الفصل 36: الوداع
"هاهاها! من؟ من ذا الذي يدعي السيادة هنا؟ ههههه.. جوان، هل سمعت ما نطقته تلك الحشرة؟ هاهاها.. أمسكني، أكاد أهوي من فرط الضحك!"
انفجر ليون، قائد كتيبة الأفعى، بضحك هستيري. كان شاباً فائق الجمال يرتدي ثياباً ناصعة البياض، ويمتد على عنقه وشم غامض يتسلق ليغطي نصف وجهه، مما أضفى عليه سحراً وحشياً وهيبة طاغية؛ بدا في تلك اللحظة وكأنه أفعى بشرية ذات جمال مرعب.
"احم.. كح.. اصمت والزم الثبات."
حاول جوان، قائد كتيبة السماء والأرض، زجره بصوت رزين. كان رجلاً في الأربعينيات من عمره، تشع منه هالة من النضج، وتزين وجهه لحية متوسطة الطول مهذبة بعناية، ممتطياً ظهر غريفن أبيض مهيب وموشحاً بالبياض. لكن وقاره لم يصمد طويلاً، فما لبث أن انفجر هو الآخر:
"هاهاهاهاها! لا أستطيع.. أمسكني أنا أيضاً! واااه!" انحنى جوان فوق دابته ممسكاً بطنه وقد تملكه الضحك حتى دمعت عيناه.
"اصمتا وأظهرا بعض الاحترام للسيد، تباً لكما!"
شق الهواء صوت ثالث جاء من الخلف. ظهر ليفان، قائد كتيبة التنين، شاباً في العشرينيات بملامح وسيمة تخفي خلفها هيبة قوية. تجاهل ضحك رفيقيه ووجه نظراته القاتلة مباشرة نحو شوان مكملاً بنبرة جليدية:
"والآن.. من الذي قال إنه سيد هذا المكان؟"
"من أنتما أولاً؟"
دوى صوت رخيم وثقيل، بينما نهض قائد كتيبة الموت ببطء عن عرش العظام، وطقطق رقبته يميناً ويساراً قبل أن يثبت نظره الحاد على ليفان.
"أوه، إنه الجنرال لوسين، صاحب تلك الكتيبة الغامضة. أحييك يا سيدي، أنا ليفان، جنرال كتيبة التنانين."
ما إن وقع بصر ليفان على لوسين حتى ومضت في عقله ذكرى ساحة المعركة؛ جنرال ظهر بلا سابق إنذار، وقوة كتيبته كانت مرعبة لدرجة أن وحوش كتيبة الأفعى كادت تفر هلعاً لولا سيطرة الفرسان عليها بشق الأنفس.
في الجهة الأخرى، كان شوان يحدق في السماء بذهول، عيناه شاخصتان نحو هؤلاء الأباطرة الذين تفوق قوتهم الخيال، وتمتم في سرّه وهو يرتجف: "يا إلهي.. لقد قضي علينا."
اجتاحت فكرة مرعبة عقول الجميع كالصاعقة، جعلت الدماء تتجمد في عروقهم: "هل يعقل أن هوا قد اتخذه هذا الوحش ابناً له؟"
تك.. تك..
ركع الجنرالات الأربعة أمام جيمس باحترام شديد، وهاماتهم منخفضة نحو الأرض، ونطقوا بصوت واحد يملؤه التبجيل: "نحيي جلالته!"
لم يلتفت جيمس إليهم، ولم يمنحهم حتى نظرة خاطفة، بل بقيت عيناه مثبتتين على هوا.
"هوا.. هل تريد الانتقام؟ هل تطمح لأن تصبح إمبراطور هذه البلاد؟ هل تريد أن تذيقهم مرارة فقدان الأحبة؟" قالها جيمس بنبرة هادئة ومخيفة، ثم ابتسم بحزن مصطنع: "أنت تعرف ذلك الألم جيداً.. ألم العجز وأنت ترى من تحب يموت دون أن تفعل شيئاً. أنت تعرفه لأنك عشته يا هوا."
بلمح البصر، انتقل جيمس ليقف بجانب هوا، وهمس في أذنه فحيحاً كالشيطان: "هوا، يجب أن تكون طاغية. اقتل أي شخص كان سبباً في موت أمك. ها هم أمامك يا هوا.. ألم تقل إنك ستقطعهم أشلاء؟ هيا افعلها.. اقتلهم.. ماذا تنتظر؟ أم أنك جبان؟"
صمت للحظة ثم أكمل همسه السام: "ماذا؟ هل روح أمك رخيصة لدرجة أن تسمح لهم بالرحيل؟ اسمع، لن أقتلهم بيدي، لكنني لن أسمح لهم بمس شعرة منك. إذا أردت موتهم، فسأثبتهم لك لتذبحهم."
وقف هوا وسط هذا التشتت، ينقل بصره بين تشون، وهيون، ووالده شوان، ثم السلف يانهوي. فجأة، تبدلت ملامحه إلى برودة مطلقة.
"أنت محق يا معلمي.. يجب قتل أي شخص كان سبباً، حتى لو كان نملة. وإذا كانت نملة هي السبب، فيجب سحقها هي ومستعمرتها بكامل قوتك."
نطق هوا بتلك الكلمات بنبرة جليدية جعلت القشعريرة تسري في أجساد الحاضرين. حتى لوسين، ملك القتلة، نظر إلى هوا بصدمة وتمتم في نفسه: "هذا.. هذا الشاب مريض نفسي." ثم حول نظره إلى جيمس برعب أكبر: "لا.. بل سيده هو المريض الحقيقي والأكثر جنوناً."
"اسحق النملة.. لا، بل اسحق مستعمرتها بكامل قوتك! يا لك من تلميذ نجيب!"
صاح جيمس وهو يقهقه بجنون، وقد لمعت عيناه ببريق وحشي: "هيا ابدأ مجزرتك يا هوا.. هيا أفرغ ما في قلبك من حزن وانتقام من أولئك الذين قتلوا والدتك!"
ثم تعالت ضحكاته الهستيرية لترج أرجاء المكان.
"هوا! أنا أخوك.. يا هوا، ارحم أخاك!"
صرخ هيون بصوت يقطر ذلاً ورعباً؛ فلم يعد قلبه الضعيف يحتمل ضغط هالات الأباطرة الأربعة، وهيبة "جلالته" التي كانت كفيلة بانتزاع الروح من الجسد. لكن قبل أن يكمل توسلاته، رُفع فجأة نحو السماء بقوة خفية، ليُعلق بجانب تشون كذبيحة تنتظر الحكم.
في تلك الأثناء، نطق هوا بنبرة حازمة وهو ينظر إلى معلمه: "معلمي، أطلق سراح جدي يانهوي. لم يكن حاضراً في ذلك الوقت، لذا لا تقحمه في هذا الانتقام.. أريد هؤلاء الثلاثة فقط."
ما إن نطق بتلك الكلمات، حتى تحرك لوسين بسرعة مرعبة تجاوزت حد الإدراك، مقتحماً المكان ليقبض على شوان من عنقه كمن يمسك دجاجة، وجره بعنف ليرميه أمام هوا.
"تفضل أيها الأمير الشاب." قالها لوسين وهو يجبر شوان على الركوع، مثبتاً إياه بقوة لا تقاوم.
بوووم! بووووم!
"حتى لو كان قدري الموت، فلن أموت بهذه الطريقة المهينة! أليس كذلك يا أبي؟"
صرخ شوان مطلقاً العنان لطاقته الكامنة، موجهاً ضربات جنونية نحو لوسين. تفادى الجنرال الهجمات بسلاسة، لتتجاوزه الطاقة وتدمر التلال خلفه محدثة انفجارات مدوية، بينما استغل شوان الفرصة ليطير محلقاً في السماء محاولاً الهرب.
لكن الرد جاء بارداً كالصقيع من الأسفل: "بني، تقبل مصيرك.. أنت من جلبت هذا لنفسك. أما أنا، فقد أتيت فقط لإلقاء التحية على جلالته."
قال السلف يانهوي تلك الكلمات وهو ينظر بحزن مصطنع إلى ابنه المحلق، بينما كانت هالة ذهبية مهيبة تحيط به، معلناً تبرؤه منه للحفاظ على حياته.
تجمد شوان في الهواء، واتسعت عيناه بصدمة لا توصف: "ماذا.. ماذا تقول يا أبي؟! هاهاها.. هل.."
لم يكد يكمل جملته، حتى ظهر لوسين أمامه كشبح الموت.
شقققق!
دوى صوت تمزيق اللحم والعظم، حين اخترقت يدا لوسين كتفي شوان بعنف وحشية، لتخرجا من الجهة الأخرى مضرّجتين بالدماء.
شقققققق!
دوى صوت تمزيق اللحم والعظم بوضوح مرعب، حين اخترقت يدا لوسين كتفي شوان بعنف ووحشية، لتخرجا من الجهة الأخرى مضرّجتين بالدماء الساخنة التي تناثرت كالمطر في الهواء.
"آآآآآآآآآآآآآآآآآآآه!"
انطلقت صرخة شوان المدوية لتهز أرجاء السماء، صرخة حملت كل معاني الألم واليأس، بينما كانت أطرافه تتشنج بعنف وهو معلق في الهواء، محمولاً فقط من خلال يدي لوسين المغروستين داخل لحمه.
طراااااخ!
بحرقة باردة، قام لوسين بليِّ معصميه وهو لا يزال داخل جسد شوان، مما أدى إلى تحطيم عظام الترقوة بالكامل.
"هذا عقاب بسيط لرفع صوتك في حضرة سيدي."
همس لوسين بصوت كفحيح الأفعى في أذن شوان الذي ابيضت عيناه من شدة الألم وكاد يفقد وعيه. ثم، وبحركة خاطفة، سحب لوسين يديه الملطختين بالدماء وركل شوان بقدمه ركلة ساحقة نحو الأرض.
فيوووووووووو...
هوى جسد شوان كشهاب ساقط، مخترقاً طبقات الهواء بسرعة جنونية.
بوووووووووووووم!
ارتطم شوان بالأرض أمام قدمي هوا مباشرة، محدثاً حفرة ضخمة وتصدعات انتشرت كشبكة العنكبوت. تصاعد الغبار الكثيف ليحجب الرؤية للحظات، قبل أن ينقشع مظهراً جسد شوان المحطم، والدماء تنبعث من كتفيه كالنوافير.
"كححح! كح! آغغغ..."
تقيأ شوان دماء سوداء ممزوجة بقطع من أحشائه، وحاول رفع رأسه لينظر إلى ابنه، لكن قواه كانت قد خارت تماماً.
في الأعلى، كان المنظر كفيلاً بتحطيم ما تبقى من عقول تشون وهيون المعلقين.
تششششش!
سُمع صوت غريب قادم من جهة هيون؛ لقد تبول على نفسه من شدة الرعب وهو يرى أباه أقوى شخص في الإمبراطورية يسحق كحشرة، بينما كانت أسنان تشون تصطك ببعضها البعض بصوت مسموع:
طق! طق! طق! طق!
"يا لها من سيمفونية عذبة! هل سمعت صوت تكسر عظامه يا هوا؟ إنه أجمل من أي موسيقى!" قال جيمس وهو يصفق بيديه ببطء واستمتاع، ثم أشار بذقنه نحو الجسد الملقى على الأرض: "إنه لك الآن."
تقدم هوا خطوة واحدة للأمام.
ززززززت...
سمع صوت احتكاك حذاء هوا بالأرضية الحجرية. نظر إلى والده الذي كان يزحف ببطء محاولاً الإمساك بقدم ابنه، ونطق شوان بصوت مبحوح يغرق في الدم:
"هـ.. هوا.. أنا.. والـ..دك.. ار.. ارحم.."
لم يجب هوا بكلمة. انحنى ببطء، والتقط السيف الذي سقط من شوان سابقاً.
تشيييييييينغ!
لمع نصل السيف ببريق بارد حين رفعه هوا عالياً، وانعكست صورة وجه شوان المرعوب على النصل الفضي.
نظر هوا إلى السلف يانهوي الذي كان يغلق عينيه ويدير وجهه للجهة الأخرى كي لا يرى مقتل ابنه، ثم عاد بنظره إلى والده وهمس بكلمة واحدة:
"الوداع."