية الأولى في تاريخه السابق.

ومع ذلك، كان كل هذا مجرد تكهنات. لم يكن برونو يملك دليلًا قاطعًا على أن هذه الأحداث ستحدث كما توقع، فالعالم الذي يعيش فيه الآن يختلف بشكل كبير عن العالم الذي عاش فيه سابقًا. ومع مرور الوقت، كان برونو يعلم أن أي شيء قد يحدث ليغير مجرى التاريخ مرة أخرى.

لكن برونو كان يدرك أمرًا واحدًا بالتأكيد: أن الأمور قد تغيرت بالفعل. ما بدأ كحادثة صغيرة في قرية صينية نائية قد أدى إلى تأثيرات كبيرة، وأن المستقبل القريب سيحمل المزيد من التغييرات التي قد تكون غير متوقعة.

بينما كان برونو يفكر في هذا كله، كان لا يزال في حيرة بشأن المحادثات التي جرت بين القيصر الألماني والقيصر الروسي. لكنه كان متأكدًا أن المناقشات التي جرت لم تكن مجرد تبادل كلام عادي. فبعد أسبوعين من الدوريات المستمرة، اتضح أن هناك اتفاقًا ضمنيًا بين الألمان والروس بشأن تقسيم مناطق النفوذ في شمال الصين.

بعد الحادثة التي أثارها برونو، لم يكن هناك أي اتصال مباشر بين الجنود الألمان والجنود الروس. لم يكن ذلك فقط نتيجة للضغط الدبلوماسي، بل كان أيضًا بسبب التحقيقات الصارمة التي أجرتها الشرطة العسكرية الألمانية في تحركات الجنود الألمان وأنشطتهم خلال دورياتهم وحملاتهم العقابية.

أي جندي ألماني، بغض النظر عن رتبته أو مكانته النبيلة، يتم اكتشاف أنه متورط في جرائم مثل النهب أو قتل المدنيين العزل أو الاغتصاب، كان يواجه عقوبة الإعدام فورًا من قبل فرقة الإعدام. ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد، بل أمر القيصر الألماني بإجراء تحقيق شامل لمعرفة ما إذا كان جنوده قد نهبوا أي ممتلكات ثقافية أو أثرية خلال احتلالهم لشمال الصين.

تبين من خلال التحقيقات أن عددًا من الجنود الألمان قد تورطوا في سرقة بعض القطع الأثرية من أسرة تشينغ الصينية. فور علم القيصر بهذه الجرائم، أمر بإعادة جميع هذه القطع إلى الصين ومعاقبة المسؤولين عنها، بالإضافة إلى معاقبة الضباط الأعلى رتبة الذين سمحوا بمثل هذه الانتهاكات أو تجاهلوها، سواء بوعي أو دون علم.

أصبحت سمعة برونو بعد هذه الحادثة مثار جدل. بالنسبة لأولئك الذين يؤمنون بالعدالة، تحول برونو إلى رمز للمثالية والشجاعة. كان يُنظر إليه على أنه رجل يتمتع بحس عميق بالمسؤولية والإنصاف، وكان يحظى باحترام واسع بين الجنود الذين شاركوه قيمه. لكن بالنسبة لأولئك الذين كانت كانوا يستفيدون من هذه الممارسات، تحول برونو إلى مصدر إزعاج وتهديد؛ فقد اعتبروا أن تدخله هو الذي لفت انتباه القيصر إلى أفعالهم، مما جعلهم يشعرون بالقلق من عواقب ما فعلوه.

بعد الحادثة، تمت معاقبة قائد الكتيبة الذي وبخ برونو واقترح اعتقاله بعد ما حدث في القرية الصينية. تم تخفيض رتبته، بينما تمت ترقية برونو ليحل محله. لم تمضِ سوى بضعة أسابيع على وجوده في الميدان حتى مُنح برونو رتبة نقيب وأصبح مسؤولًا عن سرية كاملة تتألف من مئتي جندي، تحت قيادته أربعة ضباط.

كان اثنان من هؤلاء الضباط، هاينريش وإريك، أكثر استعدادًا لدعم أوامر برونو في الميدان مقارنة بالضابطين الآخرين، الذين كانت ولاءاتهم لا تزال مرتبطة بالقائد السابق. وبينما كان برونو يتأقلم مع مهامه الجديدة كنقيب ، أصبح لديه سيطرة أكبر على وحدته. كانت قراراته مؤثرة سواء كان يختار إرسال دوريات أو أن يبقى جنوده كحراس في القاعدة، وكان بإمكانه تقديم طلبات إلى قائد الكتيبة الجديد لتعديل المهام حسب ما يراه مناسبًا.

مع تزايد سلطته كنقيب ، شعر برونو أن وقته يمكن أن يُستغل بشكل أفضل في الميدان، حيث كان يرى أن جهوده ستخدم القضية بشكل أكبر من مجرد البقاء في القاعدة. لذا، أصدر أوامره بتنظيم دوريات منتظمة للفصيل التي كان يقودها، وكانت هذه الدوريات تتوجه إلى الريف الصيني الشمالي لتصفية ما تبقى من المتمردين المعروفين بـ"الملاكمين"

بفضل تصرفاته السابقة وما أظهره من رحمة وتعاطف، تحسنت نظرة السكان المحليين في الصين تجاه برونو والجنود الألمان بشكل عام. لم يعد الجنود الألمان يُنظر إليهم كقوة احتلال همجية، بل بات يُنظر إليهم كقوة أكثر تنظيمًا وانضباطًا، مقارنة بالدول الأخرى التي كانت تحتل الصين في ذلك الوقت. وعندما دخل برونو وجنوده إلى إحدى القرى الصينية، كان يحمل بندقيته الـ"غيفير 98" على كتفه، خرج القرويون المحليون لتحيته والترحيب به.

لم يكن جنود برونو يتحدثون لغة الماندرين، لكن برونو كان يتقنها، وسرعان ما بدأ في محادثة ودية مع المدنيين الذين قدموا له ولجنوده أكياسًا من الأرز كهدايا، ليأخذوها معهم إلى القاعدة. بينما حاول الجنود أن يواصلوا المسير رافضين الهدايا، اقترب كبار القرية لتحية برونو وتبادل أطراف الحديث معه.

(امون :شعب يرحب بالمحتل ويقدم لها هدايا!! لا دي هبت من المؤالف ع الاخر )

في البداية، كانت المحادثة تتناول الثناء على الألمان وعلى طريقة تعاملهم مع السكان المحليين، مقارنة بالدول الأخرى التي كانت تشارك في احتلال الصين. لكن بعد بعض الحديث الذي وجده برونو مملاً، اقترب منه أحد الشيوخ وهمس له بتحذير حول الوضع الحقيقي للقرية.

بدت القصة التي رواها الشيخ لبرونو مثيرة للاهتمام، فقد كان يشير إلى أن القرية ربما كانت تخفي شيئًا ما. لم يكن برونو متأكدًا مما إذا كان عليه أن يأخذ هذا التحذير على محمل الجد أم لا، لكنه قرر أن يكون حذرًا وأن يتحقق من الوضع بنفسه. شعر برونو أن هذا قد يكون اختبارًا آخر لقيادته، وأن الطريقة التي سيتعامل بها مع هذا الموقف قد تؤثر بشكل كبير على سمعته ومستقبله كقائد.

2024/10/12 · 48 مشاهدة · 1109 كلمة
AMON
نادي الروايات - 2025