الفصل 34: سلف امبراطورية المياه الزرقاء
في الجانب المقابل، حيث تتراص صفوف جيش إمبراطورية المياه الزرقاء، ساد صمت مطبق يشبه الموت.
مئات الآلاف من الجنود، نخبة القوات الإمبراطورية، تسمرت أقدامهم في الأرض، وعيونهم شاخصة بذهول ورعب نحو تشكيلات كتائب جيمس في الأفق.
في قلب الجيش، وقف الإمبراطور كايروس وسط حراسه، فكه السفلي يرتجف وفمه مفتوح على مصراعيه، غير قادر على استيعاب المشهد الذي أمامه.
"واحد... اثنان... ثلاثة... أربعة..."
خرجت الكلمات من حنجرته متهدجة، مشبعة بالرعب الخالص.
"أربعة أباطرة؟! ماذا فعلت يا كازمان؟ أي مصيبة جلبتها لكي يقف أمامنا أربعة من ذوي رتبة الإمبراطور دفعة واحدة؟!"
كان جسد كايروس يرتعد كورقة في مهب الريح. في قارة "شينيا"، ظهور إمبراطور واحد هو حدث جلل، فالأرض المقدسة وحدها تسيطر بـعشرين إمبراطوراً، بينما الإمبراطوريات العظمى بالكاد تملك واحداً يحمي عرشها، وربما تخفي آخر أو اثنين كسر حربي..
لكن أربعة في جيش واحد؟ هذا خرق لكل قوانين القوة المعروفة!
فجأة، انشق الهواء بجانب كايروس، وظهرت هالتان مرعبتان جعلتا الجنود المحيطين يتراجعون للخلف.
تقدم عجوز يرتدي رداءً أزرق مزخرفاً ويقبض على عصا ساحر تشع بطاقة مائية كثيفة، وقف بجانب كايروس ونظر إليه باحتقار شديد: "من الذي أزعجته يا كايروس حتى تجلب الدمار والهلاك لإمبراطورية المياه الزرقاء في جيلك؟ إنه لعار سيلطخ تاريخنا بسببه!"
وعلى الجانب الآخر، وقفت عجوز شمطاء، يبدو عليها التقدم في السن لكن طاقتها كانت تضاهي المحيط هائجاً، وهي أيضاً في مستوى الإمبراطور.
بصقت الكلمات وهي ترمق كايروس بنظرة حادة: "تباً لك يا كايروس.. إمبراطور غبي ومتهور، لا تستحق المنصب الذي تجلس عليه."
تصبب العرق البارد من جبين كايروس، ونظر إلى والديه (الأسلاف) بنظرة استنجاد يائسة: "أبي، أمي.. أرجوكم اتركونا من اللوم الآن! انظروا أمامكم.. ماذا سنفعل في هذا الموقف الكارثي؟"
حدق السلف العجوز نحو جيش العدو، وعيناه تضيقان بتركيز قاتل، قبل أن يرد بصوت جليدي حازم: "ليس أمامنا سوى الدفاع المستميت.. وبينما نصد هجومهم، سننتظر الفرصة المناسبة.. وبمجرد أن تلوح، سنننقض جميعاً لقتل سيدهم بسرعة خاطفة."
شد العجوز قبضته على عصاه وأضاف بنبرة تحاول إنكار الواقع: "حتى لو استطاع إيصال صوته لكل القارة.. فلا بد أنها مجرد خدعة صوتية بسيطة لإرهابنا. سنقطع رأس الأفعى، وسينتهي كل شيء."
في أعلى التلة المشرفة على ساحة المعركة، وقف جيمس كتمثال منحوت من الظلام، عباءته ترفرف بعنف مع الرياح العاتية، وعيناه الشاردتان تمسحان جحافل كتائبه في الأسفل. كان غارقاً في أفكاره، أو ربما في جنونه الصامت، هالة من العظمة والوحشة تحيط به وتمنع أي شخص من الاقتراب.
فجأة، اخترق صوت متردد جدار الصمت من خلفه.
"معلمي...؟"
التفت جيمس ببطء. كان هوا، الأمير المنبوذ، يقف هناك، وعيناه تتفحصان وجه معلمه بقلق واضح. لقد تغير جيمس.. لم يعد ذلك الرجل الذي عرفه في البداية، بل أصبح شيئاً أعظم، وأخطر.
ابتسم جيمس، ابتسامة هادئة لكنها تحمل ثقلاً غريباً. "آه، إنه أنت يا هوا.. هل أتقنت التقنية التي منحتك إياها؟"
تحولت ملامح هوا من القلق إلى الجدية والحزم. تقدم خطوة للأمام، وانحنى باحترام عميق. "أجل يا سيدي.. راقب هذا أرجوك."
وضع هوا يده على مقبض سيفه، وأخذ نفساً عميقاً، ثم سحبه بحركة خاطفة وسلسة.
"السيف الإمبراطوري!"
لحظة نطق الكلمات، انفجرت هالة ذهبية عمياء من نصل السيف.
لم تكن مجرد طاقة، بل كانت تجسيداً للسلطة المطلقة. اهتز الهواء المحيط بهم، وتلألأت الطاقة الذهبية لتشكل طيف تنانين صغيرة تحوم حول النصل وتزأر بصمت.
الضغط المنبعث من تلك الضربة كان يحاكي ضغط إمبراطور حقيقي، خانقاً ومهيباً.
راقب جيمس المشهد بعينين لامعتين، واقترب ليربت بيده الثقيلة على رأس تلميذه. "أحسنت يا هوا... أحسنت كثيراً. هذا ما كنت أنتظره منك."
تلاشت الهالة الذهبية، وتلاشى معها قناع الصلابة عن وجه هوا. اهتز جسده، وتجمعت الدموع في عينيه.
طوال حياته في القصر، لم يسمع كلمة مدح واحدة.
والده، الإمبراطور، كان يعتبره وجوداً زائداً، نكرة لا تستحق النظر. لكن هذا الرجل.. عامله كابن، كنز، وكخليفة.
سقطت دمعة حارة على وجنته، وهمس بصوت متهدج: "شكراً.. شكراً لك يا معلمي."
ربت جيمس على رأسه مرة أخرى بحنان أبوي غريب، قبل أن يقاطعهم صوت خطوات عسكرية.
"سيدي!" اقترب حارس من نخبة عائلة روهان، وركع على ركبة واحدة باحترام.
"إمبراطور إمبراطورية مينغ، ورفقته، يطلبون الإذن لمقابلتك."
لوح جيمس بيده بلا مبالاة، وعاد بظهره للحارس لينظر نحو جيشه مرة أخرى، واضعاً يديه خلف ظهره ببرود: "اجلبوهم إلى هنا."
في أسفل التلة، كان وفد إمبراطورية مينغ يصعد الطريق الوعر.
كان الإمبراطور شوان يحاول ضبط ملامحه، لكن الحماس والرهبة كانا يتقاتلان داخله.
"إنسحبت الإمبراطوريات الثلاثة بالكامل.. فقط بسبب كلمة واحدة من هذا الرجل؟ يا إلهي، أي نوع من القوة يملك؟ إنني أتحرق شوقاً لرؤيته." تمتم شوان في نفسه، وابتسامة متوترة ترتسم على وجهه.
بجانبه، سار السلف العجوز يانهوي، وعيناه الحادتان تراقبان كل حركة، وشعر بضغط الهالة القادمة من القمة. التفت بصرامة نحو شوان والأمير الآخر هيون.
"التزموا بالأدب التام يا شوان.." قال يانهوي بصوت منخفض ولكنه حاد كالشفرة. نظر إلى حفيديه بجدية: "شوان، هيون.. انسوا ألقابكم هنا. أمام هذا الرجل، أنتم لستم ملوكاً أو أمراء.. أنتم مجرد ضيوف صغار. هل اتفقنا؟"
ابتع شوان ريقه وقال بسرعة: "كح.. كح.. أجل يا أبي، فهمت."
ردد هيون خلفه بطاعة: "أمرك يا جدي."
وصل الجندي المرافق وأشار بيده نحو القمة:
"أيها الإمبراطور، لقد أذن السيد بلقائكم. اتبعوني."
تسارعت دقات قلوبهم وهم يصعدون الأمتار الأخيرة. وصلوا إلى القمة المنبسطة، وكانت المفاجأة بانتظارهم.
لم يكن جيمس وحده.
كان هناك شاب يجلس باسترخاء على كرسي خشبي بجوار جيمس، يمسح سيفه بقطعة قماش ببرود تام.
تسمر شوان في مكانه، وجحظت عينا هيون.
إنه هوا!
الأمير الثالث.. الأمير الذي هرب من القصر.. الأمير الذي لا يعتبره أي شخص أمير.. الإبن العاق في نظر الجميع.
لم يتحمل شوان المشهد. رؤية ابنه "الفاشل" يجلس بوقاحة في حضرة كيان مرعب مثل جيمس، بينما هو -الإمبراطور- يقف منتظراً، أثارت غضبه القديم.
"هوا!!"
صرخ شوان، ناسياً تحذيرات والده للحظة.
"ماذا تفعل هنا أيها العاق؟ وكيف تجرؤ على الجلوس بهذه الطريقة الوقحة في حضرة السيد؟ ألا تملك ذرة من الاحترام؟ انهض فوراً!"
توقف هوا عن مسح سيفه. رفع رأسه ببطء، ونظر إلى والده. لم تكن نظرة خوف، ولا خضوع، ولا حتى كراهية.. كانت نظرة فراغ بارد، كأنه ينظر إلى غريب.
"هذا ليس من شأنك.. يا سيادة الإمبراطور."
قالها هوا بنبرة هادئة ومستفزة، ثم عاد لمسح سيفه دون أن يكلف نفسه عناء النظر إليهم مجدداً.
ساد صمت مرعب في المكان. شهق الأمير هيون بصدمة، واتسعت عينا السلف يانهوي بذهول.
صرخ هيون مشيراً بإصبعه المرتجف نحو أخيه:
"أهكذا تتحدث مع والدك أيها العاق؟ هل جننت؟!"
_________
عدنا، في فصول بليل كمان اذا شفت تعليقات