الفصل 29: طقطقة الجحيم [2]
"لماذا أخذتم ما أملك؟ لماذا؟"
تمتم جيمس بكلماته المختلطة بالشهقات، ثم طقطق أصابعه مرة أخرى.
في تلك اللحظة، حدثت المعجزة الملعونة. توقف النزيف فجأة، وبدأت الأطراف المبتورة تزحف وتلتحم بالأجساد، واللحم المنصهر عاد ليتماسك ويغطي العظام، والعيون التي جحظت عادت لتستقر في محاجرها.
عادت أجسادهم سليمة ومعافاة تماماً كما خلقوا أول مرة.
ومع سريان العافية في عروقهم، دبت في نفوسهم ومضة غريزية من "الأمل".
تلك الراحة الجسدية الخادعة جعلتهم يظنون للحظة أن الكابوس قد انتهى.
ولكن، سرعان ما تجمدت الدماء في عروقهم المتعافية، فالذاكرة لم تمت. لقد مروا بهذا قبل دقائق قليلة.. إنهم يتذكرون "المرة الأولى".
تحول الأمل في أعينهم إلى رعب مطلق يفوق ألم السلخ.
عرفوا الحقيقة القاسية: هذا الشفاء لم يكن رحمة، بل كان "تجهيزاً" لتبدأ الحفلة من جديد. كانت أعينهم المذعورة مثبتة لا على أجسادهم السليمة، بل على يد جيمس المرفوعة.
لم يمنحهم وقتاً حتى للصراخ استجداءً. طقطق إصبعه مرة أخرى ببرود.
"آه.. لقد عدنا.."
بمجرد سماع الصوت، تبخرت جلودهم مرة أخرى. ولأن ملابسهم كانت قد تلاشت وانهرت تماماً منذ دورة التعذيب الأولى، كانت أجسادهم عارية تماماً ومكشوفة لهذا الجحيم المتكرر.
بدأ الانصهار ينهش لحمهم الذي تعافى للتو. الأطراف التي التحمت قبل ثوانٍ، بدأت تتقطع وتتطاير من جديد.
المشهد كان أكثر دموية وإذلالاً هذه المرة؛ فالقوة الخفية لم تكتفِ بالأيدي والأرجل، بل استهدفت رجولتهم مباشرة، قاطعةً أجهزتهم الذكرية وأعضائهم الحساسة، لتتطاير الأشلاء في الهواء وتختلط بدمائهم المسفوكة.
كانوا يتعذبون مرتين؛ مرة بألم الجسد، ومرة بألم المعرفة.. معرفة أنهم كلما تعافوا، سيعود جيمس ليطقطق أصابعه ويسلبهم كل شيء من جديد.
وقف جيمس تحت المطر القرمزي، يبكي ويضحك، يراقب دورة الفناء والبعث الدموية التي صنعها بيديه المرتجفتين.
فجأة..
جلس جيمس وسط بركة الدماء، لم يعد ينظر إلى السماء ولا إلى الأجساد المعلقة فوقه.
كان ينظر إلى كفيه المرتجفتين، وعيناه تدوران في محجريهما بحركات غير منتظمة، كبوصلة فقدت اتجاهها.
"هششش... اصمتوا!" همس لنفسه، رغم أن الصراخ فوقه كان يصم الآذان، لكنه كان يخاطب الأصوات التي تنهش عقله.
"أترين يا صغيرتي؟ أترين يا حبيبتي؟ لقد صنعت لكم نافورة حمراء... هل يعجبكم اللون؟"
ضحك بصوت مبحوح، ضحكة تشبه صوت تكسر الزجاج، ثم فجأة تحولت ملامحه إلى رعب طفولي، وصفع وجهه بقوة، مرة تلو الأخرى.
"لا.. لا تضحك يا جيمس! هم ليسوا هنا.. لقد ماتوا لأنك ضعيف! أنت لست إلها.. أنت مجرد حشرة تملك أصابع ملعونة!"
رفع يده اليمنى أمام وجهه، حدق فيها بكره شديد وكأنها كائن غريب التصق بجسده.
"أنتِ السبب.. طقطق.. طقطق.. هذا كل ما تجيدينه، صحيح؟" قالها وهو يخاطب يده، واللعاب يسيل من فمه مختلطاً بالدموع.
"أنتِ لم تمسكي يدهم حين سقطوا.. أنتِ فقط تطقطقين الآن!"
وبحركة مفاجئة يملؤها الجنون، غرس أسنانه في معصم يده اليسرى.
لم يكن يعض.. بل كان ينهش. صوت تمزق اللحم سُمع بوضوح وسط الضجيج.
تدفقت دماؤه هو هذه المرة، دماء حارة، لكنه لم يتوقف.
شد بفكه بقوة حيوانية حتى اقتطع قطعة من لحمه وبصقها على الأرض بقر.
"أرأيت؟ الألم جميل.. الألم يجعلك تتذكر أنك حي.. وأنا لا أريد أن أكون حياً!" صرخ بصوت مخنوق.
أمسك بيده الممزقة، وبدأ يضغط بأظافره على جرحه المفتوح، يعبث بأوتار يده وعروقه وهو يقهقه ويبكي في آن واحد.
"انظروا إلي! أنا أشارككم الحفلة! انظروا!" صرخ للأجساد المعلقة فوقه، ثم عاد ليهمس للفراغ بجانبه وكأن طيف زوجته يجلس هناك: "هل ستحبينني الآن؟ أنا أقطع نفسي كما قطعوا قلبي.. سأقطع هذه اليد التي لم تحمكِ.. سأقطع هذه الأرجل التي لم تركض إليكِ بسرعة كافية."
التقط قطعة معدنية حادة من بقايا المكان، وبدأ يضرب ساقه بجنون، يضرب ويضرب بلا رحمة، والدماء تنفجر منه لتختلط بدماء ضحاياه.
"واحد لي.. وواحد لكم.. واحد لي.. وألف لكم.." كان يرددها كأنشودة مرعبة وهو يمزق جسده. "يا رب.. هل هذا يكفي؟ خذ ذراعي.. خذ ساقي.. وأعد لي ضحكتهم ولو لثانية! ثانية واحدة فقط!"
تحول صوته إلى عويل ذئب جريح، بينما استمر في تقطيع أطرافه، غير عابئ بالألم، لأن الألم الذي في روحه كان قد ابتلع كل شعور مادي، تاركاً إياه كتلة من الجنون تنزف وتضحك وسط الجحيم.
****
وصلت جحافل العائلة والاتباع إلى مشارف المدينة المنكوبة. الآلاف تدفقوا دفعة واحدة: مي لينغ بوجها الشاحب، أبناء جيمس المرتجفين، أخوه، حراسه الشخصيون، وحتى فيليب وتلاميذه، وصولاً إلى الملكة لييان والأمير هوا.
خيم صمت ثقيل ومفجع عليهم، صمت لا يكسره إلا صوت "الطقطقة" وصراخ السماء.
تجمدت الأقدام في مكانها. ما إن رفعوا رؤوسهم نحو الأعلى حتى تغلغل الرعب البارد في عظامهم.
المشهد في السماء كان يفوق أسوأ كوابيسهم؛ آلاف الأجساد تُعصر وتُمزق ثم تعود للحياة لتعذب من جديد. الدماء كانت تهطل عليهم كالمطر، صابغة ملابسهم الفاخرة ودروعهم باللون القرمزي.
ولكن الصدمة الأكبر لم تكن في السماء، بل كانت على الأرض.
تحولت أنظارهم ببطء، وعيونهم متسعة من الهلع، نحو مصدر الصوت. هناك، وسط بركة دماء هائلة، كان جيمس.
لم يكن يقاتل عدواً، بل كان يقاتل نفسه.
رأوه يقبض بيده المرتجفة على قطعة حديدية حادة ومتسخة، يغرسها بعنف في لحمه، يشق بها عضلات فخذه وذراعه بوحشية، ثم يشفي الجروح بقوة سحرية، ليعود ويغرس الحديد مرة أخرى ويمزق اللحم مجدداً، وهو يضحك ويبكي في آن واحد كشيطان فقد عقله.
اهتزت مي لينغ وكادت تسقط لولا أن أسندها الحراس.
لكن "لينغ" كان رد فعله مختلفاً. لم يكن الحزن هو ما سيطر عليه، بل غضب عارم.. غضب ممزوج بالقهر لرؤية شقيقه في هذه الحالة المزرية من الانهيار والذل.
"هذا العاهر.. ماذا يفعل بحق الجحيم؟!"
زمجر لينغ بصوت مبحوح من شدة الغضب، عيناه تشتعلان ناراً وهو يراقب جيمس يشوه نفسه.
لم يتحمل رؤية "فخر العائلة" يتحول إلى هذا المسخ المثير للشفقة.
اندفع لينغ نحو جيمس كالثور الهائج، خطواته تطرطش الدماء على الجانبين.
لم ينطق جيمس بكلمة، لم يلتفت ليرى القادمين، كان غارقاً في عالمه الدموي الخاص.
وما إن وصل إليه لينغ، حتى رفع ساقه وسدد ركلة وحشية وقاسية مباشرة إلى وجه جيمس.
"استيقظ أيها اللعين!"
لم يحاول جيمس الصد. لم يرفع ذراعه، لم يمل برأسه لتفادي الضربة، بل لم يرمش حتى.
تلقى الركلة بكامل قوتها واستسلامه المطلق.
طار جسد جيمس المنهك في الهواء كدمية قماشية مهترئة، وارتطم بالجدار الحجري البعيد بصوت تكسر عنيف..
بام!..
سقط بعدها على الأرض، ولكن الصادم أن وجهه بقي خالياً من أي خدش أو دماء. تلك الركلة العنيفة التي قذفت به ليرتطم بالجدار بدت عليه وكأنها مجرد ريشة لامست وجهه الصخري.
لم يهتز، ولم يتألم، وعيناه ظلتا مفتوحتين، شاخصتين في الفراغ ببرود مرعب، كأن جسده قد تجاوز مفهوم الأذى الجسدي تماماً، وروحه لم تكن موجودة لتشعر بشيء.
أنزل لينغ ساقه ببطء وهو يلهث، مثبتاً نظره على الجدار البعيد حيث ارتطم جسد أخيه، وعيناه تملؤهما مزيج من الغضب الشديد وأمل يائس بأن تكون تلك الضربة قد أيقظته.
المفاجأة عقدت ألسنة الجميع.
نهض جيمس من وسط الحطام عند الجدار، وجسده يلتئم بسرعة خيالية. طقطق رقبته بلف رأسه يميناً ويساراً مرتين، ثم ثبت نظره على لينغ من مسافته البعيدة، وابتسامة واسعة ومريضة تشق وجهه.
"هل ضربتني حقاً؟ جميل.. جميل جداً."
رغم بعد المسافة، وصل صوته واضحاً ومخيفاً. حنى جيمس نصف جسده العلوي للأمام وهو لا يزال واقفاً مكانه، محدقاً في لينغ بطريقة مرعبة ومجنونة كحيوان مفترس يستعد للانقضاض، وعيناه تلمعان ببريق لا بشري.
لم يتراجع لينغ، بل صرخ بأعلى صوته ليتجاوز المسافة بينهما: "استيقظ أيها الغبي! ماذا تفعل بنفسك؟ أتعتقد أن هذا سيعيدهم؟! هل إذا رأوك تعذب نفسك سيكونون سعداء؟! أيها العاهر!"
اتسعت عينا جيمس بجنون، وخرج صوت خافت من حلقه تردد صداه في المكان: "هاااه..."
وفجأة، تحول ذلك الجسد الساكن عند الجدار إلى وميض خاطف.
انطلق جيمس نحو لينغ كضوء مرعب يختصر المسافة في لمح البصر، ونية القتل تتطاير منه.
ما إن لمح فيليب هذا التحول، حتى تحركت غريزته القتالية قبل تفكيره. وضع يده على مقبض سيفه، وجسده ينضح بالتوتر استعداداً للاعتراض.
"السيف اليشمي!"
نطق فيليب بصوت جهوري، وسحب سيفه بحركة خاطفة ليقف أمام لينغ كالجبل.
وجه ضربة قوية قطعت الهواء، لتخرج من نصل سيفه طاقة "تشي" هائلة، ممزوجة بين الأخضر والأزرق، اندفعت كطوفان جارف لتصطدم بذلك الضوء المرعب الذي كان جيمس.
_____
بدكم فصل اخر تعليقات كثييرة ، مافي تعليقات مافي فصول.