للمرة الثانية وقف إبرو مكانه دون حراك فقط تنساب دموعه الدافئة على وجنتيه دون توقف . ظل يقرأ الكلمات حتى حفظها بعدها شعر أن بمقدوره التحرك من مكانه من جديد . مسح دموعه و بدأ يتسائل :

-ما معنى كل هذا ؟ ما الذي يحدث ؟

-معنى ذلك أنني أئتمنك على هذا كله . عليك أن تعدني أنك ستبحث عنه و حين تجده أخبره بكلماتي . هذا آخر طلب لي .

انتفض جسد إبرو من مكانه كالمصعوق . تلفت حوله في ذعر لكن لذهوله لم يجد شخص حوله . كان الصوت الذي سمعه واضحا للغاية كما لو كان الشخص ذاك يقف إلى جواره . أخذ يحدق في المكان دون جدوى ليعود الصوت الرقيق قائلا من جديد :

-لا تبحث عني فهذا آخر قوة أمتلكها بعدها سأغادر العالم كله و لن يصبح لكياني وجود .

هذه المرة كان إبرو مركزا بعناية حتى يحدد مكان الصوت حين يصدر . لكن على الرغم من ذلك لم يستطع تحديد مصدره . تلفت مجددا في المكان و سقطت عيناه على التابوت المغلق . نعم , ربما تكون صاحبة الصوت هي من تركت تلك الرسالة على شاهد قبرها و جسدها الآن ملقى في داخل التابوت المغلق .

-سيدتي هل أنتِ .. هل أنتِ في التابوت ؟

-لا , أنا لست في التابوت .

شعر إبرو بالغرابة , فإن لم تكن في التابوت فأين هي الآن ؟ نظر للشاهد المنصوب أمامه ثم قال متسائلا :

-هل إذن أنتِ سيدتي موجودة في الشاهد ؟

-لا , ولا تتعب نفسك بالبحث عني فكما أخبرتك أنا أحدثك بآخر ما تبقى لي من طاقة . لا تضيع الوقت في محادثتي فهناك أمور أهم علي أن أخبرك بها و أن تفعلها . ما اسمك ؟

تردد إبرو لوهلة لكن سرعان ما أجابها قائلا :

-اسمي إبرو سيدتي .

-أخبرني إبرو كم مضى من الوقت على تدمير هذا العالم الذي أنت فيه الآن ؟

-تعنين عالم ريلانت سيدتي ؟ مضى قرابة خمسمئة ألف عام منذ تدميره .

-خمسمئة ألف عام ؟ فترة طويلة . أخبرني هل استطعتم التخلص من وحوش موليس ؟

-وحوش موليس ؟ نحن لا يوجد في عالمنا سوى وحوش ن..

توقف بغتة مبتلعا كلماته . فالشاهد الذي أمامه يخبره أن اسم هذه السيدة هو نرو , ليس من الحكمة أن يخبرها بأنهم يطلقون على الوحوش تلك اسمها و إلا ربما ستثور و تغضب . هو لازال جاهلا لوجودها , و هذا دليل كافي على أنها في غاية القوة و الخطورة . عليه أن يكون حذرا في التعامل معها . شعرت نرو بتردد إبرو و إضطرابه فقالت بصوتها الرقيق :

-لا تقلق مني فأنا لا أضمر لك شرا . انت كنت تقول ان الوحوش الموجودة في عالمك معروفة باسم وحوش نرو ؟

تردد إبرو كثيرا قبل أن يكتفي بإيماءة من رأسه , سمع بعدها تنهيدة طويلة منها ثم قالت بنبرة شعر معها إبرو بخيبة أمل كبيرة :

-هذا يعني أن خطتي بإستخدام البرنامج التقني قد فشلت . أخبرني إبرو كيف وصلت إلى هنا ؟

هذه المرة لم يتردد إبرو عن إخبارها . رغم جهله بطريقة دخوله إلى هنا إلا أنه متيقن أن لتلك السيدة التي تحدثه ضلع في ذلك . كما أحضرته فبإمكانها إعادته , أو هكذا كان يأمل . سرد لها كل شيء بدءا من بدء رحلته من معسكر رونات و شعوره الغريب بالخطر الذي غمره مرورا بإستيقاظه في تجويف غريب في هذا الكهف العملاق نهاية بمقابلتها . بعدما انتهى تسائلت السيدة قائلة :

-لاحظت أن مستواك ضعيف . كيف وصلت إلى هنا بذلك المستوى ؟ هل تدنى حال ريونيد إلى تلك الدرجة ؟

-كلا سيدتي . أنا لاعب جديد في عالم اكتشفته لعبة ريونيد . لم يمر على لعبي للعبة أكثر من أسبوع .

-أسبوع ؟ كيف هذا ؟

بدا على صوتها الدهشة الواضحة و الخوف الشديد كما لو قام إبرو بإخبارها بشيء كارثي لم تتوقعه للتو . لم يعرف إبرو بم يجيبها , فهو نفسه لا يعرف لماذا حضر إلى هذا المكان . حاول استنباط بعض من المعلومات بشأن رحلته إلى هنا , فعلى ما يبدو أن تلك السيدة قد تركت شروطا في المكان المحيط بالبوابة من تنطبق عليه الشروط يتم نقله إلى هنا . ربما هي مندهشة لأن من انطبقت عليه تلك الشروط كان شخصا حديث العهد باللعبة و ضعيف مثله . لو كان مكانها و صح تخمينه لشعر بنفس الدهشة تجاهه . لكن ما سبب نبرة الفزع تلك إذن ؟ مم تخاف ؟

-لا يهم الآن فقد انتهى كل شيء . الآن انصت لي جيدا يا إبرو فما سأقوله لك ربما لن تصدقه لكن عليك ألا تنساه قط فيوما ما ستعرف أنني كنت محقة . كذلك لا تنسى كل الكلمات التي قرأتها على شاهد قبري . امنحني كلمتك بأنك تفهم ذلك و ستحاول الإلتزام به قدر المستطاع !

تذكر إبرو الكلمات المكتوبة على وجهي الشاهد . كانت تلك الكلمات مؤثرة بشكل قوي فيه . ربما أكثر ما أثر فيه كانت جزئية بسيطة لكنه لم يقدر على تجاوزها حتى الآن . كان يشعر بأن السيدة تنظر نحوه منتظره رده فقال في جدية تامة :

-لن أمنحك كلمتي بل سأمنحك وعدي و قسمي . لن أخذلك سيدتي مهما حدث .

شعر بعدما انتهى من كلماته التي كان يعني كل حرف فيها بزلزلة قوية أصابت العالم كله من حوله . شعر إبرو بالذعر و تلفت حوله في ذهول تام ! هل هذا المكان كله داخل جسد السيدة ؟ كان إحتمالا جنونيا ! حينما هدأ إرتجاج العالم من حوله سمع إبرو كلمات السيدة كهمس تتحدث به مع

نفسها لا معه :

-لا أعلم كم مر من الوقت لم أسمع فيها ردا مثل ردك يا صغير . الآن فهمت لماذا اختارتك ريونيد , و كيف جئت إلى هنا .

صمتت بعدها و إبرو لازال جاهلا لما تعنيه بكلماتها تلك إلا أنها أتبعتها قائلة :

-مادمت قد وعدتني و أقسمت على ذلك فسأخبرك بكل شيء يمكنك أن تعرفه . في البداية عليك أن تعرف أنني يمكنك وصفي بريونيد , أول من وطأت قدماه أرض أبيدون . هذه المعلومة مكتوبة في مدينة أبيدون و لن يقدر أحد على محوها . لكن لا تشعر بالدهشة من ذلك فأنا مجرد سيدة مررت بتجارب صعبة , سيدة ذات مصير سيء للأسف . أتمنى من كل قلبي أن يكون مصيرك مختلفا عني . اعذر ثرثرتي فأنا لم أتحدث مع أحد منذ فترة طويلة , طويلة للغاية .

هز إبرو رأسه نفيا و هو يقول :

-لا تقولي هذا سيدتي , تحدثي كما تشائي فأنا سعيد للغاية بالتحدث معكِ .

لم يكن ينافقها أو يجاملها لكن هو بالفعل يشعر بشيء من الصلة بينه و بينها . كان يرغب في سماع المزيد من كلماتها حتى و إن كان ذلك لا يعني شيئا له . تابعت السيدة قائلة :

-انا كذلك سعيدة للغاية بمعرفتك يا إبرو . كما قرأت على شاهد قبري فأنا قد جئت من خارج كل هذه العوالم التي تعرفها . ما لا تعرفه أن كل هذه العوالم مجمعة لا تعتبر سوى نقطة في بحر الكون الفسيح الذي نحن فيه . في هذا الكون كقانون كل شيء , الخير و الشر . كما عرفت من

الشاهد فأنا منحدرة من حضارة اسمها بونيل . رحلت عن بونيل برفقة أغلى شخص في حياتي . رغم أنه لم يخبرني يوما عن مشاعره لكن أفعاله كانت تفضحه و شاهدة على ما يكنه لي من مشاعر . لا وقت لهذا الحديث الآن فقد مضى وقت طويل على ذلك . حضارتنا في بونيل كانت حضارة مبنية على العنصر التقني . رغم أننا وصلنا في اوج قوتنا لصورة لن تتخيلها قط , فعلى سبيل المثال كنا نسيطر على عدد لا يُحصى من العوالم التي واحد منها كان لا يقل ضخامة عن عالم ريونيد بعوالمه الفرعية . لكن كان لنا عدوا متربص بنا . هذا العدو كان يضع نصب عينيه مهمة

تدمير الكون كله . لا يهم أي حضارة أو قوة في الكون فحين كان موليس يضع نظره على أحد كان مصيره الدمار و الخراب . لم تنجو حضارتنا من المصير ذاك , لذلك هربت أنا و ريونيد مبتعدين قدر الإمكان عن موليس . كنا نعرف بوجود عوالم غير مكتشفة بعد في أحد أركان الكون القصية , لذا وضعنا نصب أعيننا عالم ريونيد و قررنا الهرب إليه . لكن خطتنا لم تنجح يا إبرو , فقد لاحقتنا جيوش موليس و نيتها أن تقوم بتدميرنا . لموليس قاعدة غريبة , إن قامت بالهجوم على حضارة ما فلن يهنأ لها بال حتى تقتل حتى آخر فرد فيه حتى لو هرب لأخر الكون . لو

فشلت موليس في قتل الجميع فلن تتحرك للهجوم على حضارة أخرى . قضت خطتي انا و ريونيد أن نهرب سويا إلى هذا الجزء المجهول عن الجميع و نختبيء فيه ثم نقوم ببناء حضارة بونيل من جديد . كان السبب وراء ذلك أن ريونيد كان مقدر له أن يكون ملك بونيل آنذاك و كنت مقدرة أن أكون منافسته على العرش . لكن شاءت الظروف أن تتحول عداوتنا اللدودة إلى نبضة رومانسية سيطرت علينا سويا , حتى أنه تنازل عن العرش لي و تنازلت أنا عن العرش له . حينما وجد ريونيد ألا مجال للهرب من براثن وحوش موليس عرض علي أن يقوم بتضليلهم و أتجه أنا صوب هنا . لم يمنحني الفرصة للإعتراض و أرسلني بأداة معه لمسافة شاسعة خلالها تحرك مبتعدا في الإتجاه المقابل . بحثت كثيرا لكني لم أجده . كل ما قاله لي قبل إرسالي بعيدا عنه هو كلمته لي بعودته . حين لم أقدر على إيجاده و كدت أقع في قبضة موليس أكثر من مرة تحركت

مجبرة في إتجاه هذا العالم . لكن ما إن وصلت إليه حتى وجدت أصابع موليس قد وجدته قبلي . لا أعرف كيف عثرت عليه , لكن لم يكن هذا مهما حينها . كل ما كان بعقلي هو كلمته لي أن أنتظر عودته . كيف أدعه يعود ليقع في براثن موليس من جديد ؟ لذا قررت أن أقاومهم . كانت جيوش موليس ضخمة و كثيرة لكن استطعت التغلب على معظمها و إن كان للأسف فشلت في القضاء عليها . كانت المشكلة تكمن في أن جيوش موليس قد أسست بالفعل قناة إنتقال لهذا العالم . لم يكن هناك من يملك في الكون كله طريقة لتدمير تلك القناة , لكن كان هناك وسائل لإضعاف

قوتها و عزلها عن سلطة موليس ليصبح من الصعوبة إيجادها أو التحكم فيها . كنت أملك في جعبتي طريقة من تلك الطرق لذا تخليت عن حلم تدمير جيوش موليس حينها و قمت بعزل القناة بأداة تقنية و بعدها أسست لمدينة أبيدون فوقها لتحمي تلك الأداة . طالما مدينة أبيدون صامدة ستظل القناة ضعيفة و معزولة عن سلطة موليس . نظرا للعدد الهائل للقنوات التي يتحكم فيها موليس و لإنتشار طرق عدة لتقويض سلطتهم على تلك القنوات فلن يكون لما فعلته أي تأثير على تلك الحضارة البغيضة . فقط سيعتبرونها مجرد قناة أخرى تم تقويض سيطرتهم عليها و

سيتبعون خطواتهم المعتادة حين يحدث ذلك . سيقومون بإرسال جيوش بقيادة وحش جوجناق الوحشي عبر البوابة ليقوم بغزو العالم الذي حدث فيه ذلك التشويش على القناة و معه كل العوالم الفرعية التابعة له . أما عن الأسباب التي تدفعهم لذلك فهذا أمر عليك أن تكتشفه بمفردك فيما بعد , فمن جهة هو ليس سرا بل امرا معروفا و عاديا لجميع سكان الكون الفسيح , و من جهة أخرى أنت ضعيف و لن تفيدك معرفة أمور مثل ذلك الآن . بعدما انتهيت من ذلك كانت قواي على وشك أن تنتهي لكني ضحيت بأغلبها حينها لفعل أمرين , الأمر ألأول هو تفعيل نموذج تجربة من أداة

تقنية كانت تحت التطوير في بونيل , و هذا ما يمكنك تسميته بلعبة ريونيد كما تعرفها و يعرفها الجميع هنا . كان الهدف من ذلك هو محاولتي لإعادة إحياء حضارة بونيل في هذا المكان . كذلك كنت أهدف إلى تكوين جيوش تقدر على مساعدة ريونيد حين يعود إلى هنا . أما الأمر الآخر فكان ضرورة التخلص من الوحش الذي أرسلته موليس إلى هنا . فهذا الوحش كان كارثة و لا يمكن لأحد في الكون القضاء عليه دون أن يفقد حياته . المشكلة أنني لو تخلصت منه في نطاق سيطرة قناة إنتقال موليس لعرفوا بالأمر و حينها سيرسلون وحشا آخر . لهذا كان علي أن أنتظر و

أصبر حتى أقدر على إستدراج الوحش بعيدا عن سيطرة موليس . أثناء ذلك كنت في سبات عميق منتظرة الفرصة حتى سنحت لي ببزوغ عالم جديد بعيد عن نطاق القناة . قمت حينها بإستخدام أداة ريونيد في توجيه كل من تحت سيطرة أبيدون ليقوموا بالهجوم على مراكز تجمع وحوش موليس . أثناء ذلك استدرجت جوجناق إلى منطقة من مناطق نفوذهم و كانت على مقربة من أبيدون . حينها استخدمت أداة أخرى لنقله إلى هذا العالم . بالطبع حين أتى إلى هنا شعر بالشك لكني لم أسمح له بنقل جيوشه إلى هذا العالم حيث قمت بتدمير بوابة إنتقاله التي أسسها بالتضحية بجزء كبير من قوته . لولا تضحيته تلك لما قدرت على التغلب عليه و أن أحافظ على قدر من قوتي حتى اليوم .

2020/02/11 · 488 مشاهدة · 2035 كلمة
Ranmaro
نادي الروايات - 2024