الفصل 12: الأرض المقدسة فيليليا
"تكلم يا فيليب… هل أمرتك بتدمير المدينة؟" دوى الصوت من السماء مرة أخرى، أثقل من الرعد.
ارتجف فيليب وسقط على الأرض، رأسه منخفض:"لـ… لا يا سيدي! قلت فقط إنني سأحمي السيدة نينغ إير!"
جاء صوت جيمس هادئا لكنه محشوا بهيبةٍ تسحق القلوب: "جيد. اعتذر من الأمير… ثم دمر ما تبقى من عائلة تشانغ. وبعدها خذ نينغ إير وأعدها إلى عائلتها."
"مـ… مفهوم يا سيدي!" قال فيليب وهو لا يزال ملتصقا بالأرض كأنه لا يجرؤ على رفع رأسه.
عم الصمت… ثم بدأ الجميع ينظرون إليه بذهول تام. ملك في المستوى التاسع يرتجف بهذه الطريقة؟ لم يتخيل أحد هذا المشهد في أسوأ كوابيسه.
ثم دوى الصوت من السماء مرة أخرى، موجها هذه المرة إلى لييان:"أنتِ… يا لييان."
تجمد الدم في عروقها، ووقعت على ركبتيها تلقائيا، فقد توقعت موتها في أي لحظة.
قال جيمس بنبرة لا تحتمل المعارضة:"هذه المرة… أغضيت الطرف عنك. لكن في المرة القادمة التي ترفعين فيها سيفك على أحد أفراد عائلتي… أنتِ تعلمين جيدا ما سيكون مصيرك."
ارتجفت لييان، وعجزت حتى عن الرد، فكل ما استطاعت فعله هو الانحناء أكثر، محاولة أن تُخفي رعشة جسدها.
اختفى الصوت تماما… وتبعه صمت مطبق خنق الهواء نفسه.
كايزر كان لا يزال ملتصقا بالأرض، وأمامه مباشرة كان فيليب، الذي كان هو الآخر ملتصقا بالأرض، كلاهما لم يجرؤ حتى على تحريك رأسه.
بعد لحظات ثقيلة، نفخ كايزر الهواء من صدره: "فيووووه…"
ثم نهض ببطء، وكأنه يخشى أن يصدر صوتا يوقظ غضب سيده من جديد.
لحقه فيليب، الذي وقف وهو ينفض الغبار عن ملابسه، محاولا استعادة هيبته التي سحقت قبل لحظات.
لكن في داخله…
"كيف…؟ كيف وصل صوت السيد من الجبل إلى هنا؟ يالها من قوة مرعبة…"
لم يستطع منع نفسه من ابتلاع ريقه.
ثم اتسعت عيناه قليلا مع إدراك متأخر:
"انتظر… هل كان يراقب كل شيء منذ البداية؟ اللعنة…"
ارتجفت أنفاسه للحظة قبل أن يخفيها سريعا.
"أعتذر منك أيها الأمير هوا." قال فيليب وهو ينحني انحناءة بسيطة.
"لا… لا لم يحدث شيء يا سيدي." قال هوا وهو يرتجف من الخوف ليس خوفا من فيليب، بل من الشخص الذي يقف خلفه والذي أدرك الجميع قوته.
لكن فيليب لم يكتف بذلك.
"لا… أرجو أن تقبل اعتذاري." قالها وهو يطلق قدرا بسيطا من هالته، من دون أن يغير وضع انحنائه.
ارتعد جسد هوا بالكامل، وشعر بضغط خانق حوله، فصرخ بسرعة:
"أ-أجل! أقبل اعتذارك! بالطبع أقبله!"
في تلك اللحظة، امتلأ صدر فيليب غضبا وهو ينظر إلى لييان:
"أنت السبب… تبا لك." قالها في نفسه وهو يرمقها بنظرات حاقدة، ظنا منه أنها السبب الذي جعل جيمس يوبخه.
ثم انطلق فيليب بسرعة هائلة نحو مقر عائلة تشانغ رغم أنه لم يكن يعرف مكانه أصلا.
بدأ يجول في المدينة بأكملها، وكل مكان يجد فيه لافتة أو علامة تحمل اسم تشانغ كان يفرغ غضبه هناك. قتل المئات… بل الآلاف.
لم يفرق بين خادم أو شيخ أو فردٍ من العائلة نفسها. المهم أن يمحو شيئا اسمه عائلة تشانغ من الوجود.
أما كايزر، فاتجه نحو نينغ إير، وبدأ يربت على خديها بلطف حتى تستيقظ.
وبعد فترة، فتحت عينيها ونهضت مذعورة، لكن عندما رأت المدينة سالمة، انهار قلبها فرحًا.
وبعد أن عاد تنفسها لسابقه، رافقها كايزر إلى عائلتها.
في الطرف الآخر، وقف الأمير هوا في مكانه، مصدوما لدرجة أنه نسي كيف يتحرك.
اقترب منه وانغ وقال بصوت خافت:
"صاحب السمو…"
لكن هوا لم يرد. كان لا يزال يحاول استيعاب ما حدث للتو.
كنّا في رحلة تدريب طويلة، وحين مررنا بالقرب من المدينة قررنا التوقف قليلا لنستريح قبل متابعة طريقنا.
لكننا، بدل أن نجد مكانا نخفف فيه تعب أجسادنا… وجدنا أنفسنا في قلب حدث يفوق الوصف.
ملك في المستوى التاسع… وآخر في المستوى الأول أو الثاني…
لكن الرعب الحقيقي كان في ذلك الصوت المجهول الذي جعل هؤلاء الملوك أنفسهم يرتجفون كالأطفال.
أنا ابن الإمبراطور، ولم يسبق لي في حياتي أن رأيت والدي ينقص من احترام شخص في مرحلة الملك، ولا رأيت ملكا واحدا يرتعد خوفا أمامه.
ومع ذلك… فإن ذلك الصوت وحده جعل الجميع يلتصقون بالأرض، عاجزين عن رفع رؤوسهم.
وفجأة… انفجر الأمير هوا بالضحك:
"هاهاهاها! اللعنة! إذا أقمت علاقة مع تلك العائلة… فما نسبة فوزي بالعرش؟!"
ظهرت أسنانه كلها من شدة الضحك، بينما ظل كل من وانغ ولييان ينظران إليه بدهشة لا توصف.
لدى العائلة الإمبراطورية ثلاثة أبناء: الأمير الأول تشون مينغ، وهو وليّ العهد. الأمير الثاني هيون مينغ. أما الثالث… فهو أنا.
كانت المنافسة مشتعلة بين تشون وهيون، بينما بقيت أنا خارج دائرة الصراع؛ لا حليف يقف خلفي، ولا قوة تدعمني… باستثناء خالتي لييان، وهي ملكة في المستوى الثاني، إضافة إلى العجوز وانغ معلمي الذي رباني منذ موت أمي.
لولا هذان الاثنان… لكان اسمي قد مسح من سجلات الإمبراطورية منذ زمن طويل.
فالصراعات داخل القصر أكثر قسوة حتى من تهديدات العالم الخارجي.
تقع إمبراطورية مينغ في عالم أساريلان، وهو عالم شاسع يتكون من خمس قارات.
إمبراطوريتنا توجد في قارة شينيا… لكنها تعد الأضعف بين جميع الإمبراطوريات هناك.
وفي هذه القارة نفسها تمتد الأرض المقدّسة فيليليا… أرض لا يشبهها أي مكان، كيان يقف فوق كل الممالك والإمبراطوريات في قارة شينيا.
إنها منطقةٌ لا يُسمح بدخولها إلا لأصحاب القوة الخارقة والدماء النادرة والمواهب التي يمكن أن تغير مصيرالقارة أو حتى العالم .
تشمخ جبالها كأنها أعمدة تسند السماء، ويحيط بها ضباب روحي كثيف يبتلع كل من يقترب دون أهلية.
يقال إن خطوات قليلة داخل أراضيها قد ترفع المرء إلى مستوى أعلى… أو تسحقه حتى العدم.
هيبة هذا المكان وحدها تكفي لجعل الإمبراطوريات العظمى تتجنب استفزازه، وتُخفي خوفها خلف ابتسامات مصطنعة.
فيليليا… ليست مجرد أرضٍ مقدسة. إنها الكيان الأقوى في القارة بأسرها؛ قوة صامتة لا تتدخل في شؤون أحد، ومع ذلك يكفي اسمها وحده ليردع أمما كاملة.
وهذا سمح للإمبراطوريات الأخرى القضاء على إمبراطورية مينغ، ولولا الشائعات التي تقول إن والد الإمبراطور الحالي قد اخترق عالم الإمبراطور… لكانت أرضنا قد سقطت بالكامل في أيدي الأعداء منذ زمن.
توقفت الإمبراطوريات الأخرى عن إزعاجنا مؤقتا بسبب تلك الشائعات… لكن في النهاية، تبين لهم أن والد الإمبراطور الحالي اخترق بالفعل إلى مرحلة الأباطرة.
هذه الحقيقة يعرفها كبار النبلاء في الإمبراطورية فقط، بينما عامة الشعب وخاصة سكان مينغ لا يزالون يظنون أن الإمبراطور لم يتجاوز مرحلة الملوكية بعد.
لكن داخل القصر… كان هناك ما هو أدهى من جيوش العالم كله.
المؤامرات هنا لا ترى بالعين، لكنها تُغرس في القلب كالسكاكين.
وأقسى تلك السكاكين… تلك التي طعنت بها من شخص كنت أراه أخا.
فمن قتل أمي لم يكن عدوا من خارج الإمبراطورية…
بل كان ولي العهد، ذلك الذي نشأتُ إلى جانبه، وأقسمت يوما أنني أثق به أكثر من نفسي.
كنت أظنه أخي بحق… من دمي، من عائلتي، من لحمي.
كنت أحمل همومه، أفرح لفرحه، وأقف خلفه رغم أن الجميع كانوا يرونني منافسا له.
لكنه… كان يخفي خنجره خلف ابتسامته.
تلك الليلة… كانت الليلة التي فقدت فيها كل شيء.
فقدت أمي… وفقدت ما تبقى من قلبي معها.
كنت هناك. رأيته بأم عيني. رأيتُ أخي ذلك الذي كنت أعتبره دما من دمي يغرس الخنجر في صدرها.
كنت أرتجف… لم أستطع تحريك شفتي، ولا حتى مد يدي لإنقاذها.
ظللتُ واقفا كالأحمق… أشاهد عالمي يتحطم.
وفي صباح واحد… اختفت الحقيقة من الوجود. الشهود اختفوا. الحرس تبدلوا. الآثار محيت.
وكل شيء صمم بإتقان لتحويل الجريمة… إلى انتحار.
"حادثة مأساوية" —هكذا قالوا.
لكنني لم اصدق. لم ابتلع الكذبة. ولم انسَ ولن اسامح.
لقد رأيته يقتلها بخنجر، ورغم ذلك قالوا انها انتحار.
انا الشاهد الوحيد، وحتى لو اختفوا جميع الشهود، كنت هناك… كنت واقفاً امام الحقيقة.
ومع ذلك، لم يصدقني احد.
قالوا انني اطمع في العرش.
قالوا انني اخترع الاتهامات.
قالوا انني مجرد طفل يحسد اخاه ولي العهد.
لكن لا احد رأى ما رأيته… لا احد شعر بما شعرت به… ولا احد سمع صوت امي وهي تلفظ انفاسها الاخيرة بين يديه.
أردت الصراخ، أردت العدالة، أردت أن أرى قاتلها يحاسب. وعندما لم يصدقني أحد، عندما سدت كل الأبواب في وجهي واتهمت بالطمع في العرش…
لم يبق أمامي سوى طريق واحد. توجهت إلى أقوى شخص يمكن أن يلجأ إليه ابن مظلوم… إلى والدي. أجل، والدي الإمبراطور نفسه.
لكن والدي نعم، والدي، زوج أمي لم يفعل شيئا… لا شيء على الإطلاق.
حين واجهته، لم يقل سوى:"هناك أمور أهم من اتهام أحد داخل القصر."
حينها فقط… رأيت الحقيقة. الرجل الذي كنت أراه قدوتي، ومستقبلي، ووطني كله… خانني. خان أمي. وأدار ظهره لدمائها.
كنت في الرابعة عشرة فقط… صغيرا، نعم، لكن لم أكن غبيا. فهمت كل شيء.
والدي كان يعلم. يعلم أن أمي قتلت بيد ابنه… أخي، ولي العهد.
يعرف كل صغيرة وكبيرة تحدث داخل القصر، فكيف يجهل موت زوجته؟ كيف؟
طبعا لم يجهل… لكنه اختار أن يصمت. اختار أن يحمي القاتل… لأنه ابنه.
لأنه الوريث.
وتلك اللحظة… تلك اللحظة بالذات… ولد داخلي شيء آخر. شيء لم أعرفه من قبل.
قسَم… نار… عهد لا رجعة فيه:
سأصبح الإمبراطور.مهما كلّف الأمر.
لكن كيف؟ الجيش كله في يد قاتل أمي. النبلاء يلتفون حوله كالذئاب.
أخي الثاني يملك قوة أمه ملكة في المستوى السابع ويملك المال والنفوذ، وحتى بعض الدعم من النبلاء والوزراء.
أما أنا… فماذا كان لدي؟ لا شيء. لا قوة. لا مال. لا حلفاء. لا حتى حماية.
لم يكن بجانبي سوى شخص واحد… خالتي في المستوى الثاني من عالم الملك.
أتعلم؟ كنت أضحك على نفسي كلما أتذكر هذا.طفل يواجه ذئاب القصر… ويمتلك بجانبه امرأة وعجوز.
لكن… يبدو أن العالم نفسه قرر أن يتغير.ويبدو أن القدر فتح بابا لم يفتحه لأحد من قبل.
_____
كل الشكر للأخ Msab ، فهو من اكثر الأشخاص الذين دعموا الرواية وعلقوا باستمرار، و دا كان دافعا كبير لي لدرجة أنني كتبت هذا الفصل إهداء له.
وأيضا كل الشكر لكل من علق وقرأ ودعم لو بكلمة واحدة فأنتم السبب الحقيقي الي يجعلني استمر واكتب المزيد.
بليل فصل كمان ان شاء الله.
[ المؤلف: Moncef] الفرزدق