في الحقيقة، العالم مليء بالأكاذيب التي لم يدركها البعض بعد. لذلك دعوني أكون صادقًا معكم: ما سأرويه لكم من الآن حتى نهاية رحلتنا سيتضمن بعض الأكاذيب وبعض الحقائق، مثل أي شيء في هذا العالم.

تبدأ هذه القصة من أرض تُدعى "كنث"، وهي أرض العمالقة كما تقول عنها الأساطير. على هذه الأرض، وقعت معركة كبيرة بين أسياد العالم والعمالقة. انتصر الأسياد واندثرت العمالقة من الوجود. هكذا هو التاريخ؛ يختفي منه الكثير من الأشياء دون أن نعرف حقيقة كل شيء. لا نسمع سوى مزيج مما يريدوننا أن نعرفه، بينما تبقى الحقيقة الكاملة مجهولة.

عامة الشعب، مثل الجنود في لعبة الشطرنج، يتلاعب بهم من هم في القمة كيفما يشاؤون. مجموعة من النمل تتحرك بالشكل الذي يريده الأسياد دون أن تتساءل. في هذه الأرض الشاسعة، كانت توجد مدينة كبيرة للغاية تُسمى بابل. كانت بابل مليئة بالمباني العملاقة والبيوت التي لا تنتهي، ولكن في تلك اللحظة كانت خاوية من البشر. لم يكن هناك أحد على الإطلاق.

لو نظرت إلى الشوارع بعناية، لما وجدت بشرًا. شمس مرتفعة في السماء، ومبانٍ كبيرة مغلقة النوافذ، وهواء هادئ يبعثر التراب مع الريح. كانت الأجواء مشوبة بالصمت الكئيب، وكأن المدينة توقفت عن التنفس. شوارعها العريضة، التي كانت تكتظ يومًا ما بالباعة المتجولين والأطفال الذين يلهون، بدت الآن كأنها شبح لما كانت عليه.

ومن العدم، ظهر صوت خطوات أقدام. كانت خطوات صغيرة لطفل صغير يرتدي قميصًا أبيض متقطعًا من عدة أماكن، وبنطالًا قصيرًا أسود. عيونه كانت سوداء مثل شعره، ووجهه لطيف ولكن يظهر عليه الضعف وقلة التغذية. كان يجري بسرعة كبيرة كأنه يهرب من شخص ما... أو من شيء ما.

كان قلبه ينبض بقوة، وكأنه طبول الحرب تدق في صدره. كان يمكنه أن يشعر بالعرق البارد يتساقط على جبينه، ونفسه اللاهث الذي يحاول اللحاق بخطواته المتسارعة. كان الهواء البارد يلسع وجهه، ويشعره بالمزيد من الرهبة كلما اقترب من المجهول.

عندما وصل إلى أحد الأزقة، توقف مكانه ونظر إلى السماء بعيون هادئة. نظر باتجاه شيء لم يتصور أنه سيراه في حياته الصغيرة. كانت هناك جزيرة تطوف في السماء، جزيرة ضخمة تبدو وكأنها قطعة من الجنة تساقطت من الأعلى. كانت كبيرة للغاية حتى أن ظلها وحده كان يخفي العديد من المباني تحتها.

كانت الجزيرة تحلق بسلاسة، وكأنها معلقة بخيوط غير مرئية. من أسفلها، كانت تتدلى جذور عملاقة، ملتفة ومتشابكة، تشبه أيديًا عملاقة تحاول الإمساك بالأرض. كانت الجذور نفسها تتوهج بألوان غامضة، تشع نورًا خافتًا يتلألأ في الهواء المحيط بها. وأشجار ضخمة بتيجان وارفة ترتفع نحو السماء، تتمايل أغصانها كما لو كانت تهمس بأسرار الكون.

كان الطفل ينظر إليها بشغف شديد وتنهد قائلاً في صمت، "جزيرة السماء... إنها حقيقة."

كانت الجزيرة تشع هالة من القوة، تشعرك بأنها أقوى شيء في العالم. كان يمكن أن يشعر بها كأنها نبضات قوية تصدر من قلب الجزيرة، تخترق الهواء وتصل إليه، تملؤه بالإعجاب والخوف في آن واحد. كان يقف هناك، مبهورًا ومذهولًا، مشدوهًا بروعة المشهد وجلاله.

في بابل، لم يكن هناك أحد يرى هذا المشهد غير هذا الطفل، الذي لم يستوعب ما يراه تمامًا. كان شعوره مختلطًا بين رهبة الموقف وجمال اللحظة، كأنه يعيش حلمًا سرياليًا.

"قف عندك أيها الجرذ! من سمح لك أن تنظر إلى الأعلى؟" قالها جندي يرتدي ملابس سوداء وعلى كتفه شارة تدل على رتبته المتدنية. كان صوته قاسيًا ومليئًا بالازدراء، ليقطع على الطفل لحظة التأمل ويعيده إلى الواقع القاسي.

وعلى خصره سيف طويل للغاية. نظر الفتى الصغير إلى الجندي بعيون مرتبكة، ولكن لم يظهر بها الخوف. كانت عيونه تلمع بتحدٍ غامض، كأنها تحتوي على شعلة لا تنطفئ.

"أنا لست جرذًا، لدي اسم. اسمي رعد."

ضحك الجندي بسخرية، وصوته كان جافًا وباردًا كريح شتاء لا ترحم. "هل أصبح للجرذان أسماء؟ سأقطع اليوم لسانك اللعين لكي أجعلك تدرك مكانتك."

ثم، بضربة قوية من ظهر سيفه على وجه رعد، جعلته يطير مبتعدًا ويصطدم بالأرض بقوة شديدة. تردد صوت الاصطدام في أرجاء الشارع الفارغ، كأن الأرض نفسها تألمت.

"أنتم العامة يجب أن تدركوا مكانتكم." كانت كلماته تحمل معها وزن آلاف السنين من الاضطهاد والقهر. بالفعل، مكانة العامة في أي مجتمع هي في أسفل الشريط. حتى وإن حاولوا أن يوهموهم بعكس ذلك، إذا تدبرت حقيقة الأمور، ستجد تلك الحقيقة واضحة أمام عينك: أنت في الأسفل. إذا دهسك وزير أو حتى ابن من أبناء الأغنياء، ستختفي بدون أثر، ولن يسمع عنك أحد. أنت فقط بخير لأن لا أحد يراك. ولكن عندما ترى، يجب أن تأكل أو تؤكل. في الأغلب، ستكون أنت الطرف الذي سيتم أكله.

تلقى رعد الضربة بوجهه الصغير الضعيف، الذي بدأ ينزف الدماء. وضع يده على الدماء التي تنزل من وجهه ونظر إلى الجندي. كان وجهه يشع بإرادة قوية، كأن الدماء التي تسيل من جرحه كانت تغذي شجاعته. وقف بحرص وهو يقول، "أقسم بدمائي أني سوف أضع يدي على جزيرة السماء."

نظر الجندي بغضب شديد وضغط على السيف في يده، عروقه تتضخم من شدة الانفعال. "أيها اللعين، كيف تتجرأ وتقول تلك الكلمات؟ اليوم سأجعلك تندم على أنك تم إنجابك من الأساس."

بدأ رعد في الهرب بسرعة نحو نفق صغير أسفل أحد المنازل. كانت خطواته ثقيلة ومتعثرة، ولكنها لم تتوقف. بدأ في الزحف وهو يسمع صراخ وسب الجندي من الخلف. كان مرهقًا بسبب الضربة التي تعرض لها، ولكن مع ذلك لم يكن خائفًا. كان ما زال يتذكر شكل جزيرة السماء في عقله، كأنها محفورة في ذاكرته بألوان لا تبهت.

في مدينة بابل، كل عشر سنوات تظهر تلك الجزيرة في السماء ويُمنع الناس من النظر نحوها. لا أحد يعرف لماذا، ولكن من يخالف ذلك الأمر هناك عقاب بشع في انتظاره. عمر رعد اليوم عشر سنوات. وبرغم ذلك، لم يلتزم بذلك القانون الصغير ونظر نحو السماء. لقد ظهرت تلك الجزيرة في حياة هذا الطفل مرتين فقط: عندما وُلد أول مرة، وهذه المرة. روحه المتمردة لم تستطع أن تجعله يجلس في المنزل ولا يعرف ماذا يوجد في الأعلى.

استمر في الزحف دون توقف. كانت إرادته عالية للغاية، كجبل لا يُهزم. برغم الرائحة البشعة في النفق الصغير، برغم الظلام الذي يحيط به من كل جانب، برغم أن الهواء كان ثقيلاً وملبدًا برائحة العفن، وبرغم الألم الذي كان يشعر به في جسده الصغير، كان يتحرك إلى الأمام. كانت قدماه تتسلقان الصخور، ويداه تمتدان ليجد لنفسه موطئ قدم جديد. لم يكن يرى ضوءًا في نهاية النفق، ولكن كان لديه شعور عميق بأن النفق يقوده إلى مصيره.

كان يعلم أن هذه الرحلة هي اختباره الحقيقي. كان يعلم أن قوته لن تأتي فقط من عضلاته، بل من قلبه وروحه. كان يسمع صوت الجندي يتلاشى تدريجيًا خلفه، ولكنه لم يلتفت. كانت عيناه مثبتتين إلى الأمام

في مكان آخر في بابل، في قصر بمنتصف المدينة مزين بالكثير من التماثيل وأبوابه من الذهب، يقف أمامه مجموعة من الحراس يحموه بقوة شديدة. كان يوجد صوت من الضجيج والضحك والموسيقى، على عكس باقي مدينة بابل. كان هذا القصر مليئًا بالضجة التي لا تنتهي والأصوات التي لا تتوقف على الإطلاق.

وقف شخص في منتصف غرفة مليئة بالنبلاء الذين لا يتوقفون عن الرقص أو حتى عن الشرب. كان يرتدي بدلة زرقاء اللون، وكان شعره أصفر وعيونه صفراء مثل شعره. يحمل في يده كأس من الخمر، وقال وهناك ضحكة ترتسم على شفتيه، "اليوم هو موعد رؤية ما لا يستطيع أي أحد أن يراه. اليوم سوف ترون ما أتيتم من أجل رؤيته."

انفتحت النوافذ من خلفه، وظهرت السماء عالية. كانت هناك جزيرة تطير في السماء، جزيرة تسحر الألباب بجمالها وغموضها. بدأ الكؤوس تسقط من أيدي الجميع وهم ينظرون إلى الجزيرة الطائرة. كانت عيونهم مليئة بالدهشة والانبهار، كأنهم يشهدون معجزة من السماء.

القوانين لم توضع لكي ينفذها الجميع. وضعت فقط لكي تتحكم في العامة، لكي يتبعها الحمقى ويمشي خلفها البهائم لكي تتحكم بهم وتحاصرهم. ولذلك عاقبوا رعد بينما يتراقص النبلاء على أنغام السماء. جعلوا ما هو ملك للجميع شيئًا خاصًا بهم، حتى السماء وما فيها.

خرج رعد من النفق بعد معاناة كبيرة. كان في منطقة بعيدة نسبيًا عن وسط المدينة. كانت تلك منطقة مختلفة قليلاً عن المباني الكبيرة. كانت تبدو مهجورة أكثر، فقيرة أكثر، وبعيدة أكثر عن عيون الأغنياء حتى لا يروا قبح العالم الذي صنعوه. "أعرف أنك تعاني، ولكن لا أريد أن أراك حتى لا أشعر بذلك الألم في معدتي. لذلك أبعدكم عنهم حتى لا تشعروا أنتم أيضًا بذلك الألم في أمعائكم. هههههههههههههه."

نظر رعد إلى منزله الذي كان يبدو قديمًا وعلى وشك السقوط. من خلفه، سطعت الجزيرة الطائرة كأنها تخبره أن العالم أكبر مما يعتقد. دخل إلى منزله بخطوات ثابتة، ولم يكن يعرف أن هناك من يلاحقه وسيجعله يندم على أنه تم إنجابه في هذا العالم.

2024/06/19 · 52 مشاهدة · 1311 كلمة
joker
نادي الروايات - 2024