كان الصمتُ يُحيكُ وشاحه على وجهيهما، كِلاهما يُفكر بشأن تلك الحرب.. التي سينقلب كُل شيء بعدها.
كل شيء بات متوقعا، اما الفوز.. او الخسارة، او بمعنى آخر، اما الحياة او الموت.
كان امامهما عدةً اوراقٍ تحتوي على مخطوطات بين المملكتين وما سيحدث..
"متى ستبدأ الحرب يا ابي؟"
كان ينظر بمقلتيّ اباه مُنتظرًا بصمت جوابًا يشفي جراح صدرهِ.. او ربما يُهيجُها. لم يكن يعلم نوع الجواب الذي سيتلقاه، حين يَطول الصمت.. تُدرك بأنه هدوء مابعد العاصفة وإن كل شيء وُضعَ على المِحك.
"الى متى ستضل صامتًا يا ابي؟!"
اشاحَ الامبراطور بنظرهِ عن ابنه مُطئطئًا رأسه حتى اجاب اخيرا.
"سَنُهاجم في أيةِ لحظه.."
اتسعتْ حدقتا يوشيرو، تغيرت ملامح وجهه من تلك الملامح الهادئة الى الغاضبة والتي تريد تحطيم كل شيء حولها، لم ينبس ببنت شفة، كان يعجز فهم ما يرمي اليه والده.. لِم لم يُجهز كل شيء منذ تلك الاسبوعين الماضيين!!
اطلق رايدون تنهيدةً مطولة من بين شفتيه، فقال قبل أن يُلقي ابنه بِسؤاله لانه يعلم ما هو..
"لستُ بضعيفٍ يا ولدي الحبيب، لكن خصمي هو أخي"
من الصعب جدا.. أن تُواجه شَخصًا تحبه، على الرغم من إنه قد يَفعل شيئا يُساوي الف طعنةٍ في الظهر..!
ذلكَ الشخص الذي تربينا معًا تحتَ سقفٍ واحد..
لكن الامور تتغير، حتى إن كان اقربُ الناس الينا.. ذاتَ يوم سيستخدم نقاط ضعفنا لأستهدافنا، وحينها نُدرك بأننا كُتلة من الحماقة والغباء.. لا غير!
***
لم ينطق يوشيرو بِكلمة واحدة بينما يشبكُ اصابع يده والافكار تهدأ وتثور كأمواج البحر..
لِيثب من مكانه مُتجهًا خارج المكتب.
حتى تناها الى مسامعه ذلك الصوت المألوف.. والذي يُشبه صوتَ الةٍ موسيقية عزفها احدهم.
"الى اينَ يا ولدي الحبيب..؟!"
اجاب وهو يسير على عجلةٍ من امره دون ان يلتفت لوالده او يتوقف، لكنه رغم ذلك اجابه بهدوء واحترام.
"لأُحظر الجيش.."
لتتسارع خطواته قاطعًا الممرات ركضًا دون توقف، بينما كانت بعض الكلمات تتسللُ الى رأسه، حتى التقطها وحدَث نفسه بها
"انتَ مُتمَهلٌ جدا يا ابي.. لقد وضعتنا في وضعٍ حرج"
تنهد مُطولاً واردف
"لا عتب عليك.."
اطلق الامبراطور تنهيدة مُطولة وغادر خلفَ ولده.
"آهٍ لهذا الزمن.. اشعُر بأنني عجوز في التسعين، بينما لا ازال في بداية الثلاثين"
قال تِلك الكلمات الحزينه.. التي تتدفق بلا توقف.. كينبوع ماءٍ ينبعُ من شقٍ صغير في الارض، لكنه ملوث.
هذا هو الضُعف الذي يُمسك بقلبك، ويلفٌ سلاسله الحديدية حوله حتى يُصبح قلبك أسيرا لما يُسمى "بالخوف.."، الذي ينتابكَ عندما تَضعُف امام احدهم..
وصل الامبراطور لذلك المكان..المكان الذي سيحدد المصير اما الصمود او سقوط الامبراطورية بأكملها.
حينها ستمتلئ الارض بالدماء والنار.. وتَسبحُ الجثث فوقها.
لم يكن ليجرؤ على مبارزة اخيه.. لكنها الحياة.
كان الامبراطور يَنظر لولده الذي بيدَ بأنه متأهب اتم التأهب للقتال، بتلك النظرة الحانية والممزوجة بالحزنُ مُتحدثةً بالوداع..
***
[من داخل قصر العدو]
قاعة كبيرة وواسعة..يكسوها ذلك النوع من الهدوء الذي ماقبل العاصفة، وبذلك الهدوء، سَتقلب الموازن وتُغير مَجرى النهر..!
كان يَتوسط تلك القاعة عرشٌ كبير الحجم، وكأنه مُخصص لعملاق.. والمجوهرات التي تضيء وتتلألأ وتعكس ضوئها على النوافذ القريبة وكأنها طُرزت بأتقان.
يتربع عليه ملك مملكة السحر، حيث كان يجتمع حوله الجيش وبعض سَحرة المملكة، والى جانبه الوزير الخاص به.
حملقَ نحوهم بنظراته الثاقبة، كَسهمٍ أُطلِقَ قاصدًا قلبَ عدوه.
وذلك الصوت الجهوري المرتفع والذي كان كفيلًا بجعل قاعة العرش ترتجّ بأكملها.
"تأهبوا، امتطوا احصنتكم واتجهوا نحو نصركم، سنقتلهم جميعًا اليوم بمن فيهم الامبراطور وولده"
انطلقَ بخطواتهِ الغاضبة المليئة بالانتقام وامتطى جوادهِ الاسود مُعلنًا استعداده لقيادة الجيش بنفسه بينما تَسمع دَويّ صهيل الاحصنة في انحاء المملكة.
***
كان كِلا الطرفان مُستعدان للحرب، بينما كانت الافكار تَنهشُ رأس الامبراطور..كان يمتطي حصانًا ابيضًا، وعلى يمينه حصانٌ آخر يحملُ ولده يوشيرو.
كانت حوافر الخيول القادمة تدبّ على الارض مُتجهةً نحو قصر الامبراطور.
"ابي..انهم يقتربون"
لقد كان يوشيرو مستعدًا ليقاتل لكنه كان خائفا قليلا..
ها قد بدأت اللحظة التي ستحسم جميع الامور..
حينها سيعرف بأن تِلك الاحلام التي كانت تُراوده..ماهي إلا إنذار!!.
إشتبكَ الجيشان.. وبدأت ملحمة الحياة والموت.!
كان احد الجند مُتجهًا نحو الامبراطور لتنفيذ خطته إلا أن هنالك من اوقفه.
"ليس الان..تمهل، لنقضي على اغلب جُنده الان ونقتل ولده..ومن ثم نتقله."
وقبل أن يأمر حصانه بالانطلاق اردفَ قائلا:" عليكَ بولده.. لنتخلص منه اولا"
لينطلق بِحصانه مُتخللًا صفوف الجيش بينما ذهبَ الاخر لسلب روح يوشيرو.
إنطلقَ ابن الامبراطور لِسفك دماء الاعداء، وتبعه والده.
كان بالفعل قد قتل العديد من الجند، وعلى الرغم من إن قوته لم تعد كما كانت.
***
أشار اليه بالهجوم..
"الان..اتبعني"
مُتجهًا بِجوادهِ الاسود نحو الامبراطور وولده.
"إنه... الحلم ذاته.."
ادرك يوشيرو في هذه اللحظه.. إن كل ما رآه في منامه يراه الان حقيقيًا امامه بأم عينيه.
لم ينبس ببنت شفة، لكنه في الوقت ذاته لن يسمح بحدوث الشيء ذاته.!
"ماسارو.. لطالما كنتُ ارى فيكَ خُبثًا، لكن لن اسمح لكَ بتحقيق ما تُريده"
ثُم انطلقَ بحصانه البُنيّ لتدمير المُخطط.
***
[الخُطة المُدبرة]
(احداث ما قبل الحرب)
في قصر العدو..كان الملك ماسارو يَعقدُ اجتماعًا بشأن تلك الحرب.
كان جالسًا على عرشه بينما يجلسُ حوله بعض الجند والمُستشارين والسحرة من اتباعه مُنتظرين خطته وما سيأمرهم به.
"سنقوم اولا بأستغلال قوتهم، سنذرهم يُقاتلون حتى تَخور قِواهم، لكن هذا لا يعني بأننا سَنتركهم يَقتلوننا ونحن مكتوفوا الايدي..سَنحاربهم وسنمحوهم، ولن يتبقَ اي مخلوقٍ في تلك المملكة!!"
"هدفنا الاول هو يوشيرو، ابن الامبراطور..نُقالته بكل قوانا، ومن ثُم نوقع به."
"لا تتهاونوا فأبن الامبراطور ليس بالسهل..صغير في الرابعة عشر من عمره لكنه قد يَحكم العالم يومًا!!"
كان ممن حوله يُصغون له بتمعن ولا يُفوتون اي كلمةٍ يقولُها.
طال الصمت في قاعة العرش لكن احدهم انتشَله.
"وماذا عن الامبراطور؟"
تخللت الافكار لِعقل ماسارو بينما كان يَطرقُ بسبابتهِ الطاولة الموضوعة امامهِ
"بعد أن ننتهي من ولده، سَيُطوقهُ مجموعةٌ من السحرة وبعض الجُند حتى نُحاصره ونقضي عليه"
***
شعر يوشيرو بالضعف الشديد ولم يكن قادرًا على قتل خصمٍ آخر.. لِيهمّ نحوه ذلك الهجوم الذي جعلهُ يسقط من مَتن حِصانه وانتهى به المطافُ مغشيًا عليه..
لم يتمكنوا مِن قتلهِ بالرغم بأنهُ كان مُكبّلا من ذراعيهِ وقدميهِ وكان من السهولةِ قتله فهو بِلا دفاعٍ او حماية، إلا إنهم كُلما حاولوا الاقتراب، صُدت سِيوفهم، وكأن جدارًا صُلبًا يُشكلُ درعًا لأبن الامبراطور.!!
مِما جعلهم يَضجرون ويتركونه على حالهِ ريثما يَتخلصون من الامبراطور.
"اتركوه..سيأخذ وقتنا"
ضَجيج صهيل الاحصنة بينما تُحاصر الامبراطور، اصبحَ ضَعيف القوةِ فقد قاتل وسفك دماء العديد من الجند، لقد خارت قِواه بالكامل.
إنقض عليهِ اثنان من السحرةِ والجند، ورُغم ضُعفه إلا انه لا يزال يُقاتل، حتى إخترقَ اول سهمٍ جسده وخرج من الجِهة الاخرى، سقط يُحاول النهوض لكنه شعر بأنها النهاية..
***
افاقَ يوشيرو لِيرى نفسه مُكبلًا بينما يسمع صُراخ والده وهو يُطعن بالسيف مُحاولًا التقاط انفاسه.
كان لا يستطيع التحرر من تِلك القيود، نفرت الدموع مِن مُقلتيه وهو يَنظر الى ذلك المشهد الفضيع.. تماما كما كان في احلامه التي يراها..
الان بات كل شيء واضحًا.. إنها رؤى..!
وهكذا.. انتهت الحرب!
"ماذا عن ولده؟ لا يزالُ حيًّا"
"اتركه..لدي خطة اخرى افضل"
لِتُرسم ابتسامةٌ مليئةٌ بالخبث على شفتيه..
وبينما لا يزال يوشيرو ينظر لِوالده صرخ صرخةً مُجلجلةً مُختلطةً بالدموع
"تبا لكم ايها الاوغاد!!"
لم تمر سوى بِضعُ ثوانٍ حتى شعر بأن قيوده تُفتح، كما لو إن احدًا حرره.
لم يعلم ما جرى حينها ولكنه لم يكن يَملك وقتًا ليفهم من قام بفك قيودهِ، توجه مُسرعًا نحو والده وجثى بجوارهِ على رُكبتيه، لقد فارق الحياة..
شعر يوشيرو بأن العالم اصبحَ فارغًا، لا يوجد من يقوم بمواساته او بالتربيت على رأسه بحنو..
كان يبكي بُحرقة، لقد كَره نفسه لأنه لم يستطع تغيير الرؤى التي رآها..