الفصل 43: سبات الروح الأبدي - نهاية المجلد الأول
قبل ثلاثة أسابيع من تلك اللحظة التي توقف فيها الزمن فوق التلة، كان العالم يشهد فصلاً من الجحيم على الأرض.
اجتاحت جيوش جيمس الجرارة حدود إمبراطورية المياه الزرقاء كطوفان من الغضب الأسود.
لم تكن حربا، بل كانت إبادة.
في غضون أيام، صبغت الأنهار والمحيطات باللون القاني، وتمت تصفية نصف سكان الإمبراطورية.
لقد قتل جيمس بيده وبأمر منه أكثر من عشرة مليارات إنسان.
انتشر الرعب كالوباء في أوصال كل القوى المتواجدة في القارة، رعب لم يسبق له مثيل، جعل الملوك يرتعدون على عروشهم.
لكن أحدا لم يفهم أن هذا الطوفان من الدماء لم يكن مجرد انتقام لزوجاته فحسب، بل كان انتقاما لقلبه، وتكفيرا مشوها عن ذنوب حياة سابقة.
في حياته الماضية، كان جيمس يحب أمه حبا جما، كانت هي كل عالمه.
ولكن عندما ماتت، ماذا فعل ذلك الشاب الضعيف؟
لقد هرب.
فر من واقعه، وذبح نفسه، تاركا خلفه أخته الصغيرة التي لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها، وحيدة بلا وصي، تواجه مصيرها في عالم قاسي.
والأدهى من ذلك، أن ندبة العار ظلت محفورة في روحه.
فهو لم يدفن أمه، لم يخرج جثتها من المستشفى، ولم يمنحها وداعا يليق بها.
لقد اختار الجبن والموت.
لكن في هذه الحياة، عندما تكررت المأساة، رفض أن يهرب.
لم يستطع تحمل الألم، كان يتعذب في كل دقيقة، لكنه قرر أن يكون وحشا بدلا من أن يكون جبانا.
قتل من كان السبب، ولم يكتفِ بذلك، بل أحرق إمبراطورية كاملة من أجلهم، ظنا منه أن الدماء ستطفئ نار الندم في صدره.
بعد أن فرغ جيمس من تحويل إمبراطورية المياه الزرقاء إلى أطلال، وقف ليعلن للعالم نظاما جديدا.
أعلن رسميا ضم أراضي المياه الزرقاء تحت راية "إمبراطورية مينغ"، ونصب الأمير "هوا" إمبراطورا على كل شيء.
كان صوته قانونا،ولم يجرؤ كائن في القارة على الاعتراض.
التزم الجميع الصمت، صمت الخوف والخضوع.
حتى "الأرض المقدسة"، الكيان الذي لم يخضع لأحد من قبل، تحركت بحذر.
خرجت القديسة يونان عن صمتها، وطلبت مقابلة جيمس.
لم تكن نيتها العقاب أو اللوم، بل كانت الرغبة في فهم هذا الكيان الذي غير وجه التاريخ.
أرادت فقط الحديث معه، لكن جيمس، القابع في عزلته فوق التلة، رفض أي لقاء.
كان يرفض العالم بأسره، مفضلا البقاء وحيدا يجتر أحزانه ويموت ببطء من فرط الألم.
لم يكتفِ جيمس بالسيطرة السياسية، بل أعاد تشكيل جغرافية القوة.
اقتطع منطقة الجنوب في إمبراطورية مينغ بالكامل، وجعلها ملكا خاصا لعائلته "روهان".
وبقوة "النظام" التي يمتلكها، اشترى قلاعا محصنة ومدنا جاهزة وزرعها في أراضي الجنوب لتكون حصنا منيعا.
وإستدعى أيضا 5 شيوخ من مستوى قديس، وعشرين إمبراطور. وكلفه كل هذا 20 مليون نقطة.
ولكن، وسط هذا العمران السحري، بقيت مدينة واحدة كما هي.. "مدينة فيلين".
لم يلمسها، لم يرمم جدرانها، ولم يغسل شوارعها.
تركها كما هي، تفوح منها رائحة الدم والموت والحديد الصدئ، لتكون شاهدا أبديا على المأساة، نصبا تذكاريا للجحيم الذي عاشه.
لم يجرؤ أحد على دخولها، وظلت مهجورة، تروي بصمتها قصة الانتقام.
في نظر القارة بأكملها، أصبحت عائلة جيمس أسطورة حية.
انتشر صيتهم كالقوة التي محت إمبراطورية المياه الزرقاء في أيام معدودة.
بدأ ملوك الممالك، وأباطرة الدول العظمى، يتوافدون نحو الجنوب حجاجا يطلبون الرضا والتحالف.
انتعش الجنوب بشكل مذهل، وتحول في غضون أسابيع من أراضٍ تابعة، إلى المركز الأقوى والأكثر ثراء ونفوذا في القارة بأسرها، مستثنيا الأرض المقدسة التي راقبت بصمت بزوغ شمس عصر عائلة روهان، وغروب شمس "جيمس" الذي كان يحترق بصمت فوق تلك التلة البعيدة.
....
سقط الصمت على التلة وكأنه كفن ثقيل، أثقل من الجبال التي تحيط بالمكان.
جثا ليفان على ركبتيه، ذلك الجنرال الذي لم يرتجف سيفه يوما أمام جيوش كاملة، كانت يداه الآن ترتعشان وهو يمسك بكتفي سيده.
كانت برودة غريبة، برودة الموت القارسة، قد بدأت تسري في جسد جيمس بسرعة مرعبة، وكأن الحياة تغادره هاربة.
"لا.. مستحيل.. سيدي! استيقظ!"
صرخ ليفان بصوت مبحوح، وبدأ يضخ طاقته الداخلية بجنون داخل جسد جيمس.
تدفقت الهالة الذهبية من يدي ليفان محاولة إنعاش القلب المتوقف، لكن جسد جيمس كان مثل بئر بلا قاع، يبتلع الطاقة ولا يستجيب.
القلب صامت، والرئتان متوقفتان عن العمل.
تسمر لوسين في مكانه، وعيناه متسعتان بذهول، غير قادر على استيعاب أن "ملك الموت"، الرجل الذي ركع العالم تحت قدميه قبل أيام، قد سقط مهزوما أمام حزنه الخاص.
انهمرت الدموع من عيون جوان وليون بصمت، وكأنهم يشاهدون انهيار السماء فوق رؤوسهم.
وفي خضم هذه الفوضى العاطفية، وبينما كان العالم الخارجي يضج بالنحيب والصدمة، كان هناك عالم آخر يدور في الخفاء.. عالم رقمي داخل عقل جيمس المنهار.
أمام شبكية عين جيمس المغلقة، وفي الظلام الدامس لوعيه المتلاشي، كانت الرسائل الحمراء تومض بسرعة جنونية لم يرها أحد سوى النظام نفسه:
[ تحذير! تحذير! ]
[ انهيار كامل في الوظائف الحيوية للمضيف. ]
[ معدل ضربات القلب: 0. ]
[ نشاط الدماغ: يتلاشى بسرعة 99%... ]
[ السبب: صدمة عاطفية حادة أدت إلى تمزق في مسارات الروح. ]
كان النظام يصارع الزمن.
المضيف يموت، وإذا مات المضيف، سينتهي كل شيء.
بدأ الذكاء الاصطناعي للنظام في إجراء ملايين الحسابات في جزء من الثانية، يبحث عن مخرج، عن ثغرة في قوانين الحياة والموت.
[ محاولة الإنعاش القسري... فشلت. ]
[ محاولة تحفيز الروح... فشلت. الروح ترفض العودة، المضيف فقد إرادة الحياة. ]
لم يتبق سوى خيار واحد.
خيار محرم وخطير، ولم يتم اختباره من قبل، لكنه الفرصة الوحيدة.
[ تفعيل البروتوكول الطارئ: "سبات الروح الأبدي". ]
[ هل أنت متأكد؟ هذا الإجراء قد يمحو ذاكرة المضيف أو يغير شخصيته للأبد. ]
[ تأكيد الأمر. ]
فجأة، انبعث ضوء أزرق خافت جدا، غير مرئي للعين البشرية العادية، غلف قلب جيمس المتوقف ودماغه.
[ جاري تجميد الزمن البيولوجي لجسد المضيف. ]
[ جاري سحب الوعي المتبقي وتخزينه في "البعد المظلم" للنظام. ]
[ تم إغلاق بوابات الروح. الحالة: "ميت حيويا، حي روحيا". ]
[ الوقت المقدر للاستيقاظ: غير معلوم.. قد يستغرق سنة، عشرا، أو ألف سنة. ]
في الخارج، شعر ليفان فجأة بأن جسد سيده قد أصبح صلبا كالصخر وباردا كالجليد في ثانية واحدة.
توقف عن ضخ الطاقة، وأدرك بمرارة أن الأمر قد قضي.
"لقد رحل..." همس ليفان، وصوته ينكسر كزجاج محطم.
"لقد رحل وتركنا."
اقترب لوسين، ووضع يده على كتف ليفان، يحاول أن يتماسك رغم الدموع التي تغرق وجهه:
"يجب أن نأخذه.. لا يمكن أن نتركه هنا للوحوش والرياح. يجب أن يعود إلى عائلته."
ببطء يدمي القلوب، حمل ليفان ولوسين جسد جيمس، وساعدهم ليون وجوان.
رفعوه فوق أكتافهم كما يرفع الأبطال، وبدأوا رحلة النزول من التلة.
هبت الرياح فجأة، تعوي بصوت مخيف وكأن الطبيعة نفسها تعلن الحداد.
تلبدت السماء بالغيوم السوداء، وبدأ المطر يهطل بغزارة، يغسل الدماء عن الأرض، ويختلط بدموع الجنرالات الأربعة.
سار الموكب الجنائزي الصغير بخطوات ثقيلة، يحملون جثة حاكم القارة، سيدهم، وصديقهم.
كانوا يعتقدون أنهم يحملون جثة هامدة، وأن عصر جيمس روهان قد انتهى بمأساة.
لم يعلموا، ولم يشكوا للحظة، أن القلب المتوقف لا يزال يحمل شرارة، وأن الروح لم تغادر، بل اختبأت في سبات عميق.
نزلوا من التلة، وخلفهم أغلق النظام آخر نافذة للوعي:
[ تصبح على خير يا جيمس.. عندما تستيقظ، سيكون العالم مكانا مختلفا، وستكون أنت.. شيئا آخر تماما. ]
وهكذا، أسدل الستار على أسطورة الانتقام، ليبدأ زمن الانتظار الطويل.
تمت بحمد الله - نهاية المجلد الأول.
*****
شكرا لكم من أعماق القلب.. يا من رافقتم "جيمس" خطوة بخطوة، منذ السطور الأولى في الفصل الأول، وحتى هذه اللحظة الحاسمة.
شكرا لكل من تحمل معنا هذا الكم الهائل من المشاعر، الدماء، الانتقام، واللحظات الجنونية.
لقد كنتم الوقود الذي دفعني للاستمرار، وبهذا أعلن رسميا وبكل فخر: انتهاء المجلد الأول من الرواية.
لقد كانت رحلة طويلة وشاقة، وصلنا فيها إلى رقم قياسي وجميل جدا، حيث تجاوز المجلد الأول حاجز الـ 65 ألف كلمة هذا ليس مجرد رقم، بل هو ساعات من الكتابة والتفكير، وآلاف المشاعر التي شاركناها سويا.
الآن، سنأخذ استراحة محارب قصيرة، لنشحذ الأقلام ونرتب الأفكار، لنعود إليكم في المجلد الثاني ونحن أقوى وأكثر استعدادا لتفجير عقولكم بأحداث لم تخطر على بال أحد.
أعلم أن النهاية تركت في عقولكم آلاف الأسئلة، وربما هناك أمور غامضة لم تتضح للبعض.
لذا، أنا لن أختفي انا موجود معكم دائما.
أي شخص لم يفهم نقطة معينة، أو لديه استفسار حول الحبكة، أو حتى يريد مناقشة نظرياته حول مصير جيمس، فأنا موجود لخدمتكم على سيرفر الديسكورد.
لا تترددوا أبدا، سأكون سعيدا جدا بالحديث معكم والإجابة على كل شاردة وواردة.
وإذا لم يكن لديك ديسكورد، اترك سؤالك هنا في التعليقات، وسأقوم بالرد عليك بإذن الله.
رابط الديسكورد ستجدونه في التعليقات بالأسفل.
إلى اللقاء يا أصدقاء.. استعدوا، فالقادم أعظم.
المؤلف منصف الوردي.