الفصل الثاني. _البداية بعد النهاية_
في أحد أزقّة القرية الفقيرة، حيث تتصاعد روائح العفن والرطوبة من جدران الأكواخ المتداعية، كان فتى يخطو بخطوات متثاقلة، تكاد عظامه البارزة تمزّق بشرته الشاحبة. بدا جسده وكأنه بقايا حياة، أنفاسه متقطّعة
وكل خطوة منه تحمل صدى الضعف الذي يسكنه.
شعره الأسود، كالليل المخملي الذي تحلم به قصور النبلاء، تدلّى على جبينه بلا انتظام، بينما عيناه… عينان بلون الأرجوان الممزوج بالسواد، كبحر عميق يخفي بين أمواجه قصصًا عن المجد والدماء.
جلس على حافة جدار خشبي مهترئ، مائل وكأنه ينتظر الريح لتهدمه، ورفع رأسه نحو السماء.
كانت السماء في ذلك اليوم صافية على نحو غريب، تزيّنها سحب بيضاء متكسّرة تحت وهج شمس دافئة، وكأنها لوحة سلام مرسومة بريشة إله… سلامٌ لم يكن له نصيب فيه.
ابتسم بسخرية مرة، وسرح بذاكرته…
هناك، في قلب الفضاء، كان يومًا يقف في ذروة القوة، إمبراطور الفراغ العظيم، الذي ترتجف النجوم عند ذكر اسمه، وتخرّ العوالم احترامًا لخطواته. حوله إخوة الحياة و الموت وتلاميذ أقسموا أن يسيروا معه حتى النهاية…
لكن، في لحظة النصر، جاء السيف المسموم من حيث لا ينبغي أن يأتي.
تذكّر عيني تلميذه حينها، ذلك اليتيم الذي التقطه من الظلام وربّاه كابن… عينان لم تحملان ندمًا، بل غدرتا به بلا رحمة.
وتذكّر وجوه أولئك الذين نادوه بـ "الأخ" يومًا، وهم يطعنونه بكلمات أشد من أي سلاح: "القوة خطيئتك".
كانت ابتساماتهم وهم يشاهدونه يسقط أكثر قسوة من ألم السيف نفسه.
في أعماقه، تسلّل السؤال الذي ظلّ يطارده:
هل كان يستحق الأمر؟ هل كان إنقاذ البشرية يستحق أن يكون الثمن… خيانة أحبّتي و سقوطي؟
تجمّد نظره، وتحول بريق السماء في عينيه إلى جمرات سوداء متّقدة.
لم يعد هناك مكان للتساؤل… لم يعد هناك مكان للرحمة.
تمتم أولًا، ثم ارتفع صوته حتى صار نبرة قَسَم:
"أقسم بفراغ الكون وبحطام النجوم… أقسم بدمائي التي أُهدرت وبالسماء التي خانتني… سأهدم كل شيء عرفوه، وأحرق كل مجد سرقوه، وأمزّق ابتساماتهم الباردة بأيديّ. لن أكون الرحمة التي عرفوها، بل العاصفة التي لن يوقفها شيء… حتى لو احترق هذا العالم بأسره، فسأعيده إلى رماد، وأدفنه معهم."
بينما كان يحدّق في السماء، تتلاطم في داخله ذكرياته كأمواج سوداء لا تعرف السكون.
لكن هذه المرة، لم تكن صور الخيانة الأخيرة فقط هي ما يزاحم عقله… بل ذكريات هذا الجسد الذي يسكنه الآن. ذكريات أكثر قسوة، أكثر قبحًا، حتى كادت روحه تتوقف لحظة أمامها.
رأى نفسه… لا، بل رأى صاحب هذا الجسد، فتى نحيلًا يركض في غابة رطبة، أنفاسه متقطعة، بين يديه عشبة خضراء تتلألأ بخيوط ضوء خافت، جمالها يخطف الأنفاس. لم يكن يعلم حينها أن هذه العشبة ستصبح لعنة حياته.
كان يظن أنها فرصة… فرصة لينقذ جدته المريضة، ليطعم إخوته، ليشتري الخبز لأول مرة منذ شهور.
لكن في أعقاب خطواته، كانت هناك ظلال سوداء، رجال قطاع طرق، أعينهم جشعة وأفواههم تبتسم بابتسامة الذئب الذي رأى فريسته.
لم يمضِ وقت طويل حتى سقطت العشبة من بين يديه في الوحل، داسها أحدهم بقدمه، وصرخ آخر "بحثنا عنها أيامًا… والآن ضاعت بسببك، أيها الجرذ الصغير!"
لم يمنحوه فرصة للكلام، بل أمسكوا به كما يمسك الصياد أرنبًا مذعورًا
جرّوه على التراب حتى وصلت قدماه إلى عتبة كوخ صغير، … كوخ جدته.
وعند الباب، كانت الجدة، امرأة طاعنة في السن، يكسو وجهها تعب السنين، ويدها المرتجفة تمسك بعصا خشبية. خلفها، شقيقان صغيران يختبئان، وعينا جده الصلبتين تتسعان قلقًا.
لكن ما حدث بعدها لم يكن سوى كابوس يرفض أن ينتهي…
ضربوه أمامهم، ركلوه حتى سال الدم من أنفه، ثم أمسكوا بالجدة وألقوها أرضًا.
صرخ الجد محاولًا الدفاع عنها، لكن ضربة بالسيف شقت بطنه وأسقطته على ركبتيه، قبل أن يسقط وجهه في التراب بلا حراك.
سمع صراخ إخوته يعلو، رأى الدموع والرجاء في أعينهم، قبل أن تُقطَع أصواتهم بلمعان نصال تلمع تحت الشمس… ثم هدأ كل شيء.
وقف أحد قادة قطاع الطرق فوق جثة الجد، بصوت متهكم بارد"حياتك أسوأ من موتك يا صغير… موتك رحمة لا تستحقها."
ثم ركلوه أرضًا، وبصقوا على وجهه.
لم يقتلوه، لم يمنحوه تلك النهاية… بل تركوه حيًا ليحمل الجحيم في قلبه.
توعّدوا كل شخص في القرية"من يطعمه… سيموت. من يلمسه… سيموت. من يذكر اسمه بخير… سيموت."
ومنذ ذلك اليوم، لم تعد القرية ترى فيه طفلًا… بل نذير شؤم
.
صار كل من يمر أمامه يشتمه، يبصق عليه، يدفعه في الوحل.
كان الأطفال يرمونه بالحجارة للهو، والنساء يلوين وجوههن قرفًا حين يقترب، والرجال يضحكون من بؤسه وهم يرمونه بفتات طعام للحيوانات، لكن ليس له.
لياليه كانت جوعًا يتآكل معدته، وأيامه كانت عذابًا يجرح كبرياءه.
لكن في قلبه… كان هناك شيء آخر.
صاحب هذا الجسد لم يكن ضعيف القلب، لم يكن منكسِر الروح.
في كل صفعة، في كل بصقة، في كل ركلة، كان الحقد يكبر داخله، يتغذى على الجوع والذل.
لم يعد يرى الناس… بل يرى أهدافًا يجب إسكات أنفاسها يومًا ما.
لكن الحقد وحده لا يطعم جائعًا، ولا يدفئ جسدًا يرتجف.
وفي ليلة باردة، بين أزقة القرية، انهارت ساقاه ولم تقوَ على حمله بعد الآن.
استلقى على الأرض، عيناه تحدّقان في الظلام، قلبه يتمتم بوعد انتقام… لكن الجوع كان أسرع، فأغلق عينيه للمرة الأخيرة، تاركًا الحقد وحيدًا في جسد بارد.
كانت النهاية
---
رأى نفسه إمبراطور الفراغ العظيم، واقفاً على قمة القوة، يرفع سيفه في وجه أعداء البشرية. رأى الإخوة الذين حاربوا بجانبه، الابتسامات التي تبادلها معهم، العهود التي أقسموا عليها… ثم الخيانة، الخناجر التي غُرست في ظهره، والدماء التي لوّثت يديه.
وفي اللحظة التالية، رأى ذكريات هذا الفتى… الجوع، الضرب، البصاق، نظرات القرف من أهل القرية، الدماء التي لوّثت تراب كوخ عائلته.
الألم ذاته، الغدر ذاته… لكن في جسد أضعف، وفي حياة أبشع.
شعر وكأن قلبه القديم وقلب هذا الجسد قد اندمجا، كأن روحين تحترقان في وعاء واحد، كل منهما يغذي الآخر بالكراهية.
ذلك الإمبراطور الذي فقد كل شيء… وذلك الفتى الذي سُلب منه حتى حقه في الموت بكرامة.
ارتجفت شفاهه بابتسامة باردة، نظراته أصبحت حادة كالنصل، وفي أعماق روحه، ترددت الكلمات كزئير مدوٍّ
"في حياتي السابقة… كنت أظن أن الخيانة أسوأ ما قد يواجهه المرء. لكنك أيها الفتى… علمتني أن هناك جحيمًا آخر، جحيمًا يتغذى على الذل والجوع. الآن… روحك وروحي صارتا واحدة. انتقامك… هو انتقامي. ودماؤهم… ستسقي الأرض التي مشيت عليها."
رفع يده المرتجفة نحو السماء وكأنه يمسكها، وصوته خرج همسًا، لكنه كان يحمل ثقل قسم أبدي
"أيها الخونة… أيها القتلة… من أعالي السماوات إلى أعمق الهاوية… سأمزق كل من حطم حياتنا. لن أكتفي بقتلهم… سأجعلهم يتمنون الموت ولا يجدونه. حتى لو اضطررت لقطع الطريق إلى الذروة بدمائي… لن أتوقف حتى أجعل أسماءكم تُمحى من الوجود."
وقف الفتى ببطء، ساقاه النحيلتان بالكاد تحملانه، لكن في عينيه كان هناك بريق لم يعرفه هذا الجسد من قبل. بدأ يتحرك في أزقة القرية الضيقة، كل خطوة تصدر صوتًا خافتًا على التراب المتشقق.
كان يمر بجانب الأكواخ البالية والمنازل الخشبية ذات الطابقين التي بدت وكأنها تحتضر مع كل هبة ريح.
من النوافذ والطرقات، انطلقت الكلمات المسمومة
"المنحوس… لما لم يمت بعد؟"
"حتى الشياطين لا تريده… ربما يخطط لجرّ مصائب جديدة إلينا."
"انظروا، الشمس تغرب وهو يخرج من القرية… لعله يريد الانتحار، أخيرًا سنرتاح منه."
لم يرد. لم يلتفت. فقط واصل المشي، والسماء خلفه تتحول إلى لوحة من الذهب والقرمزي، مع آخر أنفاس الشمس وهي تغيب خلف الجبال.
وجهته كانت واضحة… الغابة السوداء عند سفح الجبل. مكان لا يدخله أحد إلا متهور أو محكوم عليه بالموت.
لكن ما إن وطئت قدماه أطراف الغابة، حتى حدث ما لم يكن متوقعًا…
عيون الوحوش التي كانت تلمع بين الأشجار مختبئة انطفأت فجأة، والهمسات المتوترة انتشرت بينهم، قبل أن يختفوا واحدًا تلو الآخر.
كانوا يشعرون بها… تلك الهالة المشؤومة التي تتسرب من جسده رغم محاولته كبحها، وهالة القتل التي تغلغلت في عظامه عبر معارك لا تحصى. حتى وهم يجهلون ما هو، غرائزهم أخبرتهم… أن الاقتراب منه موت.
شق طريقه عبر الغابة، يلتقط بعض الأعشاب الصغيرة من الأرض. كانت أعشابًا طبية منخفضة الجودة، طعمها مُرّ كالحياة نفسها، لكنها أسكتت معدته الفارغة.
واصل السير حتى سمع خرير ماء، فوجد نهرًا ضيقًا بين الصخور، وجثا على ركبتيه ليشرب حتى ارتوى.
بعد أن قضى حاجته من الطعام والماء، جلس على صخرة ملساء قرب النهر، وأغلق عينيه.
بدأت أنفاسه تهدأ، وصوت الماء يتناغم مع نبض قلبه. كان يحاول جمع شتات نفسه… أن يُخرج الغضب من صدره، لا لينساه، بل ليجمده حتى يحين وقت إطلاقه.
مع كل لحظة تمر، بدأت ملامحه تتغير… وجهه الضعيف اكتسب ظلًّا من الصرامة، وظهر في عينيه ذلك الصفاء القاتل، صفاء من يعرف طريقه.
ظل جالسًا حتى تسلل الفجر بين الأشجار، وطلعت الشمس بأشعتها الذهبية على وجهه.
نهض.
وفي تلك اللحظة، كان مختلفًا.
هدوءه صار كالماء الراكد، وإرادته حادة كالفولاذ.
في أعماق عينيه الأرجوانيتين، اشتعلت قوة لا تعرف الانكسار.
تمتم بصوت منخفض، لكنه كان كزئير داخل قلبه"هذه البداية… لن أسقط مرة أخرى. الذروة ليست حلمًا… إنها حقي. وسأنتزعها، حتى لو كان عليّ أن أشق السماء بيدي."
ثم خطا إلى الأمام… كان هذه البداية بعد النهاية.
بينما كان الفجر يتسلل بأشعته الذهبية عبر أوراق الأشجار، لمحت عيناه شيئًا غريبًا على ضفة النهر، بين الصخور الرطبة.
كانت أشبه بلؤلؤة، لكن لا… لم تكن نقية أو متلألئة كالجواهر، بل مهترئة، متشققة، يغلفها طين داكن، وكأنها قطعة قمامة أُلقيت هنا عمدًا.
غير أن قلبه اهتز بقوة.
روح إمبراطور الفراغ العظيم التي سكنت جسده، أدركت فورًا أن ما يراه ليس شيئًا عاديًا.
كانت هناك هالة… قديمة، عميقة، هالة ذكّرته بكلمات أمش الشر الأخير حدود لم تطأها أقدام بشرية من قبل، وبحقيقة لم يرها حتى في قمة مجده السابق.
مد يده ببطء، أصابعه ترتجف، وكأن هذا الشيء قد يختفي إذا أسرع أو تهاون.
وحين لامست أصابعه اللؤلؤة، شعر بوخز حاد، تلاه سيل من البرودة الجارفة اندفعت في جسده، ترافقه
ا همسات مبهمة بلغة لم يسمعها من قبل…
"أيها الحامل الجديد… هل أنت مستعد لتحمل ثمن القوة؟"
تسارعت أنفاسه، لكن عينيه أضاءتا بوميض قاتم.
ابتسم، ابتسامة هادئة، وغمغم بصوت بالكاد يُسمع
"هذه… ربما .. ربما تجسدي هذا كان أعظم فرصة لي "
نهاية الفصل...~
أتمنى أن تكونو استمتعتم أعطوني رأيكم ان كنتم تريدون المزيد سأعطيكم المزيد بسرعة ققط اعطوني تعليقاتكم