في أعقاب معركة ضارية، تُركت ساحة القتال مُلطخة بالدماء والجثث المتناثرة. وقف الجوكر وسط الدمار، عيناه تحدقان في السماء الباردة، التي لا تكترث بما يجري تحتها. كانت الشمس تشرق بلا مبالاة، والنجوم تتلاشى، وكأنها تهمس بأن العالم سيستمر في دورانه، بغض النظر عن الخسائر والأحزان.
كان راموس ينظر إلى الجوكر بإعجاب، وكذلك فعل كل من حوله. في تلك اللحظة، ظهرت مجموعة من الجنود تتقدم نحو الأسوار من داخل المدينة، متجهة إلى السور.
كانت نور تندفع على حصانها، تقود مجموعة من الفرسان. لاحظت من بعيد ومن مراقبتها للمعركة وتحليلها أن جيش العدو قد ركز هجومه على البوابة التي يدافع عنها الجوكر وأن الجنود الذين في الأمام لا يهاجموا بشكل حقيقى لأن هناك الكثير من الفرص التي لم ينتهزه هؤلاء الجنود ، وأدركت أن المائتي مقاتل الذين رافقوا الجوكر لن يكونوا كافيين لصد هذا الهجوم الضاري. انطلقت مع مجموعة أخرى من الجنود، وتتمنى أن تصل إلى هناك قبل فوات الأوان، خوفًا من أن الجوكر وراموس لن يستطيع الصمود وحدهم.
"سيدتي، أعداد جنودنا قليلة جدًا. يبدو أنهم هُزموا"، قال أحد جنود نور وهو ينظر إلى أعلى الأسوار والى جنود راموس الواقفين .
قالت نور بهدوء وثبات: "لكن البوابات لا تزال مغلقة". ثم نظرت إلى الجنود وصرخت بصوت قوي: "كفوا عن الهمسات وانطلقوا بكل ما أوتيتم من قوة".
نظرت إلى الأسفل ورأت جيش العدو يهرب، بينما كان الجوكر يقف وحيدًا بين الجثث، سيفه المكسور في يده وملابسه ممزقة وملطخة بالدماء. بدا عليه الإرهاق والتعب، لكنه ظل شامخًا كالجبل، جسده المتعب يحمل على كتفيه ثقل المعركة بأكملها. كل نفس يأخذه كان بمثابة صرخة تحدٍ في وجه الموت والإرهاق، وكل نبضة في قلبه كانت بمثابة دقات طبول النصر. حتى في لحظة ضعفه، كان هناك هالة من القوة والعظمة تحيط به، تجعل منه رمزًا لا يُقهر.
اقترب راموس من نور وانحنى على ركبته وقال: "سيدتي، لقد صددنا الأعداء".
في تلك اللحظة، جاء جندي من الخلف وقال بصوت مليء بالحماس: "لقد وصل والدك يا سيدتي مع الدعم".
شعرت نور بالراحة وكأن ثقلًا كبيرًا قد أُزيح عن جسدها. بدأت في البكاء وقالت بصوت متردد: "لقد نجونا". ثم نظرت إلى الجوكر وهمست في نفسها: "وهو السبب".
لكن الجنود الذين رافقوها طوال المعركة، والذين شهدوا شجاعتها وثباتها، لاحظوا شيئًا آخر في تلك اللحظة. رأوا كيف ارتخت كتفاها، وكيف تسللت دمعة هاربة من عينيها، وكيف ارتجف صوتها وهي تنطق بكلمات النصر. أدركوا فجأة أن قائدتهم، التي بدت لهم كصخرة صلبة لا تتزعزع، كانت تخفي تحت قناع القوة قلقًا عميقًا وخوفًا على مدينتها وشعبها.
همس بعض الجنود فيما بينهم، معجبين بقوة شخصيتها وقدرتها على إخفاء مشاعرها الحقيقية. "إنها قائدة حقيقية"، قال أحدهم. "إنها تعرف كيف تحافظ على معنويات جنودها عالية، حتى عندما تكون هي نفسها على وشك الانهيار".
"وهذا الجمال الأخاذ"، همس آخر، عيناه تتبعان خصلات شعرها الذهبية التي تراقصت في النسيم. "إنها تستحق أن تكون ملكة".
لكن الغريب أن الجوكر، ذلك العملاق الذي وقف كحائط صد منيع وسط ساحة القتال الملطخة بالدماء، لم يبدِ أي رد فعل. ظل شامخًا في مكانه، عيناه تحدقان في السماء البعيدة، كأنه يبحث عن إجابة لسؤال لم يُطرح بعد. قبضته على سيفه المكسور تشددت، عروقه تبرز تحت جلده المشدود، كأنما يحاول أن يحافظ على آخر ذرة من القوة المتبقية في جسده المنهك.
"هل هو بخير؟" تساءلت نور بصوت يرتجف قليلًا، قلقة على مصير هذا البطل الذي أنقذ مدينتها. لم تستطع رؤية وجهه، لكنها شعرت بقلق عميق يتسلل إلى قلبها.
عاد الجنود الذين كانوا يطاردون فلول جيش العدو المهزوم، وجوههم تعكس مزيجًا من الارتياح والدهشة. قال راموس، بصوت حازم: "أولاف، أسرع وتأكد من حالة الجوكر".
انطلق أولاف كالسهم نحو الجوكر، عيناه مليئتان بالقلق. اقترب منه ولاحظ أن عينيه مفتوحتين على وسعهما، تحدقان في الفراغ، ويده لا تزال قابضة على سيفه بقوة. وضع يده على رقبة الجوكر، محاولًا جس نبضه. وفجأة، انتفض جسده، وصرخ بصوت عالٍ أرعب الجميع: "لقد... لقد أغمى عليه...!"
ساد الصمت المطبق ساحة المعركة للحظات، ثم انفجر الجميع في صيحات الدهشة والقلق. كيف يمكن لهذا البطل الذي صمد أمام جحافل الأعداء أن يسقط فجأة؟ كيف يمكن لهذا العملاق الذي بدا وكأنه لا يقهر أن يغلبه الإرهاق في النهاية؟
نظرت نور إلى الجوكر، وابتسامة حزينة ترتسم على شفتيها. قالت بصوت هادئ لكنه يحمل في طياته قوة لا يمكن إنكارها: "هذا الشاب هو السبب في أننا على قيد الحياة اليوم. لقد ضحى بنفسه من أجلنا، والآن حان دورنا لنرد له الجميل". ثم وجهت أمرها إلى الجنود: "احملوه بحرص، كأنه كنز ثمين".
تقدم الجنود نحو الجوكر، كل منهم يحاول أن يلمس هذا البطل ولو للحظة، كأنهم يبحثون عن بركة في جسده المنهك. حملوه برفق، كأنهم يحملون قطعة كريستال ثمينة، واتجهوا نحو قلعة الصاوي، حيث سيحظى بالعناية التي يستحقها.
-----------------------------
على الجانب الآخر، كان الجنرال الأعلى لدولة غاش يغلي غضبًا حتى أنه قتل الرسول الذي أخبره بنتائج الحرب الكارثية.
"سيدي، يجب أن ننسحب! لقد فشلت الخطة!" صرخ أحد مساعديه، وقد بدا عليه الذعر. "الجنرال الصاوي وصل إلى المعركة! إذا استمرينا أكثر من ذلك، سوف يتم القضاء على كامل الجيش!"
لم يستطع الجنرال أن يضحّي بكل قوته في هذا المكان. لقد وضع خطة محكمة للاستيلاء على قلعة الصاوي وميناء كتنام دون إزهاق الكثير من جنوده، لكي يتمكن من السيطرة عليهما لأطول فترة ممكنة. لم يتصور أبدًا أن كل هذا سيفشل، وأن جنوده الذين كانوا سيهاجمون البوابة الخلفية سيتعرضون للإبادة. هذا وحده كان كفيلاً بوصول الجنرال الصاوي وتغيير موازين القوى في الحرب. كانت هذه هي إشارة الانسحاب.
بدأ العديد من الجنود بالانسحاب إلى السفن، وجنود كمب يصرخون بصوت عالٍ: "ملاعين غاش! إلى أين تهربون بحق الجحيم؟ هل تظنون أنكم قادرون على وضع أقدامكم اللعينة على أرضنا وتنجوا بسلام؟"
بسبب الانسحاب غير المنظم، تعرض الكثير من الجنود للإبادة، وخسرت غاش عددًا كبيرًا من جنودها في تلك اللحظة.
في خيمة تحمل علم الصاوي، مما يدل على أن الجنرال بداخلها، دخل جندي بسرعة شديدة وأعلن: "سيدي، لقد هرب الأعداء!"
في الحقيقة، لم يكن الجنرال قد استيقظ بعد، ولكن مستشاره فهد قرر أن يقوم بخطوة لتغيير كل شيء. قام برفع علم سيده وانطلق وصعد فوق الجبل مع بعض الجنود، ورفعوا بعض الرايات التي تدل على أن الجنرال وصل.
عندما رأى جنود غاش ذلك، انسحبوا دون تفكير بعدما نشروا هم بأنفسهم إشاعة وصول جيش الجنرال الصاوي.
بدأ الجنود والضباط في احتضان المستشار فهد الذي أنقذ المدينة بذكائه وحنكته. لكنه نظر إلى مدينة كتنام وقال: "من أنقذ قلعة الصاوي وميناء كتنام هم الجنود الذين قاتلوا دون قائد".
لم يكن المستشار فهد يعرف أن اسمه سوف يتردد في تاريخ هذه القارة، ليس فقط بسبب هذه المعركة، ولكن بسبب أنه سوف يكون المستشار الاستراتيجي الخاص بأعظم جنرال على الإطلاق: الجوكر. لقد استغل فهد ببراعة حالة الفوضى والارتباك في صفوف العدو، ونجح في خداعهم ببساطة شديدة. لقد أدرك أن جنود غاش، بعد تعرضهم لخسائر فادحة وهزيمة قواتهم عند البوابة الخلفية، كانوا في حالة معنوية متدهورة، وأن أي إشارة إلى وصول تعزيزات للعدو ستكون كافية لكسر إرادتهم ودفعهم إلى الفرار.
رفع رايات الجنرال الصاوي على الجبل، ونشر إشاعة وصوله، كانت بمثابة الضربة القاضية التي حسمت المعركة لصالح كمب. لقد أثبت فهد أنه ليس مجرد مستشار عسكري، بل هو عبقري استراتيجي، قادر على قراءة ميدان المعركة وتحويل دفة الحرب لصالحه بأقل الخسائر.